الأنبياء حياتهم ـ قصصهم- لآية الله السيد عبد الصاحب الحسنيّ

25/02/2014
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم: البروفيسورعلي مهدي زيتون(2)

«الأنبياء تتوزّع هذه الكلمة على مجموعة من العناوين الفرعيّة: سيمائيّة الفضاء الطباعي للعنوان، خلفيّة المؤلّف، مرجعيّته المعلوماتيّة، لمن يكتب؟ حدوده العلميّة.

1ـ سيمائيّة الفضاء الطباعي للعنوان: عنوان الكتاب »الأنبياء حياتهم ـ قصصهم». خصّص الغلافُ، وفي أعلاه، سطراً مستقلاً لكلمة(الأنبياء) التي طُبِعت بحرف نافرٍ وكبيرٍ وبلونٍ ذهبيٍّ. أمّا كلمتا:(حياتهم) و(قصصهم) فقد جُمِعتا في السطر الذي يليه، وطُبِعتا بحرفٍ غيرِ نافرٍ وأقلَّ حجما وبلونٍ أبيض، وقد فُصِل بينهما بشرطة.

وترسيمة العنوان على هذه الشاكلة إشارة واضحة إلى أنّ النبوّة هي الجوهر، وأنّ حياة الأنبياء ـ قصصهم، وإن كانت بيضاء نورانيّة، إلاّ أنّها لا ترقى إلى معنى النبوّة. ففرز الألوان موحٍ بوجود مسافة بين جوهر النبوّة وحياة النبيّ. ولئن تلاقى طرفا هذه المسافة عند مرجعيّة واحدة، إلاّ أنّ حياة النبيّ بواقعيّتها، وفي جانب منها، مثارٌ لأسئلةٍ لا يمكن أن يطرحها جوهر النبوّة.

وحين يوحي إلينا عنوان الكتاب بما أوحى به من خلال فضائه الطباعيّ، فإنّه يضع أمام المتلقّي سؤالاً جوهريّاً. هل سيشكّل ما تراءى لنا من العنوان مفسِّراً للقضايا التي سيعالجها الكتاب، ومن بينها قضيّة العصمة؟

2ـ خلفيّة المؤلّف: جاء السطر الأوّل من مقدّمة الكتاب ليقيم حدوداً بين نوعين من الصحابة.

«بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة على خير بريّته وآله وصحبه الكرام المهديّين»(ص5). وهو حين شمل صحب الرسول بالصلاة المقامة، لم يقصد جميع الصحب. خصّ منهم بتلك الصلاة من تنطبق عليهم صفتا: (الكرام) و(المهديّين)، وإلاّ لماذا أطلق الكلام على الآل وقيّده على الصحابة؟

ما نريد الوصول إليه، من كلّ هذا، سؤالٌ مفاده: هل يوجد لهذا الفرز علاقة بالسؤال الذي أثاره الفرز الطباعي في العنوان، أم أنّه يقف إلى جانبه ليشكّلا مدخلاً إلى المناخات الثقافيّة والعقديّة التي ستواجهنا في متن الكتاب؟

جاءت الصفحة الأولى من المقدّمة لتحدّد وبشكلٍ، قاطع جازم لا يقبل النقاش، المنهجَ الذي اصطنعه المؤلّف. فقد صدع القارئَ بفعل الأمر(اعلم) الصادر عن خلفيّة يقينيّة عنده. فهو يريد للقارئ أن يكون على بيّنة من أمره، حين يتابعه في مختلف فصول الكتاب. وما يجب أن (يعلمه) المتلقّي مجموعة من المقولات الراسخة المتعالية على النقاش أو الحوار:

ـ عصمة الأنبياء والأوصياء والملائكة.

ـ اتصافهم بكلّ كمال من العلم والكرم والصبر والمروءة والشجاعة.

ـ انشغال أوقاتهم ، وبشكل دائم، بالله.

ـ منزّهون عن المعصية.

وإذا قدّر المؤلّف أنّ شبهة قد يقع فيها بعضهم عندما يسمعون أدعية الأوصياء أو خطبهم ممّا ظاهره الوقوع في المعصية، راح، وعلى مدى صفحتين، يدفع هذه الشبهة بكلّ ما أوتي من لسنٍ، وما أعانته الروايات عليه.

