أكثروا من ذكر هادم اللذات

08/01/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

المدير المسؤول

الشيخ الدكتور أحمد محمد قيس

يقول الله تعالى في سورة الملك:تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ آية:1ـ2.

ورد عن النبيّ الأعظم(ع): أكثروا من ذكر هادم اللذات(1).

وفي حديث آخر بيّن هذا المعنى يقوله: شوِّبوا مجلسكم بذكر مُكدّر اللذات، قالوا: وما مكدَّر اللذات، قال: الموت(2).

وكذلك ورد عن الإمام عليّ (ع)، هذا المعنى بقوله: أذكروا هادم اللذات، وَمُنغص الشهوات، وداعي الشتات، اذكروا مفرق الجماعات ومباعد الأمنيات، ومدني المنسيات، والمؤذن بالبين والشتات.

من العجيب أنّ كثيراً من النّاس لا يذكرون الموت ولا يُحبِّون أن يُذّكروا به، ومنهم من يتشاءم ممن يذكره بذلك وينبهه، كأنما كُتِبَ الموت على غيرهم، وينسوا أو يتناسوا أن الأحياء جميعاً هم أبناء الموتى، وذراري الهلكى، أو كما عبّر أمير المؤمنين عليّ(ع)، من خلال وَصيّتة لإبنه الإمام الحسن(ع): منِ الوالد الفانِ، المقرّ للزمان، المدبر العمر، المستسلم للدهر، الذَّام للدُنيا، الساكن مساكن الموتى، والظاعن عنها غداً، إلى المولود المؤمِّل ما لا يُدرك، السالك سبيل من قد هلك... وأسيرِ الموت... وخليفةِ الأموات.

فما من أحد منّا إلاّ ومعه أصل شهادة وفاته، فقد نعى الله إلينا الرسول الكريم(ع)، ونعانا إلى أنفسنا حيث قال في محكم كتابه:( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) سورة الزمر، آية:39.

فالموت لا يميّز بين صغير وكبير، ولا صحيح وسقيم، ولا غني وفقير، ولا أمير وغفير، ولا عالم وجاهل، ولا برٍّ وفاجر.

يقول تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَسورة الأنبياء، آية:34.

والموت ليس أمراً عدمياً، إنّما هو إنتقال من مرحلة إلى أخرى، فالفرد منَّا يتكون في البداية من نُطفة وبويضة ينتقل بعدها إلى عالم الرحم، ثُمّ إلى عالم الدُنيا، وبالموت ينتقل إلى عالم البرزخ، ومن ثُمَّ إلى يوم القيامة، وأخيراً إلى الجنّة أو النّار.

وفي الحديث الشريف: خلقتم للأبد، وإنّما تنقلون من دار إلى دار. 

وعنه أيضاً: الدُنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنابهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم. 

ولسائل أن يسأل ماالحكمة من وراء قول النبيّ(ع) ، هذه المقولة: أكثروا من ذكر هادم اللذات؟؟.

وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى؟

والجواب على ذلك واضح وبيّن: حتى لا تأخذنا الغفلة وحبّ الدُنيا فتقسو قلوبنا بطول الأمل فَنعصي الإله ونهوى في الدرك الأسفل من النّار.

وقال رسول الله(ع): موتوا قبل أن تموتوا.

وبالتالي تأكيد النبيّ(ع)، لنا بالإكثار من ذكر الموت إنّما هو من باب العلاج لحب الدُنيا والإنغماس بشهواتها والإبتعاد عن طريق عبادة المولى سبحانه وتعالى، ومن باب شحذ الهمم والإستعداد الدائم لما بعد الموت لأنّ ما بعد الموت أعظم وأدهى كما جاء في(دعاء الحزين)، المروي عن الإمام زين العابدين(ع).

ولقد أوضح هذا المعنى باب مدينة علم النبيّ(ع)، الإمام عليّ(ع)، في وصيته الخالدة لإبنه الإمام الحسن(ع)، حيث قال:...أي بني...أحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوةٍ باليقين، ونوره بالحكمة، وذَلله بذكر الموت، وقرره بالفناء، وبصِّره فجائع الدُنيا، وحذِّره صولة الدهر إلى آخر كلامه ).

ويقول الإمام زين العابدين(ع)، في دعائه لله تعالى عند ذكر الموت:

...فإذا أوردته علينا وأنزلته بنا، فأسعدنا به زائراً، وآنسنا به قادماً ولا تشقنا بضيافته، ولا تخزنا بزيارته، واجعله باباً من أبواب مغفرتك، ومفتاحاً من مفاتيح رحمتك، أمتنا مهتدين غير ضالين، طائعين غير مستكرهين، تائبين غير عاصين ولا مُصرِّين، يا ضامن جزاء المحسنين، ومستصلح عمل المفسدين.

