التآخي والعصبيّة

26/09/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم: مدير التحرير المسؤول

الدكتور الشيخ أحمد محمد قيس

عملاً بالآية القرآنية التي تقول:

}وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ{

سورة الذاريات، آية 55.

إخترنا هذا الموضوع لأهميّته القصوى، وخصوصاً في هذا الوقت الراهن الذي تعيشه أمّتنا، وإن كان البعض يعتقد بعدم جدواه حيث تفاقمت الأمور ووصلت الى حد خطير وغير مسبوق إلا أن هذا الإعتقاد نفسه يشكل سبباً إضافياً لضرورة التذكير عسى الله سبحانه أن يلهم أبناء هذه الأمّة الى الخير والهدى. لذا نقول:

كان العصر الجاهلي مسرحاً للمآسي والأرزاء، في مختلف مجالاته ونواحيه الفكرية والمادية.

وكان من أبشع مآسيه، ذلك التسيّب الخلقي، والفوضى المدمّرة، مما صيّرهم يمارسون طباع الضواري، وشريعة الغاب والتناكر والتناحر، والفتك والسلب، والتشدق بالثأر والإنتقام.

فلمّا أشرق فجر الإسلام، وأطلَّ بأنواره على البشريّة، استطاع بمبادئه الخالدة، ودستوره الفذّ أن يطبّ تلك المآسي، ويحسم تلك الأرزاء، فأنشأ من ذلك القطيع الجاهلي، }خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ{ سورة آل عمران، الآية 110. عقيدة وشريعة، وعلماً وأخلاقاً. فأحلّ الإيمان مكان الكفر، والنظام محل الفوضى، والعلم محل الجهل، والسلام محل الحرب، والرحمة محل الإنتقام.

فتلاشت تلك المفاهيم الجاهلية، وخلفتها المبادئ الإسلامية الجديدة، وراح النبي(ص)، يبني وينشئ أمة مثالية تبز الأمم نظاماً، وأخلاقاً وكمالاً.

وكلما سار المسلمون أشواطاً تحت راية القرآن، وقيادة الرسول الأعظم (ص)، توغلوا في معارج الكمال، وحلّقوا في آفاق المكارم، حتى حققوا مبدأ المؤاخاة بأسلوب لم تحققه الشرائع والمبادئ الأخرى، وأصبحت أواصر العقيدة أقوى من أواصر النسب، ووشائج الإيمان تسمو على وشائج القومية والقبلية، وغدا المسلمون أمة واحدة، مرصوصة الصف، شامخة الصرح، خفّاقة اللواء، لا تفرقهم النعرات والفوارق.

}يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ{ سورة الحجرات، الآية 13.

 

وطفق القرآن الكريم يغرس في نفوس المسلمين مفاهيم التآخي الروحي، مركزاً على ذلك بآياته العديدة وأساليبه الحكيمة الفذّة.

فمرة شرّع التآخي ليكون قانوناً للمسلمين }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ{. سورة الحجرات، الآية 10.

وأخرى يؤكد عليه محذراً من عوامل الفرقة، ومذكراً نعمة التآلف والتآخي الإسلامي، بعد طول التناكر والتناحر الجاهليين، }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ. فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا{ سورة آل عمران، الآية 103.

وهكذا جهد الإسلام في تعزيز التآخي الروحي وحماه من نوازع الفرقة والإنقسام بما شرّعه من دستور الروابط الإجتماعية في نظامه الخالد.

وإليك نموذجاً من ذلك:

أولاً: تسامى بشعور المسلمين وعواطفهم، أن تسترقها النعرات العصبية، ونزاعاتها المفرّقة، ووجهها نحو الهدف الأسمى من طاعة الله تعالى ورضاه:

فالحب والبغض، والعطاء والمنع، والنصر والخذلان، كل ذلك يجب ان يكون لله عز وجل، وبذلك تتوثق عرى المؤاخاة، وتتلاشى النزعات المفرقة، ويغدو المسلمون كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضاً.

