وجوه ومواقف جُبيليّة

20/4/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم الأستاذ يوسف حيدر أحمد

يتميّز الإنسان عن سائر المخلوقات بأنّه كائن عاقل، يُفكِّر ويتأمل، ويفعل ما يُمليه عليه العقل، والحكمة، وحسن التدبير وبداهة أنّ عمله الطبيعي هو عمارة الأرض واستصلاحها واستثمارها، كما ينطلق من أعماقه. من ضميره ووجدانه ووعيه لمعرفة نفسه وربّه، ومحيطه البشري والكوني.

ليت كل النّاس يتصرّفون وفق هذا المنطق حتى تسعد البشريّة روحياً ونفسياً وجسدياً، لكن النّاس تتشعب ميولهم وغاياتهم وأهواؤهم، فمنهم الصالح ومنهم دون ذلك، ومنهم المؤمن ومنهم الملحد، ومنهم المُحسن، ومنهم المسيء إلى ما لا نهاية من المتناقضات.

وأمام هذه الثنائيات التي لا تنتهي يُحسب عمل الإنسان إما له وإما عليه بحسب نوعيّة العمل وإرتدادته على صعيد الفرد والأسرة والمجتمع والدين.

كما ويتحقق مبدأ الثواب والعقاب إزاء ثمرة هذا العمل في الدُنيا غالباً أو أحياناً أمام محكمة العدل البشريّة، ويوم الدينونة دائماً وأبداً أمام محكمة العدل الإلهيّة. والعقل السليم يحكم ويُميز بين أعمال البشر، والله هو الحاكم والشاهد من ورائه.

أنطلق من هذه المقدّمة لإطلّ على موضوع يتعلق ببلدة كفرسالا العمشيتيّة التي لم تكن ماضياً إلا خطوطاً عريضة على خارطة الواقع دون ظلال أو حياة. ثُمّ أضحت حاضراً عامرة بالبناء، تضج بالحيويّة والنشاط والحركة.

والسؤال البديهي الذي يطرح نفسه بالحاح هو التالي. كيف أصبحت هذه القرية عامرة في مدة قياسيّة من الزمن. بعد أن كانت أرضاً صخريّة قفراً.

في الواقع العملي، هناك ثلاثة وجوهٌ مُضيئة كان لها بصمات بارزة رسمت عمران هذه البلدة، وتدرّجت على ثلاث مراحل متقاطعة ومُتمايزة يُكمل بعضها بعضاً وهي: مرحلة التأسيس، تليها مرحلة الهوية والكيان والأخيرة رحلة الترشيد والشريعة.

أولاً: مرحلة التأسيس: كان أساس هذه المرحلة وعمادُها الحاج محمد نكد حيدر حسن (ابو حميد رحمه الله) فهو صاحب بلدة كفرسالا ومالك عقاراتها وصاحب اليد الطولى البيضاء في عمارتها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، إذ لولا وجود هذا الرجل الإنساني الطيّب، لما كانت هذه البلدة على ما هي عليه اليوم أكان على صعيد الكثافة السكنيّة أو العمرانيّة.

لقد شجّع هذا الرجل وساهم وتسامح في بيع عقارات البلدة للأصحاب والأقارب والأرحام، وبأثمان زهيدة، علماً بمعرفته المُسبقة بأن أسعار هذه الأرض سيرتفع مُستقبلاً بشكل جنوني وكانت غايته معنويّة أكثر منها مادية بدليل أنّه وهب بعض عقارات البلدة مجاناً إلى الأصحاب والأقرباء. وتخبرني والدتي في هذا الصدد بأن ابا حميد زارنا في بلدة إده ـ حيث ولدت وكان مسكننا المستأجر يومئذ هناك ـ وقال لأبي:» لقد أعطيت لفلان بعض العقارات مجاناً في بلدة كفرسالا إذهب يا ابا يوسف لأعطيك عقاراً مجاناً تبني عليه منزلاً لك ولأسرتك». شكره الوالد، وأكبر فيه حِسَّه الإجتماعيّ والإنسانيّ وقال له بإعتذار:«إنّ وضعي الماديّ الآن لا يسمح لي لا بالشراء ولا بالبناء، وبالتالي أنا لا أقبل أن آخذ عقاراً مجاناً من عرق جبين غيري لأنّ وجداني وضميري يأبيان عليّ ذلك».