3ـ مرجعيّته المعلوماتيّة: إذا شكّلت هذه اليقينيّةُ الخلفيّةَ العقليّة لما سيسطّره من آراء ومواقف، هل ستكون مرجعيّته المعلوماتيّة متوافقة مع هذه اليقينيّة وفي خدمتها؟ حدّد المؤلّف مرجعيّة مزدوجة في الفقرتين الأخيرتين من المقدّمة: القرآن الكريم، والسنة المحمّديّة. وإذا كان القرآن الكريم نصّاً إلهيّاً يطمئنّ المسلم إليه طمأنينة يقينيّة، فإنّ السنّة غير ذلك. نُقِلت عن الرسول(ص9) مشافهة، فكانت عرضة للتبديل والتحوير والإضافة، فاستتبع ذلك قيامَ «علم الحديث» الذي أخذ على عاتقه تمييز صحيح الحديث من غيره.

ومهما يكن من أمر، فإنّ السيّد قد باشر الكتابة بثقة عارمة بالنفس. وهو حين قال: «لقد كُتِب الكثير في هذا الموضوع، ولكن يا للأسف ما رأيت كتابة كُتِبت في موضوعنا هذا تُشفي عليلاً، وتبرّد غليلاً» (ص10)، فإنّه قد قدّم إشارة تجرّد كلّ الذين كتبوا قبله في الموضوع من نجاح جهودهم، وتمثّل إيماءة إلى أنّه ينظر إلى عمله بوصفه منتهى الأعمال وأصلحها. واستمرّ على هذه الحال من الثقة حين افتتح متن كتابه بكلام معبّر عن همومه المتعلّقة بمرجعيّة المعلومات التي يتعامل معها. فهو بعد أن أثبت عنوان فصله الأوّل الخاصّ بسيّدنا آدم(ع)، قال:«نتكلّم فيه على سنن ما هو مقرّر في الكتب المعتبرة المتكفّلة لهذه الغاية»(ص11). ولا تتصل كلمة(سنن) الواردة في كلام المؤلّف بما هو سام فقط، ولكنّها تتعلّق بما هو راسخ أيضاً. فهو يريد لمتن كتابه أن يؤدّي وظيفة معرفيّة قائمة على ما هو يقينيّ وموثوق. وتمثّل تراكيب من مثل(سنن ما هو مقرّر)، و(الكتب المعتبرة)، و(المتكفّلة لهذه الغاية) منتهى الحيطة العلميّة في مثل هذا المجال. فالصفة التي نُعِتت بها الكتب، ونعني بها كلمة (المعتبرة) إنّما تفيد معنى (المعتمدة من كبار العلماء). أضف إلى ذلك أنّ هذه الصفة لم تترك مفردة، شُفِعت بصفة ثانية هي (المتكفلة لهذه الغاية). وهذه الصفة لا تقوّي الصفة الأولى فحسب، ولكنّها تعطيها مدى أبعد من الحيطة العلميّة أيضاً.

وهمّ بهذا الحجم يواجهنا به المؤلّف في مطلع كتابه، كفيل بإثارة جملة من الأسئلة:

ـ هل سيلتزم المؤلّف بصفتي:(المعتبرة) و(المتكفّلة) في أثناء انتقاء مراجعه؟

ـ ما نوع المعرفة التي يريد إيصالها إلى المتلقّي؟

ـ ما موقفه من المعلومات التي تقدّمها تلك المراجع المنتقاة؟

ـ لمن يكتب؟

ومهما يكن من أمر هذه الأسئلة، فإنّ المؤلّف قد وصل في تعامله مع بعض مراجعه درجة مرموقة من العلميّة المنهجيّة. فهو عندما أراد أن يقدّم لنا سبب اختيار اليهود يوم السبت عيداً، عرض عنعنةً تبدأ من جعفر الصادق(ع)، لتنتهي إلى أمير المؤمنين(ع). ولقد حرص على إعادة هذه السلسلة إلى مظنّها بشكل مفصّل، إلى المسعودي في «مروج الذهب»، الصفحة 38 من الجزء الأوّل الصادر عن مؤسّسة الأعلمي في بيروت (ص42ـ43). وتثير هذه الدقّة سؤالاً طبيعيّاً. هل انسحب هذا الأسلوب على جميع المواضع التي احتاج فيها المؤلّف إلى المراجع؟

يمكننا إحصاءُ ستّةِ مواضعَ تقريباً لجأ فيها السيّد إلى مثل هذا التدقيق، وإن كان بدرجات مختلفة.

