لحظة اعتراف

15/11/2018
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم المربية الأستاذة الحاجة نمرة حيدر أحمد (أم مصطفى)

دخلت البيت متجهمة الوجه على غير عادتها، لم تجلس مع والدتها التي وصلت قبلها من عملها، بل دخلت إلى غرفتها وكأنها تخفي شيئا. تعجبت الوالدة ولكنّها لم تلحق بها وفكرت أن تتركها قليلأً حتى تهدأ وترتاح قبل أن تفيض عليها باسئلتها.

بعد ربع ساعة خرجت «سنا» من غرفتها لتجلس قبالة والدتها، ولكنّ احمرار وجهها وتجهّمه يدلان على أن هناك أمراً ما قد حدث. بادرتها والدتها بالقول: أنا أسمع هل لديك ما تقولينه لي؟

أجابتها بنبرة حادة: «لا، لا أريد أن أخبرك شيئا كي لا يصل لمعلّمي صفي فيكفيني ما حصل».

ماذا تقولين يا «سنا» لم أفهم.

منذ يومين أخبرتُك بأنّ معلمة الرياضيات سخرت من إجابتي حول المسألة الرياضية، مع العلم أنّ الطريقة التي اعتمدتها في الحلّ هي التي تعلّمتها في مدرستي السّابقة، فسارعتِ أنتِ وطلبتِ منها الانتباه لذلك، ولكن أي انتباه ألقاه منها؟ لقد أجلستني في المقعد الأخير على الرّغم من أنني ألبس نظارات طبيَّة، ولم تعُد تُشرِكُني بأي نشاط صفّي، وعندما أقول لها أنا لا أرى ما يُكتب على اللوح تصفعُني بكلماتها المستهزئة.

أنا لا أشعر بالأمان في هذه المدرسة يا أمي. حتى معلمة الأحياء لا تعطي الأنشطة الأدائية الجميلة إلا لتلاميذها المقرّبين، ولِمن يحضرون لها الهدايا، ويحملون محفظتها، ويمسحون الغبار عن طاولتها وملابسها.

ألا تبالغين يا ابنتي؟ أيعقل ما تقولين؟

هذا ما كنت أخاف منه أن لا تصدّقي ما أقول.

أنا أصدقك ولكن أصابتني الدهشة من وجود هكذا مُعلمين في مدارس مُحترمة.

ما أخبرتك به هو يسير من كثير فجعبتي حافلة بتصرفات بعض المعلمين، أتمنى أن تحضري حصّة أستاذ الفلسفة وسترين كيف انعكست هذه المادة على لسانه فبات يفلسف أبسط الأمور، والمشكلة ليست هنا فأنتِ لا تستطعين ان تقولي له لم أفهم هذه الفكرة، لأنّ سيلاً عارماً من الألفاظ النابية التي نخاف أن نتلفظ بها سينهال عليك، هذا عدا التوبيخ والصراخ والاستهزاء، الحمد لله أنني وجدت للمقعد الأخير فضيلة واحدة، وهي بعدي عن مرمى نظراته وسخريته المؤذية أثناء غضبه.

تصوّري يا أمي بالأمس أتى النّاظر ووقف بجانب الباب وقال لنا: «أنا أعرف من ينقل الكلام لوالديه، ويشكو المعلمين أمام الإدارة، وأنا لن أترك هذه المسألة تمرُّ بسهولة». شعرت عندها أنني المعنية بكلامه، لأنك أنتِ من لفت نظر معلمة الاجتماعيات إلى ضرورة إشراكي في أنشطة الخدمة الاجتماعية وأبلغت مدير الحلقة بذلك.

أُمي أرجوك لا تتدخلي في شؤوني المدرسيّة لأّنّ ذلك يرتدّ عليّ سلباً، أنا لا اريد أن أخسر نفسي في هذه المدرسة، يكفيني الرّعب الذي يصيبني من ناظرة أشبه بضابط مجوقل، سلاحها صراخ، وكلام جارح، وعقاب جماعي.

أنت علّمتني يا أُمي أنّ شخصية الإنسان تبنى منذ الصّغر، و أنا منذ نعومة أظافري أعَنّف من المعلمات ورفاقي ويزرعون الرّعب في نفسي، لأنني لست جميلة ولا استطع أن أعبّر عن نفسي بطلاقة، خطي سيىء جداً ولم أتمكن من تحسينه، والخجل يتملّكني كلّما أردت العرض أمام رفاقي، وأشعر بأنّ قدمّي غير قادرتين على حملي، ونبرة صوتي تتغير، والعرق يتصبب من جبيني ومن كلّ جسدي، فأخاف من الوقوع والإنهيار في الصف أمام الجميع.

أنت تسألينني دائما عن سبب جلوسي لوحدي واعتقدت بأنني لست اجتماعية، صحيح ذلك يا أُمي، فأنا بتُّ أرى في الوحدة ملاذي وسلوتي، لا في المنزل ولا في مدرستي، فأنت منشغلة عني بعملك، ولا أراك إلا غارقة فيه، والكلام معك يحتاج إلى موعد، وأنا لا أجد مَنْ أشكو إليه ما أُعاني، فثقتي بالناس باتت معدومة، لا سيما بعد عدة مواقف حصلت معي، يكفي أنّ رفاقي يعيرونني دائما ببدانتي، و يسخرون من حيائي، ويتحاشونني.

إن هاتفي الذي حاولت أخذه مني مراراً بات صديقي عند الفراغ، فأنا من خلاله أجد صداقات جديدة، وأسمع عبارات جميلة أرغب بسماعها وتشعرني بأنني كائن حيّ له حيز في الوجود، وليس عالة على أحد، تُحترم أفكاره وآراؤه، لا تلاحقه العيون ولا تجرحه الألسن.

عِبْر الهاتف أجدُ حياة ثانية، أجدك يا أُمي عندما افتقدك وأنت في جهادك اليومي في وجوه الأمهات وفي الحكايات الجميلة، وفي قصص الأطفال التي كنت أرنو لسماعها منك وتنشر عبر هذا الجهاز السحري.

إعذري صراحتي، وسامِحيني لأنني لم أُخبرك بما أشعر به مع أنك الأقرب الى نفسي.

سوط عذاب انهال على جسد الأم وروحها فاغرورقت عيناها بالدموع، غمرت ابنتها بقوة علّها تعوّضُها قليلا عن مساحة عُمرٍ أهملَتها في غمرة انغماسها بالعمل لتأمين متطلبات الحياة. قالت بصوتها المخنوقسامحيني يا ابنتي لم أكن أعلم، لقد فاتني أنَّ متطلبات النفس والروح أهم من تأمين حاجات الجسد، والحمدلله أنّك فتحت عينيّ على ذلك قبل فوات الآوان».