لقد استطاع أبو حميد بهمّته وإندفاعه وإنسانيته أن يجمع العائلات الجبيليّة واسكنها في بلدته، ونجح في بناء مجتمع إسلاميّ، وكان بمثابة الأب الذي يعمل من اجل أبنائه كي يبقوا بقربه، فيشعر بغبطة وسعادة وطمأنينة وهم تحت عباءته الأبويّة. حقاً لقد خلق مجتمعاً إسلامياً في محيط مسيحيّ، لكن دون خَلفيّة تعصَّب أو كراهيّة. ولا عجب أن أحبَّ المرءُ أبناء طائفته، وتولى رعايتهم، لكن دون أن يُقلِّل ذلك من حبِّه وإحترامه وتقديره للطوائف الأخرى. ولا غرابة في أن أبا حميد قد أحبَّ المسيحيين، أبناء المنطقة، وشاركهم أفراحهم وأحزانهم، حتى أنّ أبناء عمشيت كانوا يستشيرونه في قضاياهم ومشاكلهم. وعندما زار الإمام السيّد موسى الصدر بلدة كفرسالا ليباركها وليضع حجر الأساس لمسجدها وحسينيتها عام 1962م، تبرَّع حميد ـ وهو الإبن البكر لهذا الرجل الطيِّب بنصف ثمن قطعة الأرض التي سيُبنى عليها هذا المشروع، مؤكداً بعمله الطيب هذا مَقُولة «الولد سر أبيه» في صفاته ومواقفه.

ثانياً: مرحلة الهوية والكيان: مرَّت سنوات على مرحلة تأسيس البلدة. كان النّاس خلالها يعيشون حالة ضياع روحي، وتقصير ديني. حيث لا مسجد، لا حسينيّة، ولا عالم دين، ولا ثقافة دينيّة، ولا من يتحرَّك ويُطالب، إلى أن قيّض الله لهذه البلدة رجلاً جاء من ضاحية بيروت الجنوبيّة ـ وهو من أبناء بلدة رأس أسطا ـ ليبني منزلاً فيها يسكنه، هذا الرجل هو مرشد حيدر أحمد(أبو محمد).

أحسّ هذا الرجل بمفارقة غريبة بين منطقة الشياح التي كان يسكنها سابقاً. حيث كانت المساجد والمآذن تصدح بتراتيل القرآن والأذان صباح مساء وبين هذه البلدة التي يسكنها النّاس والصمت والإهمال، حيث لا مسجد ولا أذان فيها.

استفزته هذه المقارنة، فعزم على فعل ما يُرضي رَبّه وضميره فقام بزيارة الإمام السيد موسى الصدر في مدينة صور والقماطيّة عام 1962م بمعيّة الوزير السابق عبد الله المشنوق رئيس الخلايا الإجتماعيّة في لبنان، والحاج محمد علي حيدر أحمد وشرح للإمام خلال الزيارة معاناة البلدة الدينيّة. وحتميّة بناء مسجد وحسينيّة فيها كرمز يدل على هويتها الدينيّة. وطلب منه زيارة البلدة ليبارك وليضع حجر الأساس لمشروع مسجد وحسينيّة فيها.

وكانت زيارة الإمام لهذه البلدة هي أوّل زيارة تطأ فيها قدم أكبر زعيم روحي إسلاميّ أرض بلاد جبيل.

ولما كانت مسافة ألف ميل تبدأ بخطوة، فقد إنطلق أبو محمد من الصفر بكل صبر وعزم ومثابرة، على أن تكون بلدة كفرسالا بلدة مُميزَّة بهويتها. وشخصيتها الإسلاميّة. وبوصول الإمام السيّد موسى الصدر إلى البلدة، يكون أبو محمد قد سجَّل أوّل هدف في تجذير الكيان والهوية لهذه البلدة بمباركة الإمام الصدر عندما وضع حجر الأساس للمسجد والحسينيّة فيها.

وانطلق قطار العمل بعد الإحتفال بوضع حجر الأساس، وأُعطي حميد حيدر حسن صاحب الأرض المشتراة ـ ما جُمع من تبرعات الإحتفال، على أن يُدفع له المبلغ الباقي من أموال التبرعات التي ستُجمع من جميع المناطق اللبنانيّة، المسيحيّة والإسلاميّة.

ولهذه الغاية النبيلة، تحرّك أبو محمد مع كوكبة من الطيبين من أهل البلدة لجمع التبرعات. نذكر منهم الحاج محمد علي حيدر أحمد والحاج مجيد حيدر أحمد وحسن شبيب حيدر أحمد والحاج إسماعيل رميحي حيدر أحمد وسعد الله شمص ومحمد تامر شمص ومحمد خليل همدر ومحمد نكد حيدر حسن.