عاد إلى المفضّل في «توحيده»(ص12)، والمسعودي (ص42) و (ص43)، وعبد الوهّاب النجّار في «قصص الأنبياء»(ص48)، وابن كثير في «البداية والنهاية» (ص50)، والطبري في «القصص»(ص58). وإذا تجاوزنا هذه المواضع وجدنا أنّ أسلوب المؤلّف قد تغيّر في الإحالة. والتعابير الإحاليّة التي يمكن إحصاؤها هي من مثل:(عن جعفر الصادق(ع)،(أورد علي بن ابراهيم)،(الملخّص من بعض الأخبار)،(الذي يظهر في الروايات)،(مضمون بعض الأخبار)،(والمرويّ)،(عن أبي جعفر الباقر مضموناً)،(وفي الحديث أنّ إبراهيم(ع)،،(وفي بعض التواريخ مضموناً). وهذه العبارات القائمة على الاستسهال والتهاون بحقّ القارئ مبنيّة على فرضيّة القارئ الموالي من دون غيره، خصوصا أنّ الكثير من المعلومات التي قُدِّمت من خلالها هي معلومات خلافيّة.

4ـ لمن يكتب السيّد عبد الصاحب؟ إنّ كلمة (قصصهم) العائدة إلى الأنبياء في عنوان الكتاب مستوحاة، بالتأكيد، من مفهوم القصّة، وفاق أنموذجها القرآني. فهي من جهة حقيقة تاريخيّة يقينيّة، وهي من جهة أخرى عبرة ودرس. وإذا كان هذا هو فهم السيّد للقصّة يعني أنّ الكتاب سينحو في متنه منحى توجيهيّاً يقدّم معرفة قد تكون ذات طابع تعبويّ. وإذا أعيد نشر الكتاب العام 2002، فهل تشكّل هذه الإعادة تعزيزاً للوظيفة التوجيهيّة التعبويّة؟ وهل كان مجتمعنا لا يزال بحاجة إليها في تلك السنة؟ وما علاقة هذه الوظيفة بعلميّة المعرفة؟

الهدف المعرفيّ هدف مشروع، لا بل هو هدف مطلوب، وإن لم يُشِر المؤلّف، بشكل صريح، إلى ما يريد تحقيقه من وراء هذا الهدف. تركنا نتلمّس ذلك الهدف من خلال طريقته التي عبّر بها.

لقد أفاد المؤلّف من محاجّةِ إبليسَ اللهَ حول أفضليّة النار على الطين. وإذا قدّر أنّ حجّة إبليس قويّة، سعى إلى البحث عن سبب تفضيل اللهِ آدمَ الطين على إبليسَ النار، فقال:«لم يدرك اللعين شرف آدمَ... وكرامته بتفضيل ربّه له، وبشرف الأنوار التي أودعت في صلبه»(ص16). وما تلك الأنوار سوى «الأنبياء... وسادات الخلق المصطفى وأهل بيته... الذين هم علّة خلق الكون ومن فيه»(ص16ـ17). وبقطع النظر عن السبب الذي رآه السيّد للتفضيل، فإنّه رفضٌ للقياس المنطقيّ من جهة، وإيماءة إلى أنّ الحقيقة اليقينيّة (العلميّة) قد يخطئها العقل إذا لم يتسلّح بقواعد تقيه الزلل. وما قام به المؤلّف من بحثٍ عن سببٍ حقيقيّ للتفضيل بحثٌ مشروع، وإن دفعنا لنسأل: هل يجوز لنا، وبسبب حجّته المبنيّة على الثقافة الشيعيّة أن نوجّه إليه تهمة الانحياز العقديّ؟

لا يمكن ذلك لمجرّد أنّه رأى أنّ التفضيل قائم بسبب أهل البيت الذين اودعوا في صلب آدم؛ لأنّهم قد اودعوا فعلاً فيه. أمّا أن يرى أنّهم علّة خلق الكون فمسألة غير مجمع عليها من المسلمين. ويستدعي هذا أن نسأل: هل كانت هذه الحقيقة هاجساً لديه يحضر في كلّ مرّة يناقش فيها قضيّة من القضايا؟

سارع في أثناء وصفه سجود الملائكة لآدم من أنّه اعتراف لآدم بالفضيلة، إلى القول:«ومحمّد(ص) أُعطِي ما هو أفضل من ذلك وأعلى»(ص21). الفصل بكليّته متعلّق بآدم(ع)، فلماذا الخروج عن موضوعه؟ لقد نقلنا من محور في المفاضلة إلى محور آخر. وكان يمكن التساهل في ذلك لو اكتفى المؤلّف بهذه الإشارة. راح، وعلى مدى فقرة كاملة، يدرس قوله تعالى لإبليس:

