الزواج المدنيّ والقرآن الكريم

01/09/2010
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بعيد قيام مصطفى كمال أتاتورك بإلغاءِ الخلافة الإسلاميَّة رسمياً في عام 1924م وطرده للسلطان عبد المجيد الثاني آخر خليفة عثمانيّ من استانبول عام 1923م ونفيه إلى باريس حيث توفي فيها غريباً عن وطنه وبلاده عام 1944م حدثت بدع كثيرة لا زال المسلمون يعانون منها لغاية أيامنا هذه.

وما يهمنا في هذا البحث هو الحديث عن إحدى تلك البدع وهي قيام أتاتورك بإستبدال الأحكام الشرعيَّة عند المسلمين من زواج وطلاق وارث ووصاية وحضانة وغيرها من أحكام تخصُّ الأسرة المسلمة بأحكام أخرى مأخوذة من القوانين الأوروبيّة متناقضة مع أحكام القرآن الكريم والسُنَّة الشريفة.

وقد إقتدى بمصطفى كمال أتاتورك زعماء آخرون في العالم الإسلامي كان من أبرزهم رضا شاه في إيران وعبد الكريم قاسم في العراق والحبيب أبو رقيبه في تونس وزعماء ألبانيا والجمهوريات الإسلاميَّة في آسيا الوسطى وغيرهم.

وقد وقف علماء الإسلام في إيران والعراق ضد هذه القوانين الغربية والمستوردة وأسقطوها بعد سنوات طويلة من الكفاح والنضال وبعد أن قدَّموا مئات الشهداءفداءً للإسلام.

أ ـ في لبنان.

ومنذ أن وطئت أقدام المستعمرين الأفرنسيين الأراضي اللبنانيّة في عام 1918م ولغاية إعلان الاستقلال عن فرنسا في عام 1943م كان حلم الافرنسيين تطبيق جميع القوانين الفرنسيّة على الاراضي اللبنانيّة ومنها قانون الأحوال الشخصيّة المدني غير أن وقوف علماء المسلمين ورفضهم له وكذلك معارضة رجال الكنيسة المسيحيّة لهذه القوانين حال دون تشريعها رسمياً.

وبعد أن نال لبنان إستقلاله قامت بعض الاحزاب العلمانيّة بالمطالبة بتطبيق هذه القوانين إسوة بتركيا وقبرص وتونس. ومن أبرز الزعماء المسلمين الّذين وقفوا في وجه هذه الطروحات ورفضوها كان الرئيس رياض الصلح والعلماء الأعلام: الشيخ مُحمَّد جواد مغنية الشيخ مُحمَّد مهدي شمس الدين والمفتي الشيخ مُحمَّد علايا والمفتي الشيخ حسن خالد والرئيس رشيد كرامي والرئيس رفيق الحريري رحمهم الله تعالى.

ومن أبرز رؤساء الجمهورية اللبنانيّة الّذين وافقوا على هذه الطروحات وتبنوها كان الرئيس اللبناني الأسبق الياس الهراوي حيث قام في شهر شباط 1998م بكتابة نص كامل مؤلف من 31 صفحة من القطع الصغير حول    مشروع قانون الاحوال الشخصيّة الاختياري    وتوزيعه على مجلس الوزارء في حكومة الرئيس رفيق الحريري طالباً منهم دراستها وإبداء ملاحظاتهم عليها ليصار للموافقة عليها من قبل الحكومة وعرضها على مجلس النواب حسب الأصول المرعيَّة الاجراء.

ومطالعتنا لقوانين الأحوال الشخصيّة المدني سوف تكون مناقشة سريعة لبعض المواد الواردة في مشروع الرئيس الهراوي الآنف الذكر الّذي قامت صحيفة النهار اللبنانيّة بعرضه في عددها الصادر في السادس من شباط 1998م.

إذ كان ذلك المشروع خلاصة لدراسات كثيرة قدمتها الاحزاب العلمانيّة اللبنانيّة إلى الحكومات اللبنانيّة المتعاقبة كان أهمها الدراسة التي تقدَّم بها الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ.

ب ـ إسترضاء الكنائس المسيحيّة اللبنانيّة.

عمل الرئيس الهرواي في مشروعه الآنف الذكر لإسترضاء الكنائس المسيحيّة اللبنانيّة وأخذ موافقتها في جعل هذا المشروع إختيارياً أمام اللبنانيين مع محافظة اللبنانيين والدولة اللبنانية على سائر المحاكم الروحية  والمذهبيَّة والشرعيَّة بجميع صلاحياتها التي كفلها لها الدستور اللبناني والقوانين المرعيَّة الإجراء.

والاسترضاء الأول لهذه الكنائس كان من خلال محافظة أبنائها الّذين يختارون هذا الزواج على إنتمائهم لها دون تعرضهم لاجراءات تغيير الدين أو المذهب حسب الأصول المعروفة والمرعيَّة الاجراء.

والاسترضاء الآخر هو ما جاء في المادة 26 حيث نصت هذه المادة أنَّه: لا يصح الطلاق بالتراضي!!.    وفي المادة 27 حيث نصت هذه المادة أنَّه: لا يُقضي بالطلاق إلا لأحد الاسباب الآتية: 1ـ الزنى ـ2ـ الإيذاء الجسديّ المقصود وإلى آخر الفقرات الثمانية الواردة فيها.

وغير خاف على المطلع مخالفة مشروع الزواج الاختياري الآنف الذكر لروح الجماعة الإسلاميَّة ولقوله تعالى: وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ سورة النور آية:32].

ولقوله تعالى:[يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ... سورة الطلاق آية:1].

ولقوله تعالى:[الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَسورة البقرة آية:229].

والاسترضاء الآخر في المادة 35حيث نصت هذه المادة على مشروعيَّة الهجر بين الزوجينإذ جاء بها: الهجر هو إنفصال الزوجين في المسكن والحياة المشتركة مع بقاء الرابطة الزوجيّة قائمة بينهما   . وهو لا ينتج مفاعيل قانونية إلا بحكم من المحكمة المختصة.

كما جاءت المواد: 36و37و38و 39و40 و41 لتشريع هذا الهجران وتقنينه حسب الاصول الكنسية المعمول بها في المحاكم الروحية المسيحيّة في لبنان.

وهذا مخالف لقوله تعالى:[فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا سورة النساء آية 129و130].

ج ـ ظلم المرآة.

وردت مواد كثيرة في هذا القانون فيها ظلم وحيف على المرأة وحقوقها التي منحتها إياها الشريعة الإسلاميَّة. وأهمها ما يلي:

1ـ تجاهلها لقضيَّة الصداق والمهر حيث لم يرد ذكر للمهر في أي مادة من مواد القانون الآنف الذكر مع أنَّ هذا حق مُقدّس للمرأة كفلته لها جميع الشرائع السماويّة. كما يفهم ذلك من القرآن الكريم ومن نصوص الكتاب المُقدّس في العهدين القديم والجديد.

2ـ كما حُمّلت الزوجة النفقة كما حمَّلتها للزوج في المواد20و43و44و45و46.

3ـ حق الزوج بهجران زوجته وتركها دون طلاق أو نفقة أو مقاربة جنسيّة حتى لو كانا يسكنان في منزل واحد بعد موافقة المحكمة على ذلك بناء على المواد الآنفة الذكر التي تكلمنا عنها في الفقرة ـ ب ـ

4ـ التجسس على الزوجة وملاحقتها وإحصاء خطواتها داخل المنزل وخارجه. لأن هذا القانون حرَّم الطلاق على الزوج ومنعه من طلاقها إلا بسبب إقدامها على جريمة الزنا أو غير ذلك من الموبقات كإقتراف المخدرات وغيرها. أو الخيانة الزوجيّة ونحو ذلك كما في المادة:27 حيث تبقى الزوجة المسكينة التي يرغب الزوج بطلاقها مُلاحقة من قبل الزوج وأقاربه وأصدقائه وإحصاء خطواتها وحركاتها لاتهامها بجريمة الزنا. وهذا مخالف لقوله تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ. سورة الحجرات آية:12].

د ـ ظلم الرجل.

كما أنَّ هناك مواد أخرى فيها ظلم للرجل وحرمانه من الحقوق التالية:

1ـ تجاهل مشروع القانون الآنف الذكر حق الرجل في ولايته الادبية على زوجته. وهذا مخالف لقوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ. سورة البقرة آية:228.

وللأحاديث شريفة أخرى كثيرة في السُنَّة الشريفة متفق عليها بين المسلمين.

2ـ حقه في الطلاق وإجباره على العيش مع زوجته تحت سقف واحد وحتى لو كان كارهاً لها إلا أن يقوم بإتهامها بجريمة الزنا أو الجنون أو إدمان المخدرات ونحوه. ويكون الطلاق بعد هذا وذاك خاضعاً لمزاج الموظف المختص ولموافقة القاضي وقد سبق الكلام عن ذلك ومخالفته للشريعة الإسلاميَّة في الفقرة ـ ب ـ فراجع.

3ـ حق تعدد الزوجات مهما كانت الأسباب الإنسانيَّة الداعية لذلك وحتى لو كانت الزوجة الأولى راضية بذلك كما جاء في المادة:21. حيث جاء فيها يكون الزواج باطلاً:1ـ إذا كان أحد الزوجين مرتبطاً بزواج سابق قائم.

ولا مجال للإبطال إذ كان الزواج السابق قد انحلَّ أو أُبطل بعد نشوء الزواج الثاني لأي سبب من الأسباب شرط أن يكون الشريك غير المتزوج سابقاً حسن النية...  

فكما يجب أن تكون الزوجة عزباء أو خلية من الزوج وأتمت عدتها الشرعيَّة. فكذلك يجب أن يكون الزوج أعزب. وهذا مخالف لقوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً  [ سورة النساء آية3].

