إطلالة على حقوق الوالدين

20/4/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم الدكتور الشيخ أحمد محمد قيس

كيف يستطيع أي كاتب ان يصور جلالة الأبوين، وفضلهما على الأولاد فهما سبب وجودهم، وعماد حياتهم، وقوام فضلهم، ونجاحهم في الحياة.

والحديث عن جهود الوالدين ما استطاعا إلى ذلك سبيلاً، وذلك في رعاية أبنائهما مادياً ومعنوياً، وتحملا في سبيلهم أشد المتاعب والمشاق. فاضطلعت الأم بأعباء الحمل، وعناء الوضع، ومشقة الإرضاع، وجهد التربية والمداراة.

واضطلع الأب بأعباء الجهاد، والسعي في توفير وسائل العيش لأبنائه وتثقيفهم وتأديبهم، وإعدادهم للحياة السعيدة الهانئة.

تحمل الأبوان تلك الجهود الضخمة، فرحين مغتبطين، لا يريدان من أولادهم ثناءً ولا أجراً.

وناهيك في رأفة الوالدين وحنانهما الجم، أنهما يؤثران تفوق أولادهما عليهما في مجالات الفضل والكمال، ليكونوا مثاراً للإعجاب ومدعاة للفخر والإعتزاز، خلافاً لما طبع عليه الإنسان من حُبِّ الظهور والتفوق على غيره.

من أجل ذلك كان فضل الوالدين على الولد عظيماً وحقهما جسيماً، قد سما على كل فضل وحق بعد فضل الله عزّ وجل وحقه.

وهذا ما يحتم على الأبناء النبلاء أن يقدروا فضل آبائهم وعظيم إحسانهم، فيجازونهم بما يستحقونه من حسن الوفاء، وجميل التوقير والإجلال، ولطف البّر والإحسان، وسمو الرعاية والتكريم، أدبياً ومادياً.

أنظر كيف يعظم القرآن الكريم شأن الأبوين، ويحضُّ على إجلالهما ومصاحبتهما بالبّر والمعروف، حيث قال:}وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا{. سورة لقمان، آية: 14 ـ 15.

وقال تعالى:}وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا{. سورة الإسراء، آية: 23 ـ 24.

فقد أعربت هاتان الآيتان عن فضل الوالدين ومقامهما الرفيع، وضرورة مكافأتهما بالشكر الجزيل، والبّر والإحسان اللائقين بهما، فأمرت الآية الأولى بشكرهما بعد شكر الله تعالى، وقرنت الثانية الإحسان إليهما بعبادته عز وجل، وهذا غاية التعزيز والتكريم.

وعلى هدي القرآن وضوئه تواترت أحاديث أهل البيت (ع):

قال الإمام الباقر(ع): ثلاث لم يجعل الله تعالى فيهن رخصة: (أداء الأمانة الى البّر الفاجر، والوفاء بالعهد للبّر الفاجر، وبّر الوالدين بارّين كانا او فاجرين).(1)

وقال الإمام الصادق(ع):(إن رجلاً أتى النبي(ص) فقال: يا رسول الله أوصني. فقال: لا تشرك بالله شيئاً، وإن حرقت بالنار وعذبت إلا وقلبك مطمئن بالإيمان. ووالديك، فأطعهما وبرّهما حيين كانا أو ميتين، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل، فإن ذلك من الإيمان).(2)

وعن أبي الحسن الكاظم(ع) قال:(قال رسول الله(ص):(كن باراً، واقتصر على الجنة، وان كنت عاقاً فاقتصر على النار).(3)

وعنه(ع) قال: (قال رسول الله(ص):(نظر الولد الى والديه حباً لهما عبادة).(4)

وقال الإمام الصادق(ع):(من أحب أن يخفف الله عز وجل عنه سكرات الموت، فليكن لقرابته وصولاً، وبوالديه باراً، فإذا كان كذلك هوّن الله عليه سكرات الموت، ولم يصبه في حياته فقر أبداً).(5)