وورد عن الإمام عليّ(ع)، أنه قال: النّاس نيام فإذا ماتوا إنتبهوا.

فإذاً إنَّ الأمراض المهلكة التي تحول بيننا وبين تذّكر الموت والإستعداد له هي أمراض القلوب المعنويّة لحب الدُنيا والتعلق بها، والغفلة عن الموت، وذلك لأنّ كثيراً من النّاس يعتقدون بالموت ولا يعملون لما بعد الموت!. ولهذا الأمر جُملة من العلامات أوردها بعض العلماء منها: جفاف الدمع كدلالة على قساوة القلب، وقسوة القلب كدلالة على أكل الحرام، وأكل الحرام كدلالة على نسيان الموت، ونسيان الموت كدلالة على طول الأمل، وطول الأمل كدلالة على حبّ الدُنيا، وحبّ الدُنيا رأس كلّ خطيئة كما جاء في الحديث الشريف المشهور.

وينقل عن النبيّ الأعظم(ع) ما يصوّر لنا حال بعض النّاس بعد الموت ومدى فقرهم وحاجتهم للأعمال الصالحة، فعن بعض أصحاب النبيّ(ع) قال: قال رسول الله(ع): أهدوا لموتاكم، فقلنا: يا رسول الله وما نهديه للأموات؟. قال: الصدقة والدعاء.

وقال(ع): إنّ أرواح المؤمنين تأتي كل جمعة إلى السماء الدُنيا بحذاء دورهم وبيوتهم، ينادي كل واحد منهم بصوت حزين، باكين، يا أهلي، يا ولدي، ويا أبي، ويا أمي، وأقربائي، أعطفوا علينا يرحمكم الله، بالذي كان في أيدينا، والويل والحساب علينا والمنفعة لغيرنا وينادي كل واحد منهم إلى أقربائه: أعطفوا علينا بدرهم أو رغيف أو بكسوة يكسوكم الله من لباس الجنّة.

ثُمَّ بكى النبيّ(ع)، وبكينا معه، فلم يستطع النبيّ(ع) أن يتكلّم من كثرة بكائه.

ثُمَّ قال(ع): أولئك إخوانكم في الدّين، فصاروا تراباً رميماً بعد السرور والنعيم، فينادون بالويل والثبور على أنفسهم، ويقولون يا ويلنا لو أنفقنا ما كان في أيدينا في طاعة الله ورضاه، ما كنّا نحتاج إليكم، فيرجعون بحسرة وندامة... إلى آخر الحديث.

وهذه بعض الأبيات المنسوبة للإمام عليِّ بن مُحمّد الهاديّ (ع)، أنشدها للمتوكل العبّاسي، ليكون فيها مزيد تذكره وموعظة لنا جميعاً وهي:

باتوا على قلل الجبال تحرسَهم                   

غُلب الرجال فما أغنتهم القلل

واستنزلوا بعد عزِّ من معاقلهم

فأُودعوا حفراً، يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخ من بعدما قبروا

أين الأسرة والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت مُنعمةً

من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم

تلك الوجوه عليها الدود  يقتتل

قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا

وطالما عمروا دوراً لتحصّنهم

فخلّفوها على الأعداء وارتحلوا

أضحت منازلهم قفراً مُعطلةً

وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا.

وهنالك بعض الأبيات تنسب للإمام الحسين(ع) نقلها الإمام زين العابدين(ع)، عن أبيه ليلة العاشر من المُحرّم يقول فيها:

يا دهر أُفٍ لك من خَليلِ

كم لك بالإشراقِ والأصيلِ

من صاحب وطالبٍ قتيلِ

والدَهرُ لا يَقنعُ بالبديلِ

وإنّما الأمرُ إلى الجليل

وَكُلَّ حيّ سالكٍ سبيلِ.

وايضاً هذه بعض الأبيات التي تنسب لمُسلم ابن عقيل(رض)، والتي أنشدها وهو يقاتل الأعداء على باب المرأة الفاضلة (طوعة) في الكوفة، يقول فيها:

هو الموت فاصنع ما أنت صانع

فأنت بكأس الموت لا شك جارع

فصبراً لأمر الله جلَّ جلاله

فحكم قضاء الله في الخلق ذايع.

وفي الختام تعالوا إخوتي وأخواتي نُعدُّ العدّة للقاء الله سبحانه وتعالى، وذلك من خلال مراجعتنا لما سلف من أيام حياتنا في محاولة لإصلاح ما يمكن إصلاحه والتزود بالأعمال الصالحة لما تبقى لنا من سني العمر لأنّ اليوم عمل بلا حساب، وغداً حساب بلا عمل...