وتعدد الزوجات بشروطه الشرعيَّة المعروفة في الشريعة الإسلاميَّة فيه رحمة للرجال وللنساءِ وفيه مظاهر جميلة من الايثار والتكافل الاجتماعيِّ. وبالتالي فإنَّ حرمان الرجال والنساء منه فيه إِشاعة للزنى ولضروب الفحشاء على ما بينَّه علماء الإسلام قديماً وحديثاً في مصنفاتهم الكثيرة.

4ـ إضطرار الزوجة التي لا تريد العيش مع زوجها لبعض الدواع الشرعيَّة أو غير الشرعيَّة إِلى الإستعانة بالوثائق والادلة الصحيحة أو غير الصحيحة لإقناع الموظف المختص في المحكمة بالطلاق.وهذا فيه ظلم للزوج وفساد للمؤسسة الزوجية التي أساسها المحبة والقناعة.

هـ ـ مخالفات شرعيَّة أخرى.

كما يوجد في القوانين الآنفة الذكرى المقترحة مخالفات شرعيَّة أخرى كثيرة أهمها:

1ـ الخروج عن قُدسيَّة وطهارة الزواج الشرعي إذ أنَّ الذي يُحلل المرأة للرجل هو الله تعالى عن طريق العقد الشرعيّ بالشروط الشرعيَّة المرعيَّة الاجراء. والّذي يُحرَّم الزوجة على الزوج هو الله تعالى عن طريق إيقاع الطلاق والبينونة الشرعيَّة أو حسب موجبات فسخ الزواج الشرعيّة الأخرى حسب الأصول المرعيَّة الاخرى.

وخوف الخروج عن هذه القدسيَّة الشرعيَّة لجأ المقتنعون بالزواج المدني من المسلمين بعد قيامهم جرائه خارج لبنان إلى تصحيحه بالعقد الشرعيّ عند المسلمين، وبالعقد الكنسيّ عند المسيحيين بعد رجوعهم إلى لبنان خوفاً من وصمة العار والإتهام بالزنا والسِفاح من أبناء مجتمعهم اللبناني ومصداقاً لما جاء في الآية الكريمة رقم:3 من سورة النور في القرآن الكريم.

وكذلك رأينا أن خوف الخروج عن قُدسيَّة الزواج الكنسي عند المسيحيين في لبنان ألجأت دُعاة الزواج المدني من الاحزاب العلمانيَّة إلى تصحيح زواجهم بالكنيسة بعد رجوعهم إلى لبنان خوفاً من إتهامهم من الوقوع بخطيئة الزنا من أبناء مجتمعهم اللبناني.

2ـ عدم الالتفات إلى المحرمات الشرعيَّة الواردة بالاسباب المانعة من الزواج بالشريعة الإسلاميَّة.

كالمحرمات الرضاعيَّة لما صحَّ في القرآن الكريم والسُنَّة الشريفة من إعتبار لحمة الرضاع كلحمة النسب في كل شيء عدا الإرث.

وكالمحرمات بالمصاهرة. كالزواج بوالدة الزوجة أو ببنت الزوجة ونحو ذلك من مُحرَّمات كثيرة ويحتاج تفصيلها إلى مقالة أخرى.

3ـ التهافت والتناقض في عدَّة النساء بعد الطلاق أو الفسخ وجعلها ثلاثمائة يوم إلا حين وضعها لحملها قبل ذلك أو رخصت لها المحكمة بغير ذلك. حيث جاء في المادة:34 [يمتنع على المرأة أن تتزوج قبل إنقضاءثلاثمئة يوم على إبطال الزواج أو إنحلاله إلا إذ كانت حاملاً ووضعت مولودها قبل إنقضاءِ هذه المدة أو إذا رُخص لها بالزواج بقرار مُعلل تتخذه المحكمة المختصة في غرفة المذاكرة] وبيان هذا التهافت والتناقض الوارد في المادة الآنفة الذكر مع الشريعة الإسلاميَّة يحتاج تفصيله إلى مقالة أخرى. مع العلم أنَّ هناك مُطلقات في الشريعة الإسلاميَّة ليس عليهن عدّة شرعيَّة كالزوجة غير المدخول بها أو الزوجة اليائس التي بلغت خمسين عاما هجرياً، وغير ذلك من تفاصيل أخرى.

4ـ تشريع قضيَّة التبني برضا الزوجين كما جاء في المواد الواردة في الفصل السادس من القانون الآنف الذكر وهذه المواد مخالفة للشريعة الإسلاميَّة ولقول الله تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ سورة الاحزاب آية:4و5.

و ـ عود على بدء.

من الّذين أفردوا كتباً حول مشروع القانون الآنف الذكر العلاّمة الثقة السيد عبد الكريم فضل الله تحت عنوان:    قراءة سريعة في مشروع الأحوال الشخصيَّة المقترح ـ الزواج والطلاق المدنيِّ ومفاعيلهما   .

إذ قال في مقدمته: إن الّذي يشدُّ النَّاس إلى الزواج المدنيّ هو بريق كلمة    مدنيّ   وما أوهموا الناس من خلال الإعلام المضلل بأنَّه خلاص من المشاكل وتكمن فيه ا