وأد البنات... في العصر الحديث

24/5/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

الشيخ الدكتور أحمد محمد قيس

قال الله عزّ وجل: }وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ{. سورة النحل، الآية:58 ـ 59.

وقال أيضاً: }وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ{. سورة التكوير، الآية: 8 ـ 9.

إنّ مسألة وأد البنات في الجاهليّة قبل الإسلام تشكل صورة من أبشع الصور التي قام بها الإنسان عبر التاريخ، حيث كان يعتبر هذا الفعل ولا يزال، نموذجاً متخلفاً وإجرامياً، من خلال قيام الرجل البالغ بالإعتداء على المولود الصغير الضعيف، لا لشيء سوى أنّه كان من جنس لا يرغب به الوالد ويعتبره مصدراً لجلب العار في المستقبل.

لذا نرى أن الإسلام من خلال ما جاء به النبي الكريم(ص) الذي أُرسل رحمة للعالمين، تصدى لهذه الممارسات بحزم وقوة، إن لجهة ما نطقت به الآيات الكريمات بهذا الخصوص، أو لجهة ما حثَّ عليه ورغبَّ به وقاله النبيُّ(ص) في العديد من المناسبات.

وكان أوّل من قام بهذا العمل الشنيع (بنو تميم)، وهذه القبيلة العربيّة حدث أن اشتركت في غزوة لكسرى ملك بلاد فارس، فهزمهم الأخير وسبى نساءهم وذراريهم، وأدخلهن دار الملك واتخذ البنات جواري وسرايا له، وبعدُ برهة من الزمن إِصطلحوا مع كسرى وأرادوا إِسترداد السبايا، فَخُيّرنَ في الرجوع الى أهلهن أو البقاء في دار الملك، فامتنعت عدّة من البنات، عن الرجوع إِلى قبيلتهن، وهذا ما أغضب رجال بني تميم، فعزموا أن لا تولد لهم أنثى إلا ودفنوها حيّة، ثمّ تبعهم في ذلك الفعل الخاطئ واقتدى بهم بعض القبائل العربيّة فشاع بينهم وأد البنات. وكان الرجل منهم إذا ظهرت آثار الطلق بامرأته إختفى الى أن يعلم خبر المولود، فإذا كان ذكراً ظهر وابتهج وان كان أنثى حزن، وَفكرَّ ماذا يصنع بهذا المولود المشؤوم: (أيمسكه على هون) ؟ فيبقيه مُتحمّلاً المذّلة والهوان (أم يدسّه في التراب) حياً؟                                              

ويروى أنّ بعض العرب كانوا يدفنون البنات وهن أحياء، وبعضهم كانوا يرمونها من شاهق، وآخرون يذبحونها، ومنهم من كانوا يغرقونها بالماء، إمّا للغيرة والحميّة، وإمّا خوفاً من الفقر والإملاق.

وروي أنّ رجلاً قال: يا رسول الله: ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت، فقد كانت لي في الجاهليّة إبنة، فأمرت امرأتي أن تزّينها، فأخرجتها إلي، فانتهيت بها الى وادٍ بعيد القعر، فألقيتها فيه، فقالت يا أبي قتلتني، فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء...(1)

وكأني برسول الله يجهش بالبكاء على هذه الأُنثى المظلومة. وعليه، فالسائل يسأل، حول علاقة هذا العمل الشنيع في الجاهلية قبل الإسلام، بعصرنا الحاضر الذي انتشر فيه الإسلام في أرجاء المعمورة، والإنسان بلغ مستوى عالياً من التقدّم العلمي والحضاري؟           

الجواب على ذلك بسيط وغير معقد، إذ أنّ الإنسان هو نفسه على مرّ الدهور، وتطاول الأزمنة والعصور، ولا فرق بالنسبة لقدرته على تسخير القوى الطبيعيّة لصالحه بشكل أوسع وأشمل أم لا، كما لا فرق بالنسبة لاستعماله التكنولوجيا الحديثة في أموره اليوميّة، أم اقتصر ذلك على بعض الأدوات البدائيّة وحسب، فإنَّ كل ذلك لا يُغيِّرُ من طبيعته البشريّة الإنسانيّة، ولا حتى من مشاعره الغرائزيّة، حيث أن هذا النوع من الفعل الشنيع لم يلاحظ حتى عند أشدِّ الحيوانات وحشيّة فكيف بالإنسان!؟.

