الحياة الحرّة يصنعها الأقوياء

04/07/2014
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

الشيخ الدكتور أحمد قيس

ابتدع ما لم يكن بالحسبان

بقلم مستشار التحرير: الدكتور عبد الحافظ شمص

الحياة الحرّة لا يصنعها إلا الأقوياء والأحرار، فهؤلاء القادرون على التغيير وعلى خلق واقع حياتي جديد وكريم، وفرض معطيات جديدة تعيد للإنسان كرامته وتجدد عنفوانه وتلملم شمله.. فالنضال ليس جديداً على من نترجم له ونخصه بمحبتنا وتقديرنا، صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور أحمد محمد قيس مدير التحرير المسؤول الذي عاش كريماً بعد اجتيازه لمراحل عديدة من الصعوبات حيث قام وجاهد وثابر وحقق المعجزات وما كان أراده صيانة لحريته وكرامته وحريّة وكرامة عائلته وتأمين موارد عيشهم الكريم وقد نجح بحمد الله ورعايته وعنايته.

عزيزي القارئ اللبيب: بما أننا نترجم لأستاذ في الفلسفة فلا بُدَّ من إعتماد اللغة او الفذلكة الفلسفية حتى تتوافق الترجمة مع المترجم له فنقول:

تحتاج الفلسفة الى قوة العقل وقوة الخلق والإضافة، لكي تتاح فرص التطور والترقي.. ذلك بعض ما قاله الحكماء الذين مروا وتركوا آثارهم القيّمة على كل صعيد كما أن كل فترة من التاريخ هي عبارة عن صورة طبق الأصل من الفترة التي سبقتها، مع بعض التميّز.. وهذا المبدأ الفلسفي هو بحد ذاته رأي يوصل الى معرفة أعمال البشر ويؤيد نظرية الإستتباع عند بعض الكائنات الضعيفة، وهذا هو الرأي الذي انتحله بعض علماء الفلسفة والمنطق، وبنوا عليه نظريّاتهم دون ان يذكروا منشأه، ولكننا لا نسمي هذا إنتحال صفة، بل نفسره بتوارد الخواطر لأنه يظهر الفرق بين بساطة الرأي وبين البناء الشامخ الذي شاده كبار علماء الفلسفة والمنطق وقالوا بأنَّ حكمة الله عزّ وجل، حالة تملأ الكون والعالم بقدرة فائقة لا حدّ لها.. الكمال والخير والحياة.. وأن العالم خُلِقَ لخير الإنسان.. وإستطراداً، إنما هو المبدأ القائل بأنه بالإمكان إبتداع ما لم يكن بالحسبان... وإن أفضل من مثل هذا المبدأ من المحدثين، أحد تلامذة «ديكارت» وهكذا نريده إيماناً نحتفظ بحججه وفعاليته كقيمة كبرى وعلى مدى العصور.. ونحاول مزج الكل الإلهي الذي في نفسه بالقوة الإلهية السائدة على العالم بأسره، مع الإعتبار أنَّ ذلك هو مفتاح الفلسفة ودرة تاجها، وهو يميل الى البحث الفكري لينتج من قدرته الفلسفية والمنطقية واختباراته، أفكاراً لا يُتخلى عنها..

والشيخ الفاضل الدكتور أحمد محمد قيس، رجل العلم والثقافة والفلسفة الذي لا يُشقُّ له غبار ملأ الدنيا بالدراسات والمقالات في مجالات عدّة، والتأليف والتصنيف والذي يقوم بأدوار مُنوّرة لأبناء وطنه في أماكن تدريس طلابه الجامعيين وفي الحوزات العلمية وفي مجالسه الخاصة والعامة بإحساس يملأ النفس ويغمرها بالواجب إزاء مجتمعه ووطنه وأمته تدفعه رغبته في تعميم الفائدة على أكبر عدد من طلاب العلم والمعرفة... وكما يقال، إن الأخلاق الفاضلة والقويمة تعادل العلم، وتتبعها الفلسفة.

في مجال التعليم:

مما لا شك فيه أن التعليم هو الركيزة الأساسية التي تبني شخصية الفرد وتظهر إنتماءه وتوجهاته، خصوصاً إذا كان تعليماً دينياً يتصل بصلب العقيدة، ويأخذ من تقنية العصر إيجابياتها، ويستخدمها المتعلم والدارس كمدخل لمواكبة المتغيرات ضمن الإطار الفكري والتكنولوجي.. ومن الإيجابيات التي عززتها التقنية أو فرضتها، والتي لا يمكن حصرها في عجالة... لذا نرى أنَّ اهتمام الشيخ الدكتور أحمد محمد قيس قد انصبَّ أثناء تحصيله العلمي وبعد تخرجه على التدريس بشقيه الحوزي والأكاديمي وما يزال بحول الله وقوته يجتهد في هذا المجال رغم العديد من الإنشغالات الأخرى والتي تمثل في ما تمثل جملة من العوائق التي تحول عادةً بين العزم وتحقيق الغاية.

التوق الى المعرفة:

التوق الى المعرفة، طوفان لمّاح، بأخيلةٍ وتشابيه تتناسل في مسالك الحياة، تتفرع بالنبض الأصيل، من غير ضنك أو ملل، تحقيقاً لدهشة الوصول وتحقيق المبتغى بأسلوبٍ معرفي هو حاجة كيان تبني سماك شخصية الفرد في جميع الأمكنة والأزمنة وتبرزه في بيئته ومجتمعه وتدخله الى القلوب... وهذا ما يبرز في شخصية المترجم له من خلال الإصدارات والمقالات والمحاضرات المتنوعة في شتى المجالات الإنسانية والتي لا يمكن إحصاؤها في هذه العجالة، كما ان هذا ليس غريباً على سليل عائلة اشتهرت بالعلم والتقوى. فوالده الحاج محمد مارس مهنة التدريس وعرف بها، أمّا جده علي والد الحاج محمد فقد كان من المدرسين المشهورين في بلدته الحصون والقرى المجاورة كالمعيصرة وأخواتها، أما الجدُّ الأول لفضيلة الشيخ الدكتور أحمد قيس والد الأستاذ علي فقد كان من كبار بلدة الحصون وهو المرحوم الحاج حسين علي ابراهيم قيس المشهور بالتقوى والورع وكان يعمل (كحملدار) للحجِّ أي يعمل على نقل الحجيج الى بيت الله الحرام ويقوم بخدمتهم الروحية والمادية.

وكان أيضاً مشهوراً بالغنى إذ أنه كان يمتلك معظم أراضي بلدته الحصون وخصوصاً ذاك الجبل الشامخ في قريته والذي لتاريخنا الحاضر ما زال يحمل إسمه ويقال له الضهر أو ضهر قيس نسبةً للحاج حسين والذي وافته المنية في الأول من شهر شباط 1926 وقد كتب على نصب ضريحه الآتي:«ألا في سبيل الله، شخص تغيّبت مناقبه الغرّاء عن العين في قبره هو الماجد النّقي الذي أصيب بنو قيس بقاصمة الظهر بفقده، سقى جدثا فيه ثوى خير ماجد، حسين بن علي بن ابراهيم، هاطلة الأجر له والفوز والبشرى بتاريخ وافد على جنة الرحمن في حلل زهر...».

وقد سبق ونشر الشيخ الدكتور قيس في عدد سابق من «إطلالة جبيلية» نبذة عمّا يتذكره عن حياة المرحوم والده الأستاذ الحاج محمد علي الحاج حسين علي ابراهيم قيس، وعن نشأته في كنف والديه، وعن رحلة العمر والكفاح في سبيل تحقيق ما تصبو اليه نفسه التوّاقة الى العلى...

وهذه مقتطفات من تلك المقالة المذكورة في العدد الثالث:

«ليس من السهولة بمكان ان يكتب أحد عن حياة أي إنسان بشكل دقيق وتفصيلي ما لم يحط بكافة جوانب حياة ذلك الإنسان، بإطار علمي وموضوعي.. لهذا فالكتابة عن الرجل المكافح المرحوم والدي ليست سهلة على الإطلاق، وذلك لأسباب قد تظهر في سياق الحديث عنه، وأخرى سوف تبقى غامضة وغير واضحة. على الرغم من الجهد المبذول لإماطة اللثام عنها.. إلاّ أنه مع ما أمكن الحصول عليه من معلومات ووثائق متناثرة هنا وهناك، يمكن تكوين ملامح صورة عن شخصية لبنانية جبيلية، مسلمة شيعية مكافحة في ظل إضطهاد ومرارة، حتى من أقرب المقربين، تصلح لأن يكتب عنها ويؤرخ لها، عسى بذلك أن تشكل إنموذجاً وقدوة لنا جميعاً، وهذا لعمري من البّر به، رحمه الله.. ففي حضن جبل شامخ من سلسلة جبال لبنان الغربية وفي أعالي منطقة جبيل الساحلية تقع بلدة الحصون التي استمدت إسمها من كثرة القلاع والحصون التي كان يأوي إليها ويتحصن بها أهلها أثناء غزو المماليك في العام 605 هجرية الموافق 1305 ميلادية وقتلهم وتشريدهم لجميع القاطنين بها من المسلمين الشيعة، لذا أصبحت تعرف لاحقاً باسم «فتوح جبيل» نسبةً الى الفتح المملوكي لجرود جبيل وكسروان.

