صاحب القبعة الرماديّة

15/11/2018
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم الحاجة سلوى أحمد عمرو

في قرية نائية من منطقة المنيطرة في جبل لبنان أبصرت النور من أبوين من أبناء تلك القرية الجميلة، كان والدي صاحبُ خبرةٍ وقوةٍ ونشاط ومن أهل البرِّ والإحسان يعمل في بناء بيوت القرية والقرى المجاورة، وأمّا والدتي فكانت صاحبة شأن بين نساء القرية في معرفتها وتقواها وإحسانها للنّاس وكانت تسهر على راحة زوجها وأولادها وتهتمُّ بالبستان المحيط بالمنزل وبأشجاره وبزراعة الخضروات. وكان عميد السن في قريتي والقرى المجاورة صاحب القبعة الرماديّة الذي تجاوز المائة عام بقليل موضع إحترام وتقدير والدي وأبناء القرى المجاورة من مسلمين ومسيحيين لخبرته ومعرفته ولمحافظته على الواجبات الدينيّة.

وكان والداي يذهبان بي لزيارته وزيارة زوجته العجوز حيث كنت أحظى منهما بالعطف والحنان وضيافة الزبيب والتين المجفف والجوز واللوز والسكريات، وكان صاحب القبعة الرمادية يضع يده اليمنى على رأسي ويقرأ لي آيات من القرآن الكريم للحفظ والدعاء. وكذلك كان أهالي قريتي من مُسلمين ومسيحيين يأتون بأطفالهم إليه طالبين منه مباركتهم وقراءة القرآن الكريم وكذلك بتلامذة القرية والدعاء لهم.

كان جلوس صاحب القبعة الرماديّة الدائم قرب مسجد القرية القديم، تحت السنديانة العتيقة التي تحكي تاريخ أجيال وروايات معلمي القرآن الكريم واللغة العربيّة وتلامذتهم الّذين إتخذوا من ظلالها مدرسة وملعباً في النهار. وموعداً لشيوخ القرية وعجائزها للسمر وللسهر في الليل ولشرب الشاي والقهوة في الليالي المُقمرة التي يُشرف بها القمر على قريتنا ويكون بها بدراً يضيء بنوره هضاب القرية ووديانها. حيث كان صاحب القبعة الرمادية وزوجه العجوز هما صاحبا الضيافة وكذلك كان صاحب الكلمة الأخيرة عند الإستشارة حول العادات والتقاليد وتاريخ العائلة والعائلات الأخرى التي تمتُّ إلينا بصلة الرحم أو الجوار.

كما كان أيضاً مرجع الأهالي في معرفة العادات والتقاليد والتمسك بها في قضايا الخطوبة والزواج وتربية الأولاد، وفي الخلاف والطلاق، وفي الوفيات والتعزية والحداد ونحوها من عادات جميلة ومنها بعض القضايا الطبيّة الأخرى التي ما زالت عالقةً في ذاكرتي حيث حصل ذات مرة شك عند جدتي بصلاحية لحم الخروف بسبب فقدان التيار الكهربائي في القرية فذهبت لإستشارة صاحب القبعة الرماديّة فأمرها أن تُطعمَ الهرة منها فإن أكلت منها فهي صالحة للطعام وإن لم تأكل فتكون فاسدة،«وكأنّ قطة جدتي الشقراء كانت تعمل عمل المختبر الطبيّ عند الحاجة». كما كان الأهالي يستشيرونه في قضايا الحُجامة وفي المعالجة بواسطة الأعشاب الطبيّة. ويستفتونه في تربية الحجلان وتدريبها على الصيد حتى يصطادوا بها الحجلان البريّة الأخرى. وغيرها من قضايا كثيرة فقدنا المعرفة بها وأصبحت في عالم من الإهمال والنسيان بُعيد وفاته (ص)...