وإليك قبساً من آثار هذا من اهل البيت (ع)، في هذا المقام:

عن الإمام محمد علي الباقر(ع) قال:«قال رسول الله (ص)ودّ المؤمن للمؤمن في الله، من أعظم شعب الإيمان، ألا ومن أحب في الله، وأعطى في الله، ومنع في الله، فهو من أصفياء الله»(1).

وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق L:«إن المتحابين في الله يوم القيامة، على منابر من نور، قد أضاء نور وجوههم، ونور أجسادهم، ونور منابرهم، كل شيء حتى يعرفوا به، فيقال هؤلاء المتحابون في الله»(2).

وقال الإمام عليّ بن الحسينL:«إذا جمع الله عزَّ وجل الأولين والآخرين، قام مناد ينادي بصوت يسمع الناس، فيقول: أين المتحابون في الله؟ قال: فيقوم عنق من الناس، فيقال لهم: اذهبوا الى الجنّة بغير حساب.

قال: فتلقاهم الملائكة فيقولون: الى أين؟ فيقولون الى الجنة بلا حساب.

قال: فأي ضرب أنتم من الناس؟ فيقولون: نحن المتحابون في الله.

فيقولون: وأي شيء كانت أعمالكم؟ قالوا: «كنّا نحب في الله، ونبغض في الله.

قال: فيقولون: «نعم أجر العاملين»(3).

وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)كل من لم يحب على الدين، ولم يبغض على الدين فلا دين له»(4).

وعن جابر الجعفي عن أبي جعفر الباقر (ع) قال:«إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيراً، فانظر الى قلبك، فإن كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته، ففيك خير، والله يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته، فليس فيك خير، والله يبغضك، والمرء مع من أحب»(5).

ثانياً: رغبَّ المسلمين فيما يؤلفهم، ويحقق لهم العزة والرخاء، كالتواصي بالحقِّ، والتعاون على البرِّ، والتناصر على العدل، والتكافل في مجالات الحياة الإقتصادية، فهم في عرف الشريعة أسرة واحدة، يسعدها ويشقيها ما يسعد أفرادها ويشقيهم.

دستورها }مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ{ سورة الفتح، الآية 29.

وشعارها قول الرسول الأعظم(ص)، «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»(6).

ثالثاً: حذّر المسلمين مما يبعث على الفرقة والعداء، والفحش والبذاء والإغتياب، والنميمة والخيانة والغش، ونحوها من مثيرات الفتن والضغائن، ومبدأهم في ذلك قول النبي (ص):

«المؤمن من أمنه الناس على أموالهم ودمائهم، المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه، والمهاجر من هجر السيئات»(7).

رابعاً: أتاح الفرص لإنماء العلاقات الودّية بين المسلمين، كالحث على التزوار، وارتياد المحافل الدينية، وشهود المجتمعات الإسلامية، كصلاة الجماعة ومناسك الحج، ونحو ذلك.

أمَّا العصبيّة

فهي: مناصرة المرء قومه، أو أسرته، أو وطنه، في ما يخالف الشرع، وينافي الحق والعدل.

وهي: من أخطر النزعات وأفتكها في تسيب المسلمين، وتفريق شملهم،

وإضعاف طاقاتهم، الروحية والمادية، وقد حاربها الإسلام، وحذّر المسلمين من شرورها.

فعن أبي عبد الله الصادق(ع)، قال: «قال رسول الله (ص)، من كان في قلبه حبة من خردل من عصبيّة، بعثه الله تعالى يوم القيامة مع أعراب الجاهليّة»(8).

وقال الإمام الصادق(ع)من تعصّب عصّبه الله بعصابة من النار»(9).

وقال النبي(ص): «إن الله تبارك وتعالى قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهلية، وتفاخرها بآبائها، ألا إن الناس من آدم، وآدم من تراب، وأكرمهم عند الله أتقاهم»(10).

