قصة قصيرة: هو الفلاّح

12/4/2020
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

                                               بقلم الأستاذ هيثم عفيف الغداف

تدور هذه القصة في قرية جبليّة تنعم بالسكون والطمأنينة، أهلها قرويون بإمتياز، يرتزقون من محاصيل زرعهم وكدِّ يمينهم وعرق جبينهم، حيث يجمعون القمح وسائر الغلال في الصيف وأوائل الخريف على البيدر بانتظار بيع هذه الغلال والإستعداد للشتاء حيث يجتمعون حول المدفأة طوال هذا الفصل، بأمن وأمان وراحة بال.

البلدة جميلة بتضاريس جبالها وبنسيمها العليل في الصيف، يتوسطها نهرٌ صغيرٌ وجسرٌ قديمٌ، شتاؤها قارس ومثلج، الجميع في البلدة يحيا بسلام واطمئنان.

... عقب وفاة والده وبعد مدّة اقترنت والدته برجل غني ميسور الحال وارتحلت معه إلى بلاد صارت تعرف في ما بعد ببلاد النكبة.

بقي هو مع شقيقته، التي تكبره بسنوات، غريبين وسط البلدة، لم يخطر بباله أنّه سيصارع الحياة بفطرته لأجل الحياة، في الشتاء كان يلجأ هذا الفتى مع شقيقته إلى القبو يتناوبان في الليل على إشعال نار الموقد وقرع الباب بالعصا خشيّةً من الذئاب.

شبَّ الفتى على هذه الحياة حيث تمتع بصحة جيدة وَبُنية قويّة، وعرف عنه بأسه وتميَّز بضرباته القويّة، ولا زالت تلك أيامه إلى أن حطّت فرقة عسكرية في القريّة تجمع الشباب للجبهة الشرقيّة استعداداً للحرب. حيث انتابه شعور بالفخر لرؤيّة العسكر أمامه فسارع إليهم قائلاً: أنا صاحب الدار وليس من أحد سوانا، تفضلوا أهلاً بالثوار!!

نطقها بصوت جهوريّ، ولم يتدارك ذلك إلاّ بعد فوات الأوان حين انتبه للإشارة الأجنبيّة على كتف الرجل الناطق باللغة العربيّة، حيث قال له: أنت مطلوب لجيش الإحتلال.

استمهل الضابط قليلاً ريثما يوضّب أشياءه، فبينما هو يبحث على عجلة من أمره ، أدرك أنه لا يملك سوى ثوبه ومعول ومنجل، فهو الذي يمشي حافي القدمين، لباسه من الخيش، هدية من ناسك مرّ في ما مضى على الدرب وأخبره عن حكاية بيروت. رجع إلى الضابط وفي يده حفنة من التراب مُبللة بعرقه وهمّ بالركوب معه فسأله عن أغراضه، فما كان منه إلا أن أشار إلى يده وبعث بالتراب جانباً وقال: لا حاجة لي في شيء ما دمت سأرحل عن هذه البلاد.

على الطريق، التفت إلى بقية الشباب وبدت على وجوههم علامات التعجب، كانوا ستة. عقد حاجبيه ونظر إليهم فرداً فرداً بتمعن ثمّ استدار موّدعاً قريته. ولم يزل صامتاً غاضباً حتى وصلت القافلة إلى مكان غريب. كل ما حوله يبعث على العجب والاستغراب، عربات تسير بلا خيول وأخرى على رأسها صواعق تسيّرها، والفلك تجري في البحر من خلفه. استوقفه المشهد قليلاً، وراح يفكر في كلام الناسك. يا ترى، أهذه هي بيروت التي حدثني عنها!!. وما أدري إن أنا إلا في حُلم عميق، سأنتظر ريثما أسمع صياح الديك وأستفيق من هذا كله، فعندي من العمل اليسير ولا بد أن أنجزه اليوم قبل المغيب.