راية كربلاء

26/09/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

للكاتب والشاعر حسن علي حمادة(1)

عمل ملحمي فريد، صُوَرَهُ مكتملة

تعيد القارئ إلى أولى محطات الفداء الحسينيّة

طوبى لروحكَ يا أَبي

وَفَّيْتَ عِلّيين أَجرا

طوبى لأرضٍ قد حَوَتْ

جَسَداً حوى نُبلاً وطُهرا

بقلم مستشار التحرير

الدكتور عبد الحافظ شمص

وقد تلى قصيدة الإهداء، مقدّمة مُسْهبة لسماحة القاضي السيّد محمّد حسن الأمين، الذي قدّر جهود الشاعر حمادة، جاء فيها:«لم يصدر كتاب أو ملحمة أو مسرحيّة في العصر الحديث عن واقعة كربلاء إلاّ قَرَأتُه، وفي كلّ قراءة كان المعيار التّقويمي لهذا النّص، وبالأخص إذا كان أدبيّاً أو شعريّاً، هو قدرة النّص على تَمثُل روح عاشوراء، أي قدرته على الإقتراب من هذه الرّوح، وكانت قليلة تلك النّصوص التي اقتربت من حدّ التماهي في هذه الرّوح السّامية الخالدة، ولكن هذا القليل كان سبباً في أن اكتشف حقيقة مُهمّة، وهي أنّ الوصول إلى حقيقة عاشوراء واكتناهها، وبالتالي لتقديم الرّواية المؤثرة لها، لا يتمّ إلاّ من حِسٍّ مُرهف بتجليّات الملحمة الحسينيّة في عصر الكاتب، أعني في الدّلالات الفنيّة المتجددّة حول الإنسان والحريّة والعدالة بحيث يأتي العمل الأدبي الذي يتناول عاشوراء وكأنّه يعكس صورة عصرنا وحاجاته وقلقه وتطلعاته.

ويُتابع: قُلْتَ يا صديقي، إنّ كتابة هذه الملحمة اقتضتكَ أربع سنوات من الجهد المضني، فَدَعْني أقولُ لك أنها اربع سنوات سِمان، لو لم يكن لكَ من العمر سواها لكفاك ذلك نعمةً وفخراً لأنّها تُكرّسك واحداً من أنصار الإمام الحسينQ، فهنيئاً لك بها ذخراً يوم القيامة، يوم لا ظلٌ إلاّ ظلُّ الله»...

لقد وهب الله سبحانه وتعالى الشعراء عقلاً مُميّزاً وإدراكاً منتجباً يؤدّيان في لحظة معيّنة، بالنّسبة لكلّ عمليّة خلقٍ وإضافة إلى تغييرات جذريّة للكيف، وإلى تحوّل الشكل بقفزات مِنْ كَيْفٍ مُسْتحدث وجديد وفقاً لسُنّة التطوّر في طبيعة كلِّ فردٍ من أفراد المجتمع.

 

والجانب المنطقي الذي يُبَيّن معنى التّعبير اللغوي في ما يُسمّى الورائيات. وإيضاح التأويلات أو مراجعة الحسابات المنطقيّة يمكن أن يتكوّن من مفاهيم متضمّنة نظريّة الدّلالة.. ومحاولة تطبيقها بتعبير اللغة المعنيّة يتوقف، إلى حدّ كبير، على اختبار التأويل حيث التّرادُف والصّدق في التّحليل والتّصوير ونقل الواقع والوقائع ونقدها وتحليلها بشكل واضح.. ومَنْ غير الشاعر لمعالجة القضايا الإجتماعيّة والسّياسيّة وإيضاحها ومتابعة نتائجها حتى تحقيقها...

في الصفحة 14 من الملحمة، يقول الشاعر بعنوان (مع القلب):

قم الليل يا قلب، إلاّ قليلاً

أو انقص من النّصف أو زد قليلا

وسَلْ بعد ما شئت ربّاً كريماً

يهب كل ما كنت ترجو طويلا

فيغسل بالنّور مِنّا قلوباً

ويهدي إلى الرّشد مِنّا عقولا...

وفي زمن الحرب ذا لا تسله السّلامة

بل سَلْهُ صبراً جميلا...

وسَلْهُ الشهادة فيه أو النّصر

ما العيش إمّا ضَلَلْتَ السّبيلا...

فما مات مَنْ مات حُرّاً عزيزاً

وما عاش مَنْ عاش عبداً ذليلا...

وعن النبيّ P، أنّه قال:

الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة.

قال سعد بن مالك: دخلتُ على النبيّ P، والحسن والحسين يلعبان على ظهره الشريف، فقلتُ يا رسول الله: أتحبّهما؟ قال P: وما لي لا أحبّهما وأنّهما ريحانتاي من الدُّنيا؟...

ورُوي عنه P، قوله: الحسن والحسين إمامان قاما أو قَعَدا. وتواترت الأخبار عن النبيِّ P، أنّه كان يقول: للحسن والحسين اللهم إني أُحبّهما وأُحبّ من يحبّهما وهما ريحانتاي من الدّنيا، وهما سيّدا شباب أهل الجنّة، وأنا سِلْمٌ لمن سالمهما وَحَرْبٌ لمن حاربهما...