وكان جميلاً وطبيعياً أن يتبرع المسلمون لهذا العمل الدينيّ الخيريّ، لكن الأجمل منه كان تبرُّع المسيحيين كتعبير صادق عن المحبة والتعايش والوحدة الوطنيّة بين أبناء الوطن الواحد.

وقد سُئِلَ أبو محمد مرّة: لماذا أنت وليس غيرك من يهتم بشؤون البلدة. وبزيارة الإمام السيّد موسى الصدر إليها. فأجاب: بلسان المثقف ـ وهو في الواقع أمِّي ـ الذي يتحسَّس شؤون وشجون البلدة، ويأسف عندما يراها مُهمّشة مُهملة دون قيادة، أو مرجع ديني تعود إليه كقطيع الغنم الذي فقد راعيّه فتبعثر وتشرذم.

أجاب أبو محمد بحسرة وأمل:» أنا حزين بأن أرى أبناء البلدة الطيبة، وكلهم مسلمون، لا كيان لهم ولا هوية ولا مرجعيّة ولا شخصيّة معنويّة، لا مسجد ولا حسينيّة، وكأنّهم يعيشون خارج التاريخ، أو على هامش الحياة. فأردت أن أهدي لهم ما يفتخرون ويعتزون به من شخصيّة دينيّة ومعنويّة. فلم أجد من هو أجدر وأعظم من القيام بهذه المهمة إلا سماحة الإمام السيّد موسى الصدر المعروف بمواقفه المشرّفة الوطنيّة والإجتماعيّة والدينيّة والإنسانيّة. وكانت زيارة الإمام لهذه البلدة هي تتويج للدعوة الأمنية التي وُجهت إليه».

كانت هذه الزيارة المباركة بمثابة مرحلة جنينيّة لهذه الهوية التي ستنمو وتترعرع كالطفل الذي سيصبح مع الزمن عملاقاً.

لقد أيقظت هذه الزيارة البلدة من غفوتها، وحرَّكت فيها القيم النائمة، فأخذت تتلمس طريق الإعتزاز بالله وبالنفس وبالشخصيّة المعتبرة.

وتقدّم العُمرُ بأبي محمد، فأراد أن يُذكِّر النّاس من جيله، وجيل الشباب الواعد، بأن الإمام السيّد موسى الصدر قد مرّ في هذه البلدة، وترك فيها بصمات مُضيئة خالدة لا يمحوها الزمن. وجعلها تزهو بهويتها وكيانها، بعيداً عن الإنعزال. والتطرف والعصبيّة تماماً كما هو حال المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى الذي أسسه الإمام خدمة للطائفة ولجميع أبناء الوطن.

من أجل ذلك ووفاءً منه للإمام المُغيّب بمؤامرة محليّة وإقليميّة ودوليّة ـ قرَّر أبو محمد تزيين قاعة حسينيّة البلدة بلوحة صخريّة كبيرة رائعة نُحِتَ عليها بحروفٍ صخريّةٍ نافرة «قاعة الإمام القائد السيّد موسى الصدر» تخليداً لذكرى زيارة الإمام المباركة لهذه البلدة الطيبة.

ثالثاً: مرحلة الترشيد والشريعة: يُعتبر الحاج محمد علي حيدر أحمد (أبو عفيف رحمه الله) الرفيق الدائم لمرشد حيدر أحمد(أبو محمد) في معظم تحركاته ومواقفه. وكان أبو عفيف على شيء من الإلمام بالقراءة والكتابة بعكس أبو محمد الذي كان أُميّاً، لكن ذلك لم يكن ليحُل دون عملهما الطليعي والجهادي المشترك في سبيل الله والنّاس. وعملياً في غياب علماء الدين عن البلدة، كان الحاج أبو عفيف بمثابة إمام البلدة في الإرشاد والحث على الإيمان والتقوى، وكان على إطلاع واسع على العبادات والمعاملات، وعلى الأحكام الشرعيّة في الحلال والحرام والطهارة والنجاسة، وغسل الميت والصلاة عليه.. وصلاة العيد بإذنٍ من القاضي الدكتور عمرو، وكان أهل البلدة يلجأون إليه في إشكالاتهم وأمورهم الدينيّة. وكان يقوم بأعمال وخدمات دينيّة وإنسانيّة بصمت وسرِّية بين العائلات المُعدَمَة في البلدة. وفي سؤاله عن ذلك كان جوابه أن الخير يتدفق عليه ودون حساب إزاء كل عمل إنساني أو دينيّ كان يقوم به.

