قصة قصيرة: أبو شابّو

12/4/2020
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

                                                للأستاذ هيثم عفيف الغدّاف

كانت الفرحة تغمرنا كلّما انحنت السيارة يمنة ويسرة على طرقات الجبل، فيتلقى أحدنا الآخر بصراخ وضحك في الآن معاً. كان أبي يلتفت الى الوراء تاركاً أنظاره عن المقود ليلزمنا الصمت والهدوء متوعّداً بالعودة، قبل أن تباغته صافرة انذار من السيارة المقابلة لينعطف فُجائياً باتجاه معاكس، وبعد سلامة حركته وازدياد ضحكنا على مشهدية كانت لتودي بنا، إلى الهلاك كان أبي يحسم الأمر بنظرة، فننسحب حينها بصمت كلٌ الى مقعده متكتفين منضبطين كما لو كنا على متن طائرة تهمّ بالاقلاع.

تلك النظرة عادت بنا ذات مرّة أدراجنا الى المنزل، هناك عند السواحل المشرقية للأبيض المتوسط، على التل الشامخ، قبالة السكة الحديدية المُعمّرة، حيث شاهدنا قطار الشحن يعبر في أوائل التسعينيات، آخر رحلاته من شكا، شمال لبنان، الى مرفأ العاصمة، بيروت. ويسترسل أبي في إخبارنا عن شقاوتهم في الصغر مع القطار، و كيف كان أبو شابّو يرمي الأحجار في الوسط بين سكتي الحديد لمحاولة إيقافه التي لم تكلل بالنجاح أبداً. أبو شابّو صديق الطفولة وزميل المقاعد الدراسية في مدرسة الضيعة القديمة، اعتاد على الظهور بالقبعة الانكليزية وما زال على عادته.

بين الشرفة الغربية والسكة الحديدية، تمتد بساتين الموز والحمضيات حتى تلامس البرزخ الفاصل بين النهر والبحر، المنظر جميل لا جديد فيه الاّ تقلبات المناخ بين الفصول، مريح للنظر من خلف زجاج نافذة المطبخ في صحو الشتاء، لكنه مخيف عند وميض البرق وصوت الرعد في الآفاق.

لم نكن لنصبر حتى ننطلق مع الوالد إلى النزهة البرّية في الجبل، بين السنديان والصنوبر وورق الغار وأشجار الصبّار، حيث تعزف الماعز بحوافرها على أوتار الصخر، دندنات أجراسها بنوتات حرّة، أوزانها مشرقية. وما بعد ذلك من يرقات الأشجار وأعشاب الصعتر البريّة والأروع من ذلك كان المذياع الوحيد لدينا بسلكه المنعقد في ذيل الدابة التي تسير خلف القطيع، كلما مشت، تناقلت الاذاعات بين تشوش وأخبار متقطعة، عجيب كيف يُستمع لها.

أبو شابّو متحدّث لبق وخبير في علم اللاسلكي، انتفت الحاجة الى عمله اليوم، فتقاعد واتخذ من الضيعة محراباً له. يبحر تحت قُبعته بين الساحة وبيت المُختار، فهم أصدقاء منذ الطفولة، يتسامرون في ليالي الشتاء قرب المدفأة، وان حضرنا لهم مجلساً، كانت له حكايات طويلة مع الزمن والقرية وتلك الأيام الجميلة، أيام الحصاد عند البيدر.

كان لا بد من استراحة قصيرة ريثما تنتهي النزهة، فتوقفنا عند المنحدر، في درب ذات الشوكة، عند العلامة الفارقة قرب صخرة شاهقة يخترقها ممر ضيّق يسمى دعسة البغل، اسم مُضحك وغريب لا بدّ وأن يُحفر بالذاكرة، ربما لذلك السبب سُمي كذلك.

عند تلك الدعسة تشعر ان الزمن توقف للحظات بدت وكأنها طويلة، هبتّ نسمة وقذفت بالشابّو بعيداً. خيّل الينا للحظات أن أبو شابّو أسطورة كما في تلك الحكايات عن كلارك وسوبر مان أو غيرهما من الأبطال الّذين اذا ما تغير لباسها اختفت حقيقة وجودهم، فبادرت لأنبهه عن الشابّو لكن عقدة لساني قد ربطت ودار بينه وبين عقلي جدل عن أبو شابّو؟. فمن هو الآن اذا فقد الشابّو؟ ما اسمه؟ أخاطبه بـ عمّو أو ماذا؟ ارتبكت وسرعان ما تنفست الصعداء اذ التقط  أبو شابّو الشابّو وأعاده إلى مكانه فوق رأسه، مُنهياً بذلك متاهة جدليّة بين عقلي ولسانيّ ما كنت لأعود منها الا مشوّشاً.

بعدها أكملنا المسير صعوداً الى البئر الخاويّة عند سهل التفاح المترامي وراء الجبل. هناك أشعلنا النار، بالعيدان الصغيرة التي جمعناها من أغصان السنديان اليابس، وجلسنا قرب النار، على السطح الترابي، لبيت جديّ العتيق نتطلع بشابّو أبو شابّو الذي أكسبه الكنية وأضاع علينا الإسم...

جبيل في 12 كانون الأول 2019