الطريق إلى مكّة

3/11/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

الدكتور الشيخ أحمد محمد قيس

قال الله عزّ وجل:

 

} إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ  فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ{

 سورة آل عمران، آية: 96ـ97.

 

يجمع المفسرون على أنّ أوّل بيت أو مكان جُعِل للنّاس ليكون متعبداً لله لهم فيه هو البيت الحرام الذي  بمكة، أما وجه تسميتها ببكة كما جاء في الآية المذكورة فينقل الفيض الكاشانيّ رواية عن الإمام الصادق(ع)، تمَّ ذكرها في علل الشرائع مفادها:» إنما سميت مكّة ببكة لأنّ النّاس يباكون فيها يعني يزدحمون»(1).

وفي كتاب الخصال عن الإمام الصادق(ع):» أسماء مكّة خمسة: أم القرى، ومكّة، وبكّة، والبسّاسة ـ أي ـ إذا ظلموا بها بسّتهم أي أخرجتهم وأهلكتهم، وأمَ رُحِم ـ أي ـ كانوا إذا لزموها رُحموا»(2).

وفي كتاب الكافيّ، والعياشيّ: عن الإمام الصادق(ع)، أنّه سئل ما هذه الآيات البيّنات؟ قال: مقام إبراهيم حيث قام على الحجر فأثرّت فيه قدماه، والحجر الأسود، ومنزل إسماعيل(ع)»(3).

وأمّا حول قوله تعالى: }وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا...{ فقد ورد عن الإمام الباقر(ع): «أن من دخله عارفاً بجميع ما أوجبه الله عليه كان آمناً في الآخرة من العذاب الدائم»(4).

وفي كتاب الكافيّ، والعياشيّ، عن الإمام الصادق(ع)، أنّه قال:«من دخل الحرم من النّاس مُستجيراً به فهو آمن من سخط الله، ومن دخله من الوحش والطير كان آمناً أن يُهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم»(5).

ويعلّق العلاّمة الطباطبائيّ في تفسيره حول هذه القضيّة أنّه جاء نتيجة لدعاء إبراهيم الخليل(ع)، حيث قال: «ربّ إجعل هذا بلداً آمناً»(6). حيث أنّه(ع)، سأل الأمن لبلد مكّة فأجابه الله بتشريع الأمن وسوق النّاس قلبياً إلى قبول ذلك زماناً بعد زمان»(7).

وفي الكافيّ عن الإمام الصادق(ع)، في قوله تعالى:}وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ{، يعني به الحج والعمرة جميعاً لأنهما مفروضان (8).

 

وكان من جملة ما أوصى به الإمام عليّ(ع)، عند وفاته: «الله الله في بيت ربّكم فلا يخلو منكم ما بقيتم، فإنّه إن تُرك لم تناظروا»(9).

وعن الإمام الصادق(ع):» عليكم بحج البيت فأدمنوه، فإنّ في إدمانكم الحجّ دفع مكاره الدُنيا عنكم، وأهوال يوم القيامةّ»(10).

أمّا حول قوله تعالى: }مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً{، فهي من المسائل التي استفاض في شرحها الفقهاء، ويعبّر عنها باللغة الفقهيّة بالعودة إلى الكفاية، أي يكون مستطيعاً جسدياً وأمنياً ومالياً ولهذه العبارات تفاصيل كثيرة لا يمكن شرحها في هذه العجالة.

عن الإمام الكاظم(ع)، وقد سأله أخوه علي: «من لم يحج منّا فقد كفر؟ فقال (ع): لا ولكن من قال: ليس هذا هكذا فقد كفر»(11).أي من لم يعتقد فرضه أو لم يبال بتركه فإنّ عدم المبالاة يرجع إلى عدم الإعتقاد بفريضة فرضها المولى عزّ وجلّ وهذا كفر.

وهناك معنى آخر للكفر يمكن إستفادته من الآية الكريمة وهو بمعنى»كفر النعم»، لأنّ إمتثال أمر الله شكر لنعمته وترك المأمور به كفر بنعمته.

وعن الإمام الحسين(ع):» حجّوا واعتمروا، تصح أجسامكم، وتتسع أرزاقكم، ويصلح إيمانكم، وتكفّوا مؤنة النّاس ومؤنة عيالاتكم»(12).

وعن الإمام الحسين(ع)، أيضاً:» حق الحجّ أن تعلم أنه وفادة إلى ربّك، وفرار إليه من ذنوبك، وبه قبول توبتك، وقضاء الفرض الذي أوجبه الله عليك»(13).

أمّا بخصوص مناسك وأعمال الحج وهي كثيرة، فيمكن الرجوع بذلك إلى الكتب الخاصة بالمناسك المعدّة لهذا الشأن، إلاّ أنّه يُفضّل للحاج أن يتعرف على الأبعاد الروحيّة والآداب المعنويّة للحج بحسب ما نقل عن الإمام الصادق(ع)، حيث قال: «إذا أردت الحج فجرّد قلبك لله من قبل عزمك عن كل شاغل، وحجاب كل حاجب، وفوّض أمورك كلها إلى خالقك، وتوكل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره، وودّع الدُنيا والراحة والخلق، وأخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين ولا تعتمد على زادك وراحتك وأصحابك وقوّتك وشبابك وذلك، مخافة أن يصير ذلك عدواً ووبالاً.

... واستعدّ إستعداد من لا يرجو الرجوع، وأحسن الصحبة، وراع أوقات فرائض الله وسنن نبيّهP، وما يجب عليك من الأدب والإحتمال والصبر والشكر والشفقة والسخاء وإيثار الزاد على دوام الأوقات.

ثمّ إغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصّدق والصفاء والخضوع والخشوع.

وأحرم عن كل شيء يمنعك عن ذكر الله، ويحجبك عن طاعته.

ولبِّ بمعنى إجابة صافية خالصة زاكيّة لله عزّ وجل في دعوتك متمسكاً بالعروة الوثقى.

وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت.

وهرول هرباً من هواك وتبرّياً من جميع حولك وقوّتك.

وأخرج من غفلتك وزلاتك بخروجك إلى منى ولا تتمنَّ ما لا يَحِلُّ لك ولا تستحقه.

واعترف بالخطايا بعرفات، وجدد عهدك عند الله بوحدانيته.

وتقرّب إلى الله واتقه بمزدلفة.

واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك إلى الجبل.

واذبح حنجرة الهواء ـ الهوى ـ والطمّع عند الذبيحة.

وارم الشهوات والخساسة والدناءة والأفعال الذميمة عند رمي الجمرات.

واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك.

وادخل في أمان الله وكنفه وستره وكلاءته من متابعة مرادك بدخولك الحرم.

وزر البيت متحققاً لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه.

واستلم الحجر رضاءً بقسمته وخضوعاً لعزّته.

وودّع ما سواه بطواف الوداع.

واصفِ روحك وسرّك للقاء الله يوم تلقاه بوقوفك على الصفا.

وكن ذا مروّة من الله نقياً أوصافك عند المروة.

واستقم على شَرط حِجتك ووفاءِ عهدك الذي عاهدت به مع ربّك وأوجبت له إلى يوم القيامة»(14).

وفي الختام نسأل الله عزّ وجل أن يوفقنا مُجدداً وابداً ما أبقانا لحجّ بيته وزيارة قبر نبيّه(ص).

والحمد لله ربّ العالمين.