وهذا التخلّف وهذه القسوة ليس سببهما تخلّف البيئة عن الحضارة والمدنيّة بقدر ما هما ناتجان عن إنعدام ونقصان في القيم الإنسانيّة، التي ما فتئت الرسالات السماويّة وحركة الإنبياء عبر التاريخ تعمل من أجل تأصيل هذه القيم وهذه الأخلاق التي تستهدف نشر قيم ومفاهيم العدل والرحمة بين أبناء النوع الإنساني!؟.                                                                                                 

لكنّ الغريب والمستهجن أن تجد من يدّعي انتسابه الى إحدى هذه الرسالات السماويّة ويقوم بما تستنكف الوحوش عن فعله، وكما قال العلاّمة الشيخ مُحمّد جواد مغنيّة:»... ولكن نحن الآن في عصر الفضاء، ومع هذا يلقي المستعمرون والصهاينة قنابل النابالم في فلسطين على الشيوخ والأطفال والنساء...يلقونها لا للغيرة والحميّة ولا خوفاً من الفقر والإملاق، بل لزيادة الأرباح، وتكديس الثروات وتراكمها، فأي الفريقين أقبح وأسوأ؟ أهل الجاهليّة، أم المستعمرون والصهاينة في عصر العلم والإشعاع؟.....» (2)

والإنسان المسلم في هذا العصر، حيث تعددت الوسائط المعرفيّة وشاعت، وأصبح من السهل عليه الحصول على مسائل الدين وأحكامه، رغم كل ذلك نجد أن البعض ما يزال يعيش الأفكار والعادات الجاهليّة بشكل من الأشكال.   

فعندما يتقدّم أحد ما للزواج من إبنة أحدهم، نجد أنّ هذا الأخير ورغم توفّر الشروط الدينيّة والأخلاقيّة عند الخاطب، ووجود ميل مُشترك بينه وبين الفتاة، ولكن نتيجة قلّة ذات يده يرفضه الوالد. وقد يتكرر هذا الأمر مع نفس الفتاة عدّة مرات حتى تصل الى مرحلة العنوسة وينقطع بالتالي الخطّاب عن التقدّم لطلبها والزواج منها. أليس هذا نوعاً من أنواع الوأد ولكن بأسلوب آخر؟ إذا الوأد قديماً كان يَتمُّ من خلال دفن الفتاة في حفرة عند ولادتها، أمّا في العصر الراهن فيتمُّ دفنها في منزل أبيها عند عدم الموافقة على زواجها لأسباب واهية!!... وقد ينقلب الأمر بشكل آخر، حيث يمكن رؤية بعض الآباء يحولون بين أبنائهم والزواج بحجة ضرورة شراء شقة، أو تأسيس عمل خاص، أو تأمين مبالغ ماليّة كبيرة، أو..أو..أو....... فيتحوّل هذا الشاب من عنصر أمان اجتماعي من خلال طلبه للحلال وسعيه لتأسيس أُسرة الى عنصر فساد يسعى الى إطفاء لهيب الشهوة وسعيرها بطرق غير شرعيّة، مما يؤدي بالتالي الى استسهاله لهذا الأمر وعكوفه عن الزواج ومسؤولياته.                                                

أليس هذا أيضاً من أنواع الوأد؟ ولكن هذه المرّة للذكور دون الإناث!!                             

والله سبحانه وتعالى يقول:

}وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ{ سورة النور. الآية: 32.                                                                           

والرسول الأكرم(ص) قال:» إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه وأمانته يخطب إليكم فزوّجوه، إن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير».(3)                                                                    

وحول تفسير الآية السابقة يقول العلامة الطباطبائي: قوله تعالى:

}وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم{ الإنكاح التزويج، والأيامى جمع أيم بفتح الهمزة وكسر الياء المشددة وهو الذكر الذي لا أنثى معه والأنثى التي لا ذكر معها وقد يقال في المرأة أيمة، والمراد بالصالحين: الصالحون للتزويج لا الصالحون في الأعمال.

وقوله: «إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله» وعد جميل بالغنى وسعة الرزق وقد أكده بقوله: «والله واسعٌ عليم» والرزق يتبع صلاحيّة المرزوق بمشيئة من الله سبحانه...».(4)                              

وعليه، وبعد هذا العرض لواقع حال المجتمعات الإسلاميّة من هذا الجانب والذي هو واقع حقيقي وليس افتراضياً، أليس الحري بنا أن نتعظ جميعاً ونخشى الله في أبنائنا وبناتنا؟ وحتى لا نقع في محذور الفتنة في الأرض والفساد الكبير الذي أشار إليه الحديث النبوي الشريف من خلال وأدنا للبنات والصبيان في عصرنا الراهن؟                                     

والله كفيل بالتسديد والتوفيق، شريطة أن نخلص النيّة لله ونحزم أمرنا للعمل، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.

والحمد لله ربّ العالمين 

 

للتوسع حول هذا الأمر راجع مثلاً: الطباطبائي، تفسير الميزان، ج12، صفحة 276. أو الجزء 20، صفحة 236. وأيضاً: محمد جواد مغنيّة، التفسير الكاشف، الجزء الرابع، صفحة 522/523.

التفسير الكاشف، المصدر نفسه.

بحار الأنوار، المجلد 103، ص 372. كذلك راجع: ميزان الحكمة، الحديث رقم:7849.

تفسير الميزان، الجزء 15، ص 112.