حوار جديد مع الفكر الإلحادي- لمؤلفه الدكتور أحمد محمد قيس

12/4/2020
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

 

بقلم سماحة الشيخ توفيق حسن علوية


يبقى الفكر حراً طليقاً لا يقفل بابه أمام أي وافد ولا يمنع أي صادر، وقد تفاعلت الأفكار البشريّة منذ تأسسها وربما تآلفت وربما تخالفت، إلا أنّها على سبيل المنهجيّة بقيت حرّة طليقة غير مقيدة بقيد.

وتمخضت الأفكار بعد تمادي الزمن عن ثلاثة معسكرات فكرية إن صح التعبير:

الأوّل: الدينيّ: وذلك بمعزل عن خصوصياته ومتشابكاته وما ائتلف منه وما اختلف، فالعنوان الدينيّ يشمل الإسلاميّ والمسيحيّ واليهوديّ وغير ذلك، كما لا فرق بين صحة نسبة الدين الى السماء وبين كونه من وضع أهل الأرض .

الثاني: اللادينيّ: أي المنهج الذي لا يعتقد بوجود الدين من رأس .

الثالث: البرزخ بين الدينيّ واللا الدينيّ.

إننا اذا نظرنا الى الفكر بنظرة غير مسبوقة بأي اتجاه سابق نجد أن كل فكرة متبناة من قبل أصحابها هي دين وإن لم يطلق عليها أصحابها أنها دين، فلا ينفك أي أحد عن الدين وإن توهمه غير دين، كما لا ينفك أحد عن الفكرة وإن لم يسمها فكرة .

فالذي لا يعتقد بفكرة الخالق والشرائع والثواب والعقاب أو غير ذلك هو عملياً يؤمن بشيء ما، بفكر ما، وهذا الشيء وهذا الفكر هو دين بنحو أو بآخر، وكذلك الذي يؤمن بدين ما، هو بالحقيقة يؤمن بفكر ما، فهذا الدين هو فكر .

فالتلازم بين الفكر والدين نفياً أو إثباتاً متحقق دوماً مع أول بزوغ لشمس الإنسانيّة .

هذا عن الفكر والدين والتلازم بينهما، أما عن كيفية تعرّف كل معسكر من المعسكرات الثلاثة ـ الدينيّ واللا الدينيّ والبرزخ الذي بينهما ـ على بعضهم البعض فإنّه لم يتمَّ البتة ولم يتحقق إلا ببركة الحوار، فالحوار أصل أصيل في صقع النفس البشرية وطبيعة متحققة ومترجمة لدى العقول البشريّة، لأنّ طبيعة خلق الإنسان من عقل ولسان تقتضي الحوار فللعقل الإجالة وللسان التعبير، ومن ها هنا يتحقق الحوار، فالإنسان يتجه الى مصنع عقله وينتج فكرة أو أفكاراً ثُمّ يفزع الى لسانه لتصدير ما انتجه عقله الى الأغيار، وهكذا نشأ الحوار ببركة العقل واللسان وبكل أداة غير اللسان كما في الأدوات التكنولوجيّة المعاصرة .

وهناك أمرٌ رابعٌ لا بُدَّ من التطرق اليه وهو التجدد وعدم الإقتصار على القدم، فالفكر من منطلق تحرره واستقلاله يقتضي التجدد ويتطلب عدم الجمود، وكل شيء يحتاج الى تجدد حتى لو كان ثابتاً إذ أنّ التجدد لا يلغي الثابت بل يجعله متجوهراً ومترونقاً أكثر فأكثر، والفكر الذي يخشى التجدد هو محض وهم يتبدد مع كل تجدد، أما الفكر الحقيقيّ فلا يخشى التجدد ولا يهابه بل يعشقه ويطلبه حثيثاً ليكون مدعاة لتألقه .