وقد سمَّى رسولُ الله P، إبنه الحسن كما سمّى أخاه الحسين في وقت أنَّ العرب لم يكونوا قد سمّوا قبلهما.. فقد حَجَبَ الله هذين الإسمين عن أن يُسمّى بهما حتى سمّى النبيّ P، ابنيه الحسن والحسين.

الإلهام والفكرة

الإلهام حالة تُؤدي إلى أشكال مختلفة من النشاط الإبداعي، وتتميّز بتركيز طاقة الفرد الفكريّة على ما هو بصدد ابتداعه، وبسموّ عاطفي يجعل العمل مُنتجاً بطريقة غير عاديّة.. وعلى النّقيض من المفهوم المثالي الذي يعتبر الإلهام حَدْساً وسموّاً صوفيّاً، في وقت أنّ المادية تنفي أن يكون للإلهام أيّ طابع يفوق الطبيعة، ويعتبره البعض ظاهرة عقليّة متفرّدة تحدّدها الحوافز الإجتماعيّة والفرديّة للإبداع، كما عمليّة الخلق الإضافة ذاتها، ومن طريق الإبداع وحده...

والفكرة، التي تولد من الإلهام، هي تلقين للإنسان من أعلى، في صورة إيحاء إلهي.. والنّزعة الإلهاميّة نادراً ما توجد في صورة خالصة، وَبِصفة أساسيّة في المذاهب الفلسفيّة التي ابتدعها بإيحاء إلهيّ مَنْ سَبَقَنا من العُلماء والشعراء الكبار، والتي تُسهم في هذا المبدأ كفلسفة عقليّة راجحة تنشر ثقافة العلوم الإنسانيّة في المجتمع الإنساني...

« يا نفس لا تستريحي

وَحَقُّنا مُباح

لا يرهبنّكِ لَيْلٌ

لكلّ ليلٍ صباح...

يهون في الليل جُرْحٌ

بمهجتي نَضّاح

إذا سفينة عمري

تقاذفتها الرّياح

فيا سيوف خُذيني

وعَرْبدي يا رماح

ما خاب في الله ساعٍ

مراده الإصلاح»...

إدراك الأشياء والظَّواهر

إنّ مبدأ إدراك الأشياء والظواهر في عمليّة ظهورها وتطوّرها وعلاقاتها بالظروف التّاريخيّة المعيّنة التي تحدّدها الظروف الآنيّة والتاريخيّة، يتضمّن التّناول التّاريخي لمعالجة تلك الظواهر كناتج تطوّر تاريخي مُحدّد، وهي معالجة تبحث كيف نشأت هذه الظواهر وكيف تطوّرت وبلغت حالتها الرّاهنة.

والتناول التاريخي كمنهج محدّد في البحث النّظري ليس تحديداً لأيّ تغيير حتى الكيف منه، وإنّما هو تحديد لتلك التغيّرات التي تعكس تكوين الصّفات النّوعيّة للأشياء، والرّوابط بينها، محدّداً جوهرها وصفاتها النّوعيّة والكيفيّة.. ويفترض التّناول التّاريخي مسبقاً إدراك الطبيعة التي تتبدّل.. والمتابعة لتغيّرات الأشياء والعناصر.. وقد أصبح التّناول التّاريخي مبدأً أساسيّاً للعلم مَكَّنَ من إعطاء صورة علميّة للطبيعة وكشف القوانين التي تحكم تطوّرها.. ويُفضّل التّناول التّاريخي الذي يشكّل جانباً مكمّلاً وَمُهمّاً من المنهج الجدلي، تمكّن الإمام الحسينQ، من الإنتقاليّة التاريخيّة وإنكار مبدأ التناول التاريخي والصراع ضدّه وتفسيره بروح وضعيّة وتجريبيّة، هي سمات مُمَيّزة للفلسفة الحسينيّة الإيمانيّة الفاضلة والمثاليّة....

