هل يكون لبنان سويسرا الشرق وقضايا أخرى هذا الرجل العظيم: بإيمانِه وفِكْرِه وَمَناَقِبِه

12/4/2020
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

 

                                                 بقلم الأستاذ يوسف حيدر أحمد

أُعجب الاثينيون بالفيلسوف الفينيقي الكبير زينون (333 ـ 262 ق.م). فكرَّمُوهُ حَياًّ، بتقديمهم له تاجاً من ذهب، وكَرَّمُوهُ مَيْتاً، بإقامة تمثالٍ له من البرونز، وحَفرُوا على قبره العبارة التالية: أما كفاك فخراً أنَّ فينيقيه موطنك، ألم تُنجِب فينيقيه قدموس الذي جاء بلاد الأغريق وعَلمَّ الحرف؟  ().

وقدموس، هذا العالِم العظيم، هو الذي أبحر من ميناء جبيل التاريخي، لينشر حرف الأبجدية في العالم.

ومن جبيل هذه المدينة الخالدة ، مدينة الحرف والعبادة، والتاريخ، والحضارة، والتراث التليد، أطلَّ علينا العالم الدكتور يوسف عَمرو، بمجلته الغرَّاء إطلالة جبيلية، التي امتد عهدها الزمني عشر سنوات ( ايلول 2010 لغاية تشرين الأول 2019 ). لينير لنا بأنواره الابتسمولوجية الكاشفة على ماضي جبيل المجيد، وحاضرها المأزوم. واستشراف مستقبلها، مُعَبِّراً عن غائيته من إصدار هذه المجلَّة بقوله: كانت هذه الاطلالة، وسيلة من وسائل المعرفة، حتى يَعرف المواطن اللبناني فضل مدينة جبيل، وتاريخها، وحاضرها الثقافي، ويَطَّلع المواطن على عطاء إخوانه في الماضي والحاضر ().

ومن بعض افتتاحيات هذه المجلة، التي تحَّدث فيها عن عظمة جبيل، دّبَّج الدكتور عَمرو كتاباً بعنوان هل يكون لبنان سويسرا الشرق؟ وقضايا أخرى، وفي هذا الكتاب القيمَّ، أراد الدكتور عَمرو أن يُتحفنا بما حفلت به جبيل ماضياً وحاضراً من مآثر وإبداعات غَطت مساحات هذه المدينة، ويقول في ذلك: لو أردنا النظر الى ما قدّمته مدينة جبيل من عطاء دينيّ، وثقافيّ، وأدبيّ، وفنيّ، وإجتماعيّ، وسياسيّ، وتربيّة وطنيّة، ومحبّة للوطن، وللُّغة العربيّة وللقوميّة العربيّة، ولقضيّة فلسطين، ولتحرير الجنوب، لوجدنا أن عطاء جبيل عطاءٌ مُبَارك، ويجب أن يُحفظ، ويُسجَّل بأحرف من نور في سجلاَّت الوطن () .

لكن هذا العطاء العظيم، لم يُقاَبل بالتقدير والتكريم والاهتمام من قِبَل مسؤولي الدولة، إنما كان الامرُ عكس ذلك، فهذه المدينة الخالدة، منذ عهد الاستقلال (1943) وحتى تاريخه، لم تعرفْ من الدولة إلاَّ التهميش والحرمان، وكأنها جزيرة منسية، رُغم أنها تحفل بجميع الاختصاصات المهنية. وتزخر برجالات الفِكر والعِلم والفن والأدب والسياسة .

وكان الدكتور عمرو، ينظرُ إلى هذا الوضع التعيس البائس بعين الحزن والأسى، ويطالب المسؤولين، وبإلحاح، برفع الْغبن والظلامة عن هذه المدينة وقضاء جبيل، ويُذكرَّنا بأن مدينة جبيل هي مدينة الحرف والحضارة، وأنه من المُعِيب إغماطها حقهَّا في إنشاء الجامعات باختصاصاتها المتنوَّعة وثانويّة رسميّة للبنات، وتأمين فُرَص العمل والوظائف لتأمين الحياة الكريمة لأبنائها أسوة بسائر المناطق .

ونلاحظ أن مفردات كتاب الدكتور عَمرو تتحرك ببساطة وعفوية وانسيابية مُعبِّرة، وتدور بمعظم مواضيعها حول مفاهيم المحبّة، والانسانيّة. والحوار الإسلاميّ ـ المسيحيّ، والوحدة الوطنيّة. والاعتراف بالآخر والسلام الداخلي.