من هنا نفهم هذه الكلمات الأربع:( الحوار ـ الفكر ـ الجديد ـ الإلحاد ) التي سطرها الكاتب في كتابه ( حوار جديد مع الفكر الإلحادي ) إذ أنّه اعتمد كلمات غاية في التجرد وغير مستفزة للآخر، فهو حوار والحوار طبيعة البشريّة المتعارفة، وهو جديد أي غير متلبد وبالٍ، وهو فكر والفكر كلمة تبعث البهجة في نفوس السامعين .

لقد نجح الكاتب في اختيار العنوان فجعل من الدينيّ إنساناً واثقاً وادعاً غير متشنج وأقنعه بطريقة ايحائيّة إنك أنت المُنتصر والظافر ولكن بطريقة حضاريّة ، وجعل من غير الدينيّ إنساناً راغباً في الإطلاع على فكر الآخر من دون استفزاز تقليدي كان بالعادة يجعل منه شخصاً غير مهتم بالإطلاع على كل ما يمتُّ الى الدين بصلة، كما أن الكاتب نجح في إنتخاب موضوع هو محل إبتلاء فعلي لا سيما في عالمنا العربيّ والإسلامي بعد النفور الفظيع من الدين الذي تمّ تصويره ظلماً وعدواناً وتآمراً على أنّه دين متلازم مع القتل والسبيّ والحرق وكل أساليب الإجرام والتحجر والتخلف .

إن هذا الكتاب لمؤلفه الدكتور والأستاذ الجامعي الشيخ أحمد محمّد قيس إعتمد منهجيّة العرض الحقيقيّ والمنصف للمنهجين الدينيّ وغير الدينيّ بطريقة تجعل من القارئ بين عرضين متوفرين أمامه، ولكل عرض منهجيته، وهو بالخيار التام طالما أنه لا يجد ما هو استفزازيّ، وهذا الأمر مطلوب جدأ في هذا العصر، بمعنى أن على الدينيّ أن يعرض منتجاته بهدوء وعلى غير الدينيّ كذلك، وعلى الطالب للفكر والمعرفة أن يوازن ويختار، وهذا بالتحديد سرُّ نجاح المؤلَف بفتح اللام والمؤلِف بكسر اللام .

والكاتب نجح في أمر آخر غاية في الأهميّة وهو مراعاة الخصوصيّة التي يكون عليها المنكر للأديان، فاستطاع اختراق اللاوعي عند اللا دينيّ ونجح في مخاطبته بطريقة لا تستفزه وترضيه، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلُّ على حرص الكاتب على أكل العنب لا قتل الناطور إن صح التعبير وهو تعريف النّاس على الحقيقة الناصعة للدين وليس القصد إظهار النّفس وتكثير المصفقين المتعصبين .

واخيراُ لا يمكن التغافل عن الكم العلميّ التجريبيّ الذي تضمنه الكتاب وهذا يدلُّ على الجهد الكبير الذي بذله الكاتب في البحث والتنقيب، وعلى قدرته على إعطاء الكتاب مصداقيّة واقعيّة عاليّة، ولكن قد يؤخذ على الكاتب أنّه اظهر أنّه من أنصار الدين لأن عنوان: حوار جديد مع الفكر الإلحادي. يعطي انطباعاً واضحاً أنه المحاور الأول أي الدينيّ الذي يتحاور مع الإلحادي، كما يؤخذ على الكاتب استخدامه كلمة الإلحادي بدلاً من تلطيف العبارة واستبدالها بعبارة: اللا دينيّ. إلا أنّه يمكن الجواب عن ذلك بالقول: ان الإلحاد مصطلح مُستخدم في هذه الأيام ولا يمكن جذب القارئ من دون استخدامه، والكتب الآن مهملة وتحتاج الى عناوين جاذبة، كما أنّ عنوان الإلحاد محل ابتلاء فكان لا بُدّ من استخدامه بالعنوان .



 كاتب وباحث من لبنان.