}أستكبرت أم كنت من المتعالين{ (سورة ص، ألآية 75)، وبدل من أن يركّز تعامله مع هذه الآية حول آدم؛ لأنّ الاستكبار استكبار عن السجود له، وقف المؤلّف عند كلمة (العالين) التي أخرجتنا، مرّة ثانية،عن موضوعنا، معلناً على لسان رسول الله (ص)إنّ العالين هم الرسول نفسه... وعليّ وفاطمة والحسن والحسين (ع)». وإذا أحسّ أنّ فكرة تعالي آل البيت لم تصل تماماً إلى المتلقّي، أردفها بحديث ثان عن الرسول(ص)كنّا في سرادق العرش نسبّح الله وتسبّح الملائكة بتسبيحنا، قبل أن يخلق الله آدم بألفي عام. فلمّا خلق الله...آدم أمر الملائكة أن يسجدوا... فقال تبارك وتعالى لإبليس:}أستكبرت أم كنت من المتعالين{، أي من هؤلاء الخمسة المكتوبة أسماؤهم على سرادق العرش؟» (ص21). إنّ البعد التدقيقي في مناقشة كلمة (العالين) يوحي إلينا بأنّ علوّ مقام آل البيت هاجس حاضر في كلّ مداخلة يتولاها المؤلّف.

وحين نجد هذا الهاجس حاضراً على امتداد الكتاب (ص27 مثلا)، نقدّر أنّ همّاً تعبويّاً قد وُظِّف الهمّ المعرفيّ في خدمته. ولقائل أن يقول: وما الضير؟ إنّ أحداً لا يؤلّف كتاباً من دون هدف يتجاوز المعرفة إلى ما وراءها، خصوصا أنّ هناك من يقول: لا يخلو أيّ كلامٍ، في المحصّلة، من بعدٍ حجاجيّ. ويستدعي هذا سؤالاً مبدئيّاً. لمن يكتب السيد؟ ومن الذي يريد إقناعه بوجهة نظره؟ إنّ تحكّم الهمّ التعبوي بالهمّ المعرفيّ قد يجرّ إلى خلل في الموقف العلميّ، خصوصاً أنّ الهمّ التعبويّ قادر على الالتفاف، ليس على العقل المنطقيّ وحده، ولكن على العقل العلميّ أيضاً، وذلك من خلال تعطيل آليات اشتغال العقل جملة. وهذه مشكلة كبرى يشتغل عليها العدوّ لكي يصل بالأمّة إلى الفتنة الكبرى.

ولا يعني ذلك أنّ المؤلّف قد بارح العلميّة. فهو وإن لم يصل بما أراد البرهنة على صحّته إلى إقناع الآخر، إلا أنّه كان منهجيّ التفكير إلى آخر عبارة كتبها.

5ـ حدود المؤلّف العلميّة: يبقى لنا أن نتساءل بعد هذا كلّه. هل المطلوب أن يتخلّى المؤلّف عن قناعاته العقديّة في أثناء محاولته التأريخ، ليكون علميّاً، خصوصاً أنّ من يؤرّخ لهم هم الأنبياء، وقصصهم التي مضت عليها أزمان متطاولة وحقب متباطئة؟