وعندما يتحدث عن الدّين ـ وهو بالمناسبة علاَّمة في الفقه والدّين والأدب والقيم الروحيّة ناهيك عن أنّه قاضي شرع ـ يعتبر ان من أهداف الدّين الاساسية عبادة الخالق التي تنسحب إيجاباً على الناس محبةً، واحتراماً وأخلاقاً فاضلة، وأعمالاً مباركة تُفيد الفرد والمجتمع، وتدعو إلى التفكَّر بملكوت الله، وتقوم على جمع كلمة اللبنانيين، ووحدة صفهم، للدفاع عن الأرض والعرض والكرامة الوطنية (). وبالنسبة لعنوان كتاب الدكتور عمرو هل يكون لبنان سويسرا الشرق؟. وقضايا أخرى. نستطيع ان نقول بأنه لم يكن كلاماً عبثياً أو جزافاً أو غامضاً، إنما كان مشروع تساؤل يريد صاحبه من وراء ذلك ان يقول إنَّ باستطاعة لبنان ان يكون أفضل من سويسرا إنطلاقاً من حيثية مدينة جبيل التاريخية، المشهورة بالتعايش، والتآخي، والوحدة الوطنية، والانسجام الاجتماعي بين أبنائها المتعددي الطوائف والمذاهب وتتحققَّ هذه الأفضلية على سويسرا، شريطة ترسيخ الانماء الوطني المتوازِن بين جميع المناطق، وتأمين الوظيفة، والعمل، لا سيما للطبقة الفقيرة وتأمين ضمان الشيخوخة حتى لا يعيش اللبناني في خريف عمره بِذُلًّ وإنكسارٍ على أبواب المستشفيات، أو وراء لقمة العيش المُرَّة ، ناهيك عن تأكيد حرّية الرأي والمُعتقد، علاوةً على ما يتميَّز به لبنان عن غيره، بجمال بَحْرِهِ اللأزوردي الساحر، وسهوله الخضراء الفسيحة، وجباله البيضاء بثلوجها على القمم العالية، ومشهد مغيب شمسه القرمزي على أفقه الرحب. أضف الى كل ذلك، مناخه العليل الشافي حسب أقوال بعض المستشرقين ()، وطيبة شعبه الذكيّ والخلاَّق، المُحبَّ والمِضياَف.

وللأمانة والتاريخ، يحق لنا القول بأن الدكتور يوسف عَمرو يتمتّع بكاريزما المثقَّف الهادئ والرصين، والمجبول بعُنصر العطاء ومحبّة الناس جميعاً، بعيداً عن التعصب الديني والعنصري، ويتمتّع بأخلاق الله، التي قال الرسول الاعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، عنها في نصيحته للمُتَّقين والصالحين تخلّقوا بأخلاق الله، بكل ما تعنيه هذه الكلمة الجامعة من مفردات التُقى والصدق، والتواضع، والمحبّة، والأخلاق الساميّة، والعمل الصالح، والانسانيّة، والدكتور يوسف عَمرو يَكتنزُ بجدارة هذه المزَايا الملائكيّة.

ويكفي أخيراً أن نقُول بأن كتاب الدكتور يوسف عَمرو الذي بين أيدينا، هو قطعة من روحه، ووجدانه وفكره النيَّر، الصافي، وأن قلمه السيَّال هو كشجرة النخيل، التي لا يتساقط منها الا الرطب اللذيذ، والكثير الفائدة ...

عمشيت في 5 كانون الثاني 2020 م.

 

 



 وهيب أبي فاضل: حضارات الشرق القديم الجزء الأول مكتبة حبيب، طبعة 1985. صفحة 273.

 د. يوسف عمرو، \\\"هل يكون لبنان سويسرا الشرق؟. وقضايا أخرى\\\". دار أثر للتوزيع والنشر. طبعة 2020 صفحة 29 .

 المصدر نفسه. صفحة 31.

 المصدر نفسه، صفحة 28.

 يقول المستشرق الفرنسي الطبيب دي يران عن مناخ عمشيت ( وهي إحدى قصبات بلاد جبيل الشمالية ): \\\" إن المريض في عمشيت لا يحتاج إلى تبديل الهواء\\\" ويقول الاخ فينيران مهندس الاخوة المريميين: \\\" لقد جبت بلدان العالم فلم أر بلدة هواؤها ثابت لا يتغيَّر سوى بلدة عمشيت\\\". انظر أديب بك لحود، الدوحة العمشيتية ـ طبعة 2003 صفحة 9.