كان يتحرّك من خلال خلفيّة دينيّة واجتماعيّة وإنسانيّة، وكان صلباً وعنيداً في المبدأ والعقيدة، ورغم تعرُّضه للضغوط والمضايقات والإستفزازات إبان الحرب، بقي صامداً، فلم يُهادِن ولم يُساوم ولم يتذلَّل ولم يتوسّل ولو كلفّه ذلك حياته.

وكان همّه الأكبر هو إنجاز بناء المسجد والحسينيّة في البلدة والذي اكتمل بعد سنوات طويلة من بداية العمل به.. ذلك بحسب المبالغ الماليّة المتوفرة من المحسنين والطيبيّن ورجال الأيادي البيضاء من المسلمين والمسيحيين.

وقد توثّقت عُرى الصداقة والمحبة بينه وبين الشيخ الدكتور يوسف محمد عمرو، لا سيما وأن هذا الأخير، قد أحبَّ بلدة كفرسالا كثيراً. وعمل جاهداً على خدمتها دينياً وإجتماعياً، وإليه يعود الفضل في تأليف لجنّة وقف إسلاميّ ترعى شؤون البلدة وشجونها، والتي تمّ تسجيلها في قلم محكمة بيروت الشرعيّة الجعفريّة عند سماحة القاضي السيّد عبد الكريم نور الدين في 8 أيلول 1977م. وقد تشكلّت اللجنة يومها برئاسة الحاج محمد علي حيدر أحمد، وعضوية أحمد ديبو شمص والأستاذ يوسف حيدر أحمد وكانت أوّل لجنة وقف تتشكّل في البلدة بعد تأسيسها. وممّا يجدر ذكره أن الشيخ يوسف عمرو كان آنذاك يتابع دراسته في النّجف الأشرف. كما يعود الفضل إلى القاضي عمرو في تأسيس المؤسسة الخيريّة الإسلاميّة لأبناء جبيل وكسروان وبناء مركزٍ إسلاميٍ ومستوصف خيري تابع لها في حي كفرسالا في أواخر القرن العشرين بالتعاون مع فضيلة الشيخ محمد حسين عمرو وسائر العلماء الأفاضل في المؤسسة الخيريّة الإسلاميّة الآنفة الذكر.

كان فرح الحاج أبو عفيف غامراً بعد الإنتهاء من بناء المسجد والحسينيّة حيث تفرّغ للعبادة في المسجد والقيام بخدمته من صيانة ونظافة وتشغيل صوتيات (الأذان والقرآن) وكان يعاونه في ذلك صديقه الوفي أبو محمد.

كان أحبُّ الأمور إليه الصلاة في المسجد، وقد لازمته هذه الأُمنيّة حتى في أصعب لحظات أُخريات حياته الحرجة التي أُصيب فيها بمرض عُضال أقعده الفراش.

وفي لحظة الإحتضار وعندما سمع صوت أذان الظهر إنتفض قائماً ليؤذن ويُصلي على سريره ثم ليسقط جُثة هامدة وقد جمدت الصلاة بين شفتيه مُستودعاً روحه بين يدي خالقها عزّ وجل.

الخاتمة: نورٌ على نور

تقاطعت مراحل العمل الثلاث في البلدة وتمايزت وكانت كل واحدة منها رديفة الأخرى كحلقات السلسلة يشدُّ بعضها بعضاً وكانت الوجوه والأيادي البيضاء التي أنجزت هذه المراحل بمثابة مصابيح مُضيئة أنارت سماء البلدة. وأثلجت قلوب أهلها بألق العمران وعبق أنوار الإيمان وذكر الله...

كما لا ننسى الجهود المباركة التي بذلها الأستاذ محمد ديب محمود حيدر أحمد والأستاذ كميل دعيبس حيدر أحمد بتأسيس وإنشاء متوسطة كفرسالا الرسميّة ودورها في نشر العلم والثقافة خلال خمسين عاماً تقريباً بين الأهالي بالتعاون مع صاحب العقار حميد الحاج محمد نكد حيدر حسن ومع الأهالي الكرام وعلى رأسهم السادة أعضاء لجنة الوقف الآنفة الذكر والمرحوم الأستاذ يوسف قبلان (1) في الستينيات من القرن الماضي.

لقد جاهد هؤلاء الثلاثة وصبروا وعملوا بعزم وأمانة وإندفاع ونيةٍ صادقة صافية، وكان لسان حالهم يُظلِّله قوله تعالى في كتابه الحكيم: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) سورة التوبة، آية: 105.

كان شعارهم أن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام.

لكن... بدل أن يُضيئوا شمعة فقد أناروا زاوية مباركة من زوايا الوطن.

جزاكم الله عنَّا خير الجزاء