وعن أبي عبد الله الصادق(ع):(إن رسول الله(ص) أتته أخت له من الرضاعة ، فلما نظر إليها سُرَّ بها وبسط ملحفته لها، فأجلسها عليها، ثم أقبل يحدثها ويضحك في وجهها. ثم قامت فذهبت، وجاء أخوها فلم يصنع به ما صنع بها، فقيل له: يا رسول الله صنعت بأخته ما لم تصنع به، وهو رجل! فقال: لأنها كانت أبرُّ بوالديها منه).(6)

وفي الوقت الذي أوصت الشريعة الإسلامية ببّر الوالدين والإحسان إليهما، فقد آثرت الأم بالقسط الأوفر من الرعاية والبّر، نظراً لمَ انفردت به من جهود جبّارة وأتعاب مضنية في سبيل أبنائها، كالحمل والرضاع، ونحوهما من وظائف الأمومة وواجباتها المرهقة.

فعن أبي عبد الله الصادق(ع) قال: جاء رجل الى النبي(ص) فقال:(يا رسول الله ، من أبرّ؟ قال: أُمّك. قال: ثم من؟ قال: أُمّك. قال: ثم من؟ قال: أُمك. قال: ثم من؟ قال: أباك).(7)

وعن ابراهيم بن مهزم قال:(خرجت من عند أبي عبد الله الصادق(ع) ليلة ممسياً، فأتيت منزلي في المدينة، وكانت أمي معي. فوقع بيني وبينها كلام، فأغلظت لها. فلما كان من الغد، صلّيت الغداة، وأتيت أبا عبد الله الصادق(ع)، فلما دخلت عليه، قال لي مبتدئاً: يا أبا مهزم، مالك ولخالدة؟ أغلظت في كلامها البارحة، أما علمت أن بطنها منزل قد سكنته، وأنّ حجرها مهد قد غمزته، وثديها وعاء قد شربته؟ قال: قلت: بلى. قال فلا تغلظ لها).(8)

واستمع إلى الإمام عليّ بن الحسين(ع)، وهو يوصي بالأم، معدداً جهودها وفضلها على الأبناء، بأسلوب عاطفي أخّاذ فقال(ع):(وأما حق أمك: أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحدٌ أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحدٌ أحداً، ووقتك بجميع جوارحها، ولم تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحى وتظلك، وتهجر النوم لأجلك، ووقتك الحرّ والبرد لتكون لها، فإنك لا تطيق شكرها إلا بعون الله وتوفيقه).(9)

وبّرالوالدين، وإن كان له طيبته ووقعه الجميل في نفس الوالدين، بيد أنه يزداد طيبة ووقعاً حسناً عند عجزهما وشدة احتياجهما الى الرعاية والبّر، كحالات المرض والشيخوخة، وقد ورد أن رجلاً جاء الى النبي(ص)، فقال:(يا رسول الله، إن أبوي بلغا من الكبر أني ألي منهما ما ولياني في الصغر، فهل قضيتهما حقهما؟ قال: لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبّان بقاءك ، وأنت تفعل ذلك وتريد موتهما).(10)

وعن ابراهيم بن شعيب قال لأبي عبد الله الصادق(ع): إن أبي قد كبر جداً وضعف، فنحن نحمله إذا أراد الحاجة. فقال:(إن استطعت أن تلي ذلك منه فافعل، ولقّمه بيدك، فإنه جُنّةً لك غداً).(11)

وليس البّر مقصوراً على حياة الوالدين فحسب، بل هو ضروري في حياتهما وبعد وفاتهما، لانقطاعهما عن الدنيا وشدة احتياجهما الى البّر والإحسان.

فعن الصادق(ع) قال:(ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته وهي تجري بعد موته، وَسُنَّة هدى سنّها فهي يعمل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له).(12)

من أجل ذلك فقد حضَّت وصايا أهل البيت(ع)، على برّ الوالدين بعد وفاتهما، وأكدت عليه وذلك بقضاء ديونهما المالية أو العبادية، وإسداء الخيرات والمبرّات إليهما، والإستغفار لهما، والترحم عليهما. واعتبرت إهمال ذلك ضرباً من العقوق.