لا أسوّغ بسؤالي هذا منهج المؤلّف في قراءة الأخبار الخاصّة بالأنبياء، ولكن لأقدّم موقفاً علميّا من الحقائق النسبيّة. ذلك أنّ أيّ رؤية إلى العالم المرجعيّ، والأحداث التاريخيّة من ضمنها، هي رؤية ثقافيّة بالدرجة الأولى. والفيلسوف الألماني هانس جورج غادامر يقول:«إنّ المؤوِّل لحدث قديم هو مرتهن بوقائع عصره في تقديم ذلك الحدث. وهذا يحرم المعرفة التاريخيّة من أيّ مستوى من مستويات الموضوعيّة»(في جيوفانا بورّادوري، الفلسفة في زمن الإرهاب). وإذا فهمنا الموضوعيّة على أنّها تفترض حقيقة يقينيّة بحتة يقبلها جميع الناس، ويتراءى العالم المرجعيّ من خلالها كما هو، فإنّ كلام غادامر كلام سليم وعلميّ. وحين تعطي عقيدة ما نفسها الحقّ في فهم حدث تاريخيّ معيّن، فإنّ أيّ عقيدة أخرى ستعطي نفسها الحقّ نفسه. وهذا ما يجعل من أيّ حقيقة تاريخيّة، تُقدَّم، حقيقةً نسبيّة. والنسبيّة مؤشّر ضعف لا قوّة. ولكن حين تتجمّع حقائق نسبيّة متعدّدة حول حدث تاريخيّ واحد محدّد تخرج النسبيّة من كونها علامة ضعف لتصبح علامة غنى. فالحدث الذي تتجمّع حوله حقائق نسبيّة كثيرة هو حدثّ غنيّ بالتأكيد يستدعي، بطبيعته، حواريّة كفيلة بأن ترتفع بالثقافة إلى مراقٍ جديدة. ويتطلّب هذا أن يقبل كلّ فريق حضور الفريق المختلف عنه إلى جانبه. والسيّد عبد الصاحب إذ يتخّذ لنفسه منهجاً متماسكاً صلباً في ما يعاينه من أحداث وتواريخ وأمور، إنّما يحاول جاهداً إثبات وجهة نظره، وعبر أسلوب منطقيّ عموما، من دون أن يزري بوجهات نظر الآخرين. يعرضها كما وردت على ألسنتهم، يناقشها، ثمّ يردّ عليها آخذا بالحسبان حقَّ صاحبها أو من يتبنّاها بالتوضيح والردّ. وهو حين عرض لرأي القائلين بأبوّة آزر الكافر لإبراهيم، قدّم ذلك بكلام لائق. وصفهم بأنّهم (الأكثر)، مسبغاً عليهم صفة الاخوان(إخواننا). ونون الجماعة التي تجمعه وإيّاهم إلى أسرة واحدة هي علامة محبّة وإنصاف تضعهم حيث يستحقّون. لهم رأيهم الذي يقع قبالة رأيه في القضيّة نفسها وفي الميزان نفسه. كلّ ذلك بعيداً من أساليب التعالي أو التحقير أو المسخ، إذا لم نقل (التكفير).

والمؤلّف وإن قدّم مرجعيّته بعيداً من التدقيق، بشكل عام، إلا أنّ إشارات عديدة في كتابه هذا تدلّ على علميّته. فمن المعلومات التي وقف عندها مطوّلاً حقيقةُ والد إبراهيم(ع)، أهو آزر الكافر أم تارح المؤمن؟ ووجد نفسه أمام قضيّة شائكة. عرض رأي المسعودي القائل بأنّ «تارحاً اسمه العمليّ وأنّ آزر وصف له» (ص91)، ورأيَ الرازي الذي فسّر الآية» }وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر{ (الأنعام،الآية 74) فقال:«ظاهر الآية يدلّ على أنّ اسم والد إبراهيم هو آزر»(ص91)، ووقف عند رأي الزجّاج القائل بأن «لا خلاف بين النسّابين أنّ اسمَه تارح»(ص.ن). لقد حاول، كما رأينا، الإحاطة بالمادة المرجعيّة التي يدرسها، والإحاطة شرط من شروط البحث العلميّ، ومهاد جيّد لمناقشة الأمر المشكل. ولقد وصف هذه المرجعيّة بأنّها «كلام فيه تضارب وتنافر»(ص 70). وهذا وصف دقيق لما وقع عليه من مادّة. وكان موقفه من هذا التضارب والتنافر واضحاً حين قال:«نحن لا ننقل أو نعتمد إلاّ على ما يوافق المنقول، بل الأحرى الذي نطمئنّ بثبوته عن الرسول الأعظم المصطفى وقرآنه الكريم من طريق أهل بيته الكرام»(ص. ن). وأن يكون السند أهل البيت وصولاً إلى الحديث الشريف، ومن خلفه القرآن الكريم، يعني أنّنا أمام المنهج العلميّ الذي اصطنعه السيّد عبد الصاحب والذي يسعى إلى الحقيقة اليقينيّة المطَمئنة.

ولا تتجلّى علميّته من خلال اعتماده مرجعيّة محصّنة فقط، ولكنّه يتعدّاه إلى الهمّ الإحصائيّ. والاحصاء في المنهجيّة الحديثة هو المدخل السليم إلى دائرة البحث الجادّ والرصين. ومن يَفُته الاحصاء تفُته العلميّة؛ لأنّ إهمال أيِّ معلومة هو تقليل من قيمة النتائج التي يتوصّل إليها.

