مكوّنات التلقيّ الأدبيّ-الحلقة الخامسة

26/09/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم البروفيسور عاطف حميد عوّاد

القارئ الضمني

يعود هذا المصطلح إلى فولفجانج إيزر الذي تعرَّض لـه في موضعين من كتاباته، «القارئ الضمني» و «فعل القراءة»، ويعرِّفه إيزر بالقول: «إنَّ المصطلح (القارئ الضمني) يدمجُ كلاً من عملية تشييد النص للمعنى المحتمل، وتحقيق هذا المعنى المحتمل من خلال عملية القراءة «(1).

إنَّ القارئ الضمني ليس إلاّ ذلك القارئ الاحتمالي أو المحتمل الذي يمكن أن يواجه النص ويهمُّ بقراءته ومن هنا فإنَّ «القارئ المتورط Impliqué هو الفكرة المتكوِّنة في ذهن الكاتب عن القارئ المحتمل، لهذا لا يمكن للكاتب أن يتوجه خطياً إلى قارئٍ حقيقيٍّ بل إلى قارئٍ محتمل»(2) ويبدو أنَّ فولفجانج إيزر ينحازُ إلى مفهوم القارئ الضمني في مواجهة مفهومات القارىء الأخرى، بل إن الباحث الألماني يساوي بين القارئ الضمني والقارئ الحقيقي: «والقارئ الحقيقي أيّاً كان نوعه دائماً ما يُمنحُ دوراً معيناً لكي يلعبه، وهذا الدور هو الذي يُشكِّلُ مفهوم القارئ الضمني»(3) وإذا فسَّرنا كلام إيزر نجد أنَّ القارئ الضمني هو نواة القارئ الحقيقي أو الصورة التي يتوقعها المؤلِّف إذا ما قُرِئ كتابَهُ / نصَّهُ، فالتجسيد الحقيقي للقارئ الضمني هو القارئ الحقيقي أو من المفترض أنه سـيقرأ العمل الأدبي «فالرسالة لا تتوجَّه إلى مرسَل إليه حقيقي ومحدّد إلاّ على افتراض أنَّ هذا سيقرأها»(4)، ويفسِّر لنا إيزر طبيعة القارئ الضمني بالقول:«ولهذا المفهوم جانبان أساسيان متداخلان: دور القارئ بوصفه بنية نصية، ودور القارئ بأن يكوِّن صورةً عن معنى النص، هذه الصورة تندمج مع رصيد القارئ، فتتحول إلى خبرة بالنَّص والعالم، ومن هنا يسمح «مفهوم القارئ الضمني أداةً لوصف العملية التي تتحول بها البنى النصية إلى تجارب شخصية من خلال بعض الأنشطة التخيلية» (5).

2ـ القارئ الحقيقي

إذا كان القارئ الضمني أو المضمر هو بنية نصية مضمرة في النَّص تُسهِّل عمليات التأويل والتفسير، فإنَّ القارئ الحقيقي ليس إلاّ القارئ المضمر وقد أصبح واقعاً فعلياً، فـ «القارئ الحقيقي Réel هو الذي يقرأ الكتاب فعلاً»(6)، وبمعنى آخر، إن مكان القارئ الحقيقي لا يكمن في النَّص وإنما خارجه(7)، فهو «الشخص الذي يشتري النَّص ويقرأه، ومع هذا القارئ يصبح الإنسان الحقيقي مجالاً جديداً للنقد الأدبي وهكذا تبدأ حدود النص وبنيته بالانهيار إذ يخرج النص والنقد معاً إلى فضاء الثقافة عامة: الفكر والتاريخ والمجتمع والأنثربولوجيا وعلم النفس وغيرها»(8)، وأعتقد أنَّ القارئ الحقيقي هو المحكُّ الحقيقي الذي به ومن خلاله ينهض النص من سباته، ويتحوَّل إلى خبرة لدى القارئ، فالقارئ الحقيقي هو الذي يتولى تفكيك أسرار اللعبة النصية، ويكشف عن مقصديات النص وأصواته والرؤى التي يتضمنها، وتتيح مجموعة القراء الحقيقيين للعمل الأدبي الكشف عن مسار تلقي النص عَبْرَ الزمن، والانعطافات التي تصيب هذا المسار من حيث نوعية القراءات وكميتها، وما تتضمن هذه القراءات من ردود أفعال متنوعة ومختلفة في المسار التاريخي لتلقي النص، يقول إيزر: «فمهما كان العصر الذي ينتمي (القراء) إليه، فإنَّ حكمهم على العمل المشار إليه يظلُّ يكشفُ عن معاييرهم الخاصة، وبالتالي فهو يقدِّمُ دليلاً ملموساً على المعايير والأذواق التي سادت مجتمعاتهم»(9)، إنَّ القارئ الحقيقي وبإيجاز هو الذي يخلقُ النَّصَّ ويمنحه المعنى بعد أن كان رهين المؤلِّف والنَّص سابقاً.