قال الإمام الباقر(ع):(إن العبد ليكون باراً بوالديه في حياتهما، ثم يموتان فلا يقضي عنهما دينهما ولا يستغفر لهما، فيكتبه الله عاقاً. وانه ليكون عاقاً لهما في حياتهما غير بار بهما، فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما، فيكتبه الله تعالى باراً).(13)

وعن الصادق عن أبيه عن آبائه (ع) قال:(قال رسول الله(ص): سيد الأبرار يوم القيامة، رجل برّ والديه بعد موتهما).(14)

عقوق الوالدين

من الواضح أن نكران الجميل ومكافأة الإحسان بالإساءة، أمران يستنكرهما العقل والشرع، ويستهجنهما الضمير والوجدان. وكلما عظم الجميل والإحسان كان جحودها أشدُّ نكراً وأفظع جريرةً وإثماً. وبهذا المقياس ندرك بشاعة عقوق الوالدين وفظاعة جرمه، حتى عُدّ من الكبائر الموجبة لدخول النار. ولا غرابة فالعقوق – فضلاً عن مخالفته المبادىء الإنسانية، وقوانين العقل والشرع ـ دال على موت الضمير، وضعف الإيمان، وتلاشي القيم الإنسانية في العاق.

فقد بذل الأبوان طاقات ضخمة وجهوداً جبّارة، في تربية الأبناء وتوفير ما يبعث على إسعادهم وازدهار حياتهم مادياً وأدبياً، ما يعجز الأولاد عن تثمينه وتقديره.

فكيف يسوغ للأبناء تناسي تلك العواطف والألطاف ومكافأتها بالإساءة والعقوق؟

من أجل ذلك حذّرت الشريعة الإسلامية من عقوق الوالدين أشدّ التحذير، وأوعدت عليه بالعقاب العاجل والآجل.

وقال الصادق(ع): (لو علم الله شيئاً هو أدنى من أف، لنهى عنه، وهو من أدنى العقوق. ومن العقوق ان ينظر الرجل إلى والديه، فيحدّ النظر إليهما(15)

وقال الباقر(ع):(إن أبي نظر الى رجلٍ ومعه ابنه يمشي، والإبن متكىء على ذراع الأب، فقال: فما كلّمه أبي (ع) مقتاً له حتى فارق الدنيا).(16)

وعن أمير المؤمنين(ع) قال: قال رسول الله(ص): ثلاثة من الذنوب، تعجل عقوبتها ولا تؤخر الى الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي على الناس، وكفر الإحسان).(17)

ومن آثار العقوق:

انه من كبائر الذنوب التي توّعد الله عليها بالنار، كما صرحت بذلك الأخبار.

والجدير بالذكر، أنه كما يجب على الأبناء طاعة آبائهم وبرّهم والإحسان إليهم، كذلك يجدر بالآباء أن يسوسوا أبناءهم بالحكمة، ولطف المداراة، ولا يخرقوا بهم ويضطروهم الى العقوق والعصيان.

فعن الصادق عن آبائه(ع) قال: قال رسول الله(ص): يلزم الوالدين من العقوق لولدهما إذا كان الولد صالحاً ما يلزم الولد لهما.(18)

وقال النبيُّ(ص): لعن الله والدين حملا ولدهما على عقوقهما، ورحم الله والدين حملا ولدهما على برّهما.(19)

وأخيراً نقول: هلاّ استمعنا ووعينا حتى نكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. هيا إخوتي في الله فاليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل. والحمد لله رب العالمين.

 

الهوامش:

1.      الوافي، ج3، ص 93، عن الكافي.

2.      نفس المصدر، ص 19 ـ 92.

3.      نفس المصدر، ص 155.

4.      البحار، م16، ج4، ص 24، عن كشف الغمّة للأربيلي.

5.      نفس المصدر، ص 21، عن آمالي الشيخ الدوق، وآمالي ابن الشيخ الطوسي.

6.      الوافي، ج3، ص 92، عن الكافي.

7.      نفس المصدر.

8.      البحار، م16، ج4، ص 23، عن بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار.

9.      رسالة الحقوق للإمام السجاد(ع)