أحصى المؤلّف السور القرآنيّة التي تعرّضت لقصّة نوح(ع)، فوجد أنّها «ثمان وعشرون سورة في ثلاثة وأربعين موضعاً. وذُكَرت قصّةَ نوح مفصّلة ستّةُ سور: الأعراف، وهود، والمؤمنون، والشعراء، والقمر، ونوح»(ص63). كما أحصى تلك التي ذكرت قصّة ثمود، فقال إنّها وردت:

«في إحدى عشرة سورة... ولقد ذُكِر اسم صالح فيها سبع مرّات»(ص83). ولم ينس إحصاء ذكر إبراهيم الذي ورد «في خمسة وعشرين سورة»(ص108). وما كان للسيّد أن يحقّق قصص الأنبياء تحقيقاً مفيداً لولا هذا الاحصاء. وهو عندما أحصى، لم يحص بشكل حياديّ. راقب إمكانيّة أن يكون هناك اختلاف في المعلومات المذكورة. علّق على ما أحصاه من سور تعرّضت لقصّة نوح قائلاً:«هي متّفقة المضمون في الجملة، وإن تفاوتت في اللفظ وتغايرت بسبب سبك الكلام وصوغه»(ص63). وإذا عبّر قوله:(متفقة المضمون) عن همّ علميّ يحدوه في أثناء تنقيبه عن السيرة النوحيّة، فإنّ كلمة(في الجملة) تشير إلى الحيطة العلميّة التي كانت تميّز ذلك التنقيب. ولئن دلّ ذلك على أمر، فإنّه يدلّ على حسّ نقديّ عالي الدرجة. وهذا كلّه إشارة دقيقة إلى عالم يعرف ما يريد، ويحاول الوصول إلى ما يريد. وما كان للسيّد عبد الصاحب أن يكون هذا الباحث الذي رأيناه لولا تملّكه عقلاً علميّاً يميز الجوهريّ من العرضيّ. يقول:«وقع الاختلاف بين المؤرّخين المتعرّضين لقصّة نوح(ع)، في عموم طوفانه إلى الكرة الأرضيّة، وعدمه....وأنّه خاصّ الجهة التي كان يسكنها نوح(ع)، وقومه»(ص69)، ثمّ يعلّق على هذا الاختلاف قائلاً:«والقرآن الكريم لم يصرّح بهذه ولا بتلك... والظاهر أنّه لا نصّ خاصاً من قبل النبي(ص) وأهل بيته الطاهرين(ع)،... ومن المستبعد جدّاً أن يكون قوم نوح قد انتشروا في جميع الأقطار»(ص69). وإذا أفسح القرآن والحديث في المجال ليدلي المؤلّف برأيه في ذلك الاختلاف، لجأ إلى العقل، والعقل المحتاط. لم ينفِ انتشار قوم نوح في جميع أقطار الأرض نفياً قاطعاً. قال محتاطاً: إنّ ذلك«من المستبعد»، وإن جاءت كلمة (جدّاً) «من المستبعد جدّاً» لتقوّي نفي شمول الطوفان. والكلام الذي لا يقوم على الاطلاق، ولكن على التحفّظ، هو كلام أقرب إلى العلميّة وإلى احترام الرأي الآخر منه إلى الاندفاعة غير المحسوبة في إزجاء الآراء والمواقف.

وكتاب يتمتّع بمثل هذه القيمة العلميّة، يوجب علينا أن نعيد نشره، خصوصاً في هذه المرحلة الحسّاسة التي لا تطلب منّا إخفاء وجهة نظرنا دفعاً للفتنة، ولكنّها تطلب منّا حسن تقديم تلك النظرة. فالاختلاف مطلوب والاعتراف بالآخر فضيلة.

ويفرض هذا علينا أن نعيد تقديم هذا الكتاب من خلال تحقيق علميّ موجّه يعوّض ما فات مرجعيّته من تدقيق، ويبرز النقاط المضيئة فيه، خصوصاً قبول الآخر والتعامل معه بنديّة الواثق من نفسه. وإذا تلافينا ما أشرنا إليه من خلل أمكننا أن نعيد نشر الكتاب بحلّة جديدة لا تخاف على الأمن الإسلاميّ العام من قراءة خاطئة.