التنميط في الفن الشعري

هو منهج فنّي للتغلغل في جوهر الأشياء الموضوعيّة والظواهر.. ونهج لترديد الأفكار والمشاعر الإنسانيّة في شكل صور شعريّة حيّة ونابضة.. والتنميط عمليّة مركبّة تُمثّل الوحدة المتغلغلة المتبادلة بين جانبين متباينين من العمل الإبداعي المتمثّل بمطوّلات شعريّة حسينيّة، تُبيّن مدى الحبّ الذي يسكن قلب الشاعر والذي يحمله الشاعر المؤمن للإمام الحسينQ، ومدى قربه من الحقيقة حيث التّعميم الفنّي والتغريد الفنّي للمضمون الموضوعي.. فالشاعر حسن حمادة وفقاً لتصميمه الإيديولوجي والخصائص المعيّنة لطبيعته الشعريّة الأدبيّة، يهضم هذا المضمون ويضفي عليه شكلاً انفعاليّاً حيّاً وأصيلاً يعطي القارئ متعة جماليّة سامية في حين أنّه يدرك أنّ على الشاعر لكي يخلق صورة عظيمة وصادقة للظواهر النّمطيّة للحياة، ويكثف جوهر العمليّات والتناقضات الكامنة في مبدأ التطوّر الإجتماعي وهو في سبيل هذه الغاية يدرس الحياة وينتقي ويلتقط أكثر السّمات تمييزاً كالسّلوك والعادات والأذواق والسّمات الخارجيّة المشتركة بين مجموعة معيّنة من النّاس ويجسّد تصميماته بمساعدة الخيال الإبداعي بتصوير الحقائق كما هي، ويتصرّف في ظروف مُعيّنة بالأنماط الفنيّة في قصائده ومقطوعاته الشعريّة تكون قادرة وَمُهيّأة على أن تمارس تأثيراً إيديولوجيّاً وانفعالياً كبيراً...

إنّ المشاعر الإنسانيّة التي تعبّر عن موقف إزاء ما يحدث، مثلاً (الفرح، الحزن) تسمّى أحياناً انفعالات الحبّ والكراهيّة، وهي صورة نوعيّة لانعكاس الواقع.. فهي تعكس علاقات النّاس ببعضهم وبالعالم الموضوعي.. وتتشكل انفعالات الإنسان بفعل حركة المجتمع، وتلعب دوراً هائلاً في السلوك كما في النشاط العملي والمعرفي... وكما هو معروف، أنّه بدون الإنفعالات الإنسانيّة لما كان هناك، ولا يمكن أن يكون، ولن يكون أيّ سعي إنسانيّ نحو الحقيقة.. فالإنفعالات هي مؤشرات نجاح أو فشل لنشاط الإنسان، ومطابقة أو عدم مطابقة الموضوعات لاحتياجاته واهتماماته وقناعاته، ومن ثُمّ فإنّ للإنفعالات دوراً جوهرياً في تنظيم نشاط النّاس، والشاعر من هؤلاء النّاس الّذين تميزوا بسلوكهم وخيالهم وبفهمهم المطلق.. وتكون إيجابيّة في معظم الأحيان ذات نبرة إضافيّة تحقّق هدف صاحبها بتكريس مبدأ الحبّ والمحبّة والأمن والأمان في عالم متناقض في معظم الأمكنة والأحوال...

يبقى أنّ الجانبين النّوعييّن لعلاقة الشاعر بالواقع، العدل، الظلم، الخير، الشّر، الحبّ، الحقد إلخ... في كينونة النّفس وديمومتها، يُعبّران عن الأخلاق الرّفيعة والشرف من خلال التقويمات الخلقيّة الذّاتية لدى مختلف فئات المجتمع.. وأمّا الجماليّ فهو تجسيد لتلك الجوانب من العلاقات الخلقيّة الذاتيّة والإجتماعيّة التي تدعم التطوّر المنسّق للفرد وإبداعه الحرّ وتحقيقه النّاجح ونضاله ضدّ الظلم، ويتضمّن أيضاً الجانب الذاتي، أي متعة الفكر الإنسانيّ بعرض قواه الإبداعيّة بنشاطه الأدبي والشعري والتّاريخيّ...

حسن حمادة، زيَّن معظم صفحات كتابه بلمعات وطنيّة دينيّة اجتماعيّة، سالكاً معارج الإصلاح، بالدّعوة إلى الإيمان الصحيح المطلق بعقيدةٍ هي من أهم العقائد المنزلة، باعتباره السّلوك الأفضل في هذه الأيام، ويُنمّي عن طيب محتد وعلوّ همّة في ما يخصّ السّيرة الحسينيّة الشريفة، محاولاً الولوج إلى قلب الكلمة ليهنأ بإرتعاشاتها وتنهّداتها وبمضمونها الفكري والإيماني الخالص بصدق، وانفعال إيجابيّ...

وأخيراً فإنّ الصُّور الإبداعيّة التي تعكس حياة الإمام الحسينQ، هي التي تفرض الإحترام والحبّ والإعجاب، وَتُبيّن أنماط الشعراء المبدعين وتزيد تأثير إبداعهم في الحياة.. والقارئ والمتلقي هُما أساس نجاح كلّ عمل إبداعي، ومن ثُم فإنّ وحدة الجماليّ والأخلاقيّ أساس الدّور المتحوّل الذي تقوم به الفنون الشعريّة وهي التي تُحيي شاعريّة الشاعر وأحاسيسه المتكوّنة بقدر ما تحثّه على السّير في هذا الطريق الشاق والشائق في آن فيحقّق ما تصبو إليه نفسه التوّاقة إلى الأفضل..

وقد تفرّد حسن حمادة في التّعبير إكتمالاً وتعميماً وبالتَّدليل المتخيَّل على حالات من الإبداع، مُظهراً الجمال الرُّوحي الإيماني للكلمة التي تسكن القلب والفكر وتدفع إلى البذل والعطاء دون توقّف