3ـ القارئ المثالي

يتحدَّث النقد ما بعد الحداثي عن مستوى ثالث من القراء وهو مستوى القارئ المثالي و«لقارئ المثالي Idéal هو ذاك الذي بوسعه أنْ يفيد من كُلِّ إمكانات النّص ويعرف خلفياته وأبعاده»(10)، وهو بهذه الصيغة يمكن أن نطلق عليه «القارئ المستحيل» القادر على إخضاع النص واستيعاب معناه ودلالاته على نحوٍ فائقٍ، ومن هنا يمكن القول باستحالته، فتاريخ التلقي لا يرينا أنَّ ثمة نصاً قد سلّم نفسه بأسراره وقوانينه لقارئ يمتلك عصاً سحرية في فهم النص والسيطرة عليه، ولهذا يقول إيزر بخصوص هذا المستوى من القراء: «وعلى النقيض تماماً من القارئ المعاصر يقفُ القارئ المثالي الذي يستشهد به دائماً، ومن الصعب أن نشير بدقةٍ إلى المصدر الذي يستقى منه، ولو كان هناك الكثير مما يقال عن الادّعاء بأنَّهُ من نتاج عقل الباحث اللغوي أو الناقد نفسه» (11)، ومن هنا يكتسب هذا المستوى صفته المثالية/الخيالية، فالقارئ المثالي عدو التاريخية والنسبية، فهو كائن متعالٍ، ميتافيزيقي يمتلك قدرات تأويلية فائقة، وهذا ما يستحيل التسليم به، يقول إيزر: «....ومع أنَّ حكم الناقد قد تقوِّمه وتنقيه النصوص التي يتعامل معها إلاّ أنَّهُ يظل مجرد قارئ مثقف، لأن القارئ المثالي يعتبر استحالة بنيوية من ناحية التواصل الأدبي» (12).

إنَّ القول بالقارئ المثالي، من شأنه أن يقوِّض الحاجة إلى التواصل بين المرسِل (الكاتب) والمرسَل إليه (القارئ)، فما دام القارئ يدرك إدراكاً تاماً ما في النَّص، فإنه بالضرورة يدرك ما يختلج في ذهن المؤلف ذاته «ولو أمكنَ ذلك لكان التواصل أمراً لا ضرورة لـه، فالمرء لا ينقل إلاّ ما لا يشاركُ المرسِل والمتلقي بالفعل(13)، ولو افترضنا أنَّ المؤلِّف هو القارئ المثالي الوحيد لنصوصه، فهذا يتناقض مع نظرية التناص التي تثبتُ زوغان اللغة عن السيطرة الكاملة للمؤلّف، فهو يتحول مع نصوصه إلى قارئ حقيقي ليس إلاّ أو في أحسن الأحوال إلى قارئ مضمر، ومن هنا نفهم هجوم إيزر على القارئ المثالي الذي قال به ستانلي فيش: «فهناك معانٍ مختلفة تظهر للنص الواحد في عصور مختلفة، والنَّص نفسه إذا قُرِئَ مرةً أخرى يترك تأثيراً يختلف عن تأثيره في المرة الأولى، إذن فلا بُدَّ للقارئ المثالي أن يدرك المعنى الكامن للنص بمعزلٍ عن موقفه التاريخي، بل أن يفعل ذلك مرات ومرات، والنتيجة استهلاك تام للنَّصِّ، وهو ما يُعَدُّ في حدِّ ذاته مدمِّراً للأدب»(14).

إنَّ تاريخ القراءة يكشف عن كذبة القارئ المثالي، فما دام القارئ كائناً تاريخياً ومثله النص، فإنَّ البحث عن ميتافيزيقية للمعنى ضربٌ من المستحيل استحالة القارئ المثالي، وفضلاً عن هذه المستويات الثلاثة، يتحدَّث النقد ما بعد الحداثي كما يذكر فولفجانج إيزر عن مستويات أخرى من القراء(15)، فالناقد الفرنسي ميشيل ريفاتير يتحدَّث عن «القارئ الفذ» وستانلي فيش يصوغ مصطلح «القارئ المطلع» وغيرهما يتحدث عن «القارئ المقصود» ....إلخ. وتعكس هذه المفهومات الصخب الذي يدور في النقد ، ما بعد الحداثي، وذلك للوصول إلى توصيف مقنعٍ للقارئ الذي يهمُّ بقراءته وتأويله أو تفكيكه.

 

الهوامش:

فولفجانج إيزر: فعل القراءة (نظرية في الاستجابة الجمالية). ص 28

لطيف زيتوني: معجم مصطلحات نقد الرواية. ص 131، 132.

فولفجانج إيزر: فعل القراءة (نظرية في الاستجابة الجمالية). ص 40

لطيف زيتوني: معجم مصطلحات نقد الرواية. ص 132.

فولفجانج إيزر: فعل القراءة (نظرية في الاستجابة الجمالية). ص 40

م.ن.ص 43.

لطيف زيتوني: معجم مصطلحات نقد الرواية. ص 132.

ميجان الرويلي وسعد البازعي: دليل الناقد الأدبي. ص 284.

فولفجانج إيزر: فعل القراءة (نظرية في الاستجابة الجمالية) ص 34

لطيف زيتوني: معجم مصطلحات نقد الرواية. ص 132.

فولفجانج إيزر: فعل القراءة (نظرية في الاستجابة الجمالية) ص 34

م .ن. ص34

نفس المصدر السابق، ص 34، 35.

نفس المصدر السابق، ص. 35.

فولفجانج إيزر: فعل القراءة (نظرية في الاستجابة الجمالية) ص 36.