وقال الباقر(ع): جلس جماعة من أصحاب رسول الله(ص)، ينتسبون ويفتخرون، وفيهم سلمان. فقال عُمر: ما نسبك أنت يا سلمان وما أصلك؟

فقال: أنا سلمان بن عبد الله، كنت ضالاً فهداني الله بمحمّد، وكنت عائلاً فأغناني الله بمحمّد، وكنت مملوكاً فأعتقني الله بمحمد، فهذا حسبي ونسبي يا عمر.

ثم خرج رسول الله(ص)، فذكر له سلمان ما قال عُمر وما أجابه، فقال رسول الله (ص): «يا معشر قريش إن حسب المرء دينه، ومروءته خلقه، وأصله عقله»، قال الله تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَهِ أَتْقَاكُمْ{ سورة الحجرات، الآية 13.

ثم أقبل على سلمان فقال له: «إنّه ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلا بتقوى الله عزّ وجل، فمن كنت أتقى منه فأنت أفضل منه»(11).

وعن الإمام الصادق عن أبيه عن جده (ع) قال:«وقع بين سلمان الفارسي (رض)، وبين رجل كلام وخصومة، فقال له الرجل: من أنت يا سلمان؟ فقال سلمان: أمّا أولي وأولك فنطفة قذرة، وأمّا آخري وآخرك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة، ووضعت الموازين، فمن ثقل ميزانه فهو الكريم، ومن خفّ ميزانه فهو اللئيم»(12).

وأصدق شاهد على واقعية الإسلام، واستنكاره النعرات العصبية المفرّقة، وجعله الإيمان والتقى مقياساً للتفاضل، أنّ أبا لهب ـ وهو من صميم العرب، وعمّ النبي ـ صرح القرآن بثلبه وعذابه }تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ{ سورة المسد. آية 1، 2، 3. وذلك بكفره ومحاربته لله ورسوله.

وكان سلمان فارسياً، بعيداً عن الأحساب العربية، وقد منحه الرسول الأعظم (ص)، وساماً خالداً في الشرف والعزة، فقال: «سلمان منّا أهل البيت».

وما ذلك إلاّ لسمو إيمانه، وعظم إخلاصه، وتفانيه في الله ورسوله.

حقيقة العصبيّة

لا ريب أنّ العصبيّة الذميمة التي نهى الإسلام عنها هي: التناصر على الباطل، والتعاون على الظلم، والتفاخر بالقيم الجاهلية.

أمّا التعصّب للحق، والدفاع عنه، والتناصر على تحقيق المصالح الإسلامية العامة، كالدفاع عن الدين، وحماية الوطن الإسلامي الكبير، وصيانة كرامات المسلمين وأنفسهم وأموالهم، فهو التعصّب المحمود الباعث على توحيد الأهداف والجهود، وتحقيق العزة والمنعة للمسلمين، وقد قال الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام: «إنّ العصبيّة التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبيّة أن يحبَّ الرجل قومه، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظلم»(13).

ومن استقرأ التاريخ الإسلامي، وتتبع العلل والأسباب، في تأخر المسلمين، علم أنّ النزاعات العصبيّة، هي المعول الهدّام، والسبب الأول في تناحر المسلمين، وتمزيق شملهم، وتفتيت طاقاتهم، مما ادى بهم الى هذا المصير القاتم.

فقد ذلّ المسلمون وهانوا، حينما تفشّت فيهم النعرات المفرّقة، فانفصمت بينهم عرى التحابب، ووهنت فيهم أواصر الإخاء، فأصبحوا مثالاً للتخلف والتبعثر والهوان، بعد أن كانوا رمزاً للتفوق والتماسك والفخار، كأنهم لم يسمعوا كلام الله تعالى حيث قال:

}وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا{. سورة آل عمران، الآية 103.

فيا إخوتي في الله هلّموا إلى التعاون في الله والتناصر في الله فاليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل.

والحمد لله رب العالمين