وفي هذه القرية الوادعة التي تعلو عن سطح البحر ما يقارب ال 950 متراً والتي كانت ولا تزال تشكل النموذج الرائع للعيش المشترك بين قاطنيها من المسلمين والمسيحيين حيث نتأكد من هذا الأمر من خلال وجود كنيسة مارالياس القريبة من مسجد البلدة، وكنيسة مار جرجس القريبة من مسجد محمد رسول الله P في منطقة السّقي، أو سقي فرحت.. أو من خلال التضامن والتعاون الإجتماعيين بين أبناء هذه البلدة من المسلمين والمسيحيين...

في مثل هذه الأجواء من الإلفة والمحبة، وفي العام 1925 رزق المرحوم الأستاذ علي الحاج حسين علي ابراهيم قيس بمولود ذكر من زوجته وإبنة عمه الحاجة فاطمة أبي حيدر، وكان الوحيد بين ثلاث أخوات هنّ، أميرة، زعم، وناهد.

عاش المولود وترعرع في كنف والدين مؤمنين، وحظي بإهتمام خاص، وقد حرص والده(جدي) على تعليمه وتثقيفه في أفضل مدارس ذلك الزمان في المنطقة، وأهمها مدرسة college notre dame bir el hait وكان يترأسها آنذاك الخوري جبرايل سعيد.. وقد تابع الطالب المجتهد محمد (والدي) ، تحصيله العلمي في أكثر من مدرسة الى ان تخرج وبيده شهادة البكالوريا التي حصل عليها بنجاح كبير.. بعد ذلك، عزّ عليه ترك الدراسة ليعمل في بعض المجالات وأحبها الى قلبه، التدريس في المدارس بعد أن إضطر والده الى بيع جميع أملاكه وعقاراته الكثيرة في بلدته الحصون تحت ضغط أقرب المقربين إليه...

وتوالت الأيام ووالدي يعمل ويكافح وقد اقترن بوالدتي وأنجب منها».

وقد مرّ في مقالته، وفي عدة مراحل من التغيرات الجذرية التي تطرأ على الإنسان كظاهرة، وهي اللحظة التي فيها تتغير الصفة الكيفية القديمة، الى صفة جديدة. نتيجة الجهد المكثف والظروف التي يحصل فيها التطور.. وكل ظاهرة من الناحية الجوهرية تكتسب صفة كيفية جديدة بالطريقة الخاصة بها.. والمعلوم ان نجاح الإنسان يتوقف على الظروف، كما ان الظروف تتوقف عليه، وهي ضد اللامبالاة وعدم المبادرة والمقاومة، وتحث على العمل المجدي للوصول الى المثل السامية، كما أن مفهوم العمل المجدي يتحدد من طريق مفهومٍ طبيعي أو فوق العادة.. وقد تصبح النزعة الطبيعية للتطور إتجاهاً يدافع عن المبادئ العلمية للأخلاق التي ترتبط بالنظام الإجتماعي وبمصالح ورغبات الناس... والمبادئ الأخلاقية يمكن ان تكون علميّة إذا كانت على أساس معطيات تتعلق بالعلوم التربوية، بإعتبار ان الإنسان هو التاج الأعلى للطبيعة.

وأخيراً، فإن أهم الأسباب التي تساعد على الإندماج والتجانس هي عملية الإندماج الثقافي والعلمي، والإهتمام بجديد العلماء الذين برزوا في حقولهم المعرفية.. ويبقى علم وفكر سماحة الشيخ الدكتور أحمد محمد قيس، الناهض المتسلق قمم المجد ، المحلق على طيّات الأفئدة الرهيفة الحامل نذورها شموع حبٍ مضاءة في ليل سوادٍ طويل، ولذلك نراه وهو يترجم لنفسه وخصوصاً مرحلة صعوده الميمون وتحصيله العلمي وكيف كان يتحمل أثقال وهموم الحياة، ويردع نفسه عن كل مباهج الدنيا وما فيها، وللآخرين الذين يرى في آثارهم وما قدموه للعلم إرضاء وإغناء لعقول الدارسين والناشئة في لبنان وفي الوطن العربي، واستطاع السير بنجاح وتحقيق المعجزات ، الى أن وصل وقرّت بنجاحه وتقدمه أعين السيدة الفاضلة والدته وإخوته وأخواته وجميع محبيه ومريديه حفظهم الله وأطال أعمارهم.

ولقد قام سماحة الشيخ الفاضل ابراهيم مصطفى بريدي العرسالي عضو الهيئة الإدارية في تجمع العلماء المسلمين في لبنان بكتابة قصيدة امتدح فيها آل قيس عموماً وسماحة الشيخ الدكتور أحمد قيس خصوصاً وجاءت على الشكل التالي:

وفي الختام لا بد من التوجه بالدعاء للباري سبحانه وتعالى بأن يطيل في عمر سماحة الشيخ الدكتور أحمد محمد قيس الوائلي المزحجي وأن يوفقه لمرضاته وأن يجعله ذخراً وفخراً لوالديه وأبنائه ولعموم محبيه ونحن منهم.

والحمد لله رب العالمين