مشاكل البيئة في الريف اللبنانيِّ خطر داهم

09/04/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

إعداد: الأستاذ منيف موسى الشوّاني

.1ـ المقدّمة:

تتقدم العلوم التقنيّة بخطى صاعدة وتحرز الصناعة العالميّة تطوراً كبيراً، ومع كل نجاح يبدي أنصار البيئة قلقهم إزاء ما يشهدونه من تغير في التوازن القديم بين الإنسان والأرض، ومن كسر لحلقات التوازن التقليديّة، ويتخوفون من بدايات لحلقات جديدة لم تتضح بعد معالمها تماماً.

كانت حلقات البيئة التقليديّة تقدم على الإخلال بالتوازن العفوي بين عناصرها المتنوعة، وإستعادته ضمن ديناميكيّة مضبوطة أبعادها، دامت ملايين السنين، وهذا التوازن المتحرك بين الكائنات الحيّة ومنها الإنسان والمحيط الذي يعيشون فيه، لم يكن ليواجه الأخطار لولا تدخل الإنسان وتقنياته المتطورة، لأنّ أكبر حام للبيئة في مكان معين هي الطبيعة بالذات. وأجدادنا الّذين عانوا من أهواء الطبيعة ونزواتها لم يكن من السهل إقناعهم بأنّه سيأتي يوم يتعين فيه حماية الطبيعة من تصرفات أحفادهم.

2ـ مشاكل البيئة في الريف اللبنانيّ.

يشتغل المهتمون بأمر البيئة ومشاكلها لمصلحة المدينة أكثر من القرية والتي تستأهل عناية أكبر مما أُعطيت. وإن التغنيّ بالريف التقليدي والدعوة للعودة إلى الوراء هو محاولة لعدم فهم الواقع وصعوبة الحياة قديماً وهدر الوقت والجهد، وعلى سبيل المثال أن المرأة التي تطهو في قدر الفخار على نار مكشوفة تستخدم من الطاقة قدراً يزيد ثماني مرّات على ما تستهلكه جارة لها ميسورة الحال لديها طباخ غازي وقدور من الألمنيوم. والفقراء الّذين ينيرون بيوتهم بفتيلة مغموسة في قارورة من الكيروسين يحصلون على 50/1 من ضوء مصباح كهربائي ذي 100 واط لكنهم يستهلكون القدر نفسه من الطاقة. بالتالي فهم يدفعون مجتمعين أكثر كثيراً مما تكلفه وحدة من خدمات الطاقة التي يتم إيصالها جاهزة. وينطبق هذا على ظاهرة إنتشار المولدات الكهربائيّة الخاصة. لذلك ينبغي تسعير الطاقة تسعيراً إقتصادياً حقيقياً مع إعطاء ضمانات للمعوزين.

وفي الريف اللبنانيّ يرافق تمدان القرى إرتفاع سريع في أسعار الأراضي فتتراجع النشاطات الزراعيّة، وتتحول الأرض إلى قيمة عقاريّة. فيتلف غطاؤها النباتي بإنتظار الشاري، وفي لبنان أخذت هذه الظاهرة حجماً أكبر بسبب أربعة عوامل رئيسة (مساحة لبنان الصغيرة، الإرتباط العاطفي للمدني بقريته، حجم الهجرة الكبير منذ أواسط القرن التاسع عشر، وأخيراً ظاهرة الإصطياف).

وقد تحوّلت القرية اللبنانيّة إلى فندق سكني للعاملين في المدينة، وتخلّت بشكل كبير عن نشاطاتها الريفيّة المتنوعة، وأصبحت القرى في السفح الغربي لجبل لبنان، والتي يبلغ إرتفاعها بين 700و1000 متر ضواحي دائمة لبيروت الكبرى ومأهولة طوال العام.

فمن يتجول في قرانا اليوم يلاحظ موت روح القرية، ويرى شبكة الطرق الحديثة تدمّر الصخور والمناظر الطبيعيّة والأشجار وتنتشر بالمقابل البشاعة والضجة والنفايات في كل مكان، فنظافة القرية وسيلة لحماية الصحة العامّة وهي شرط ضروري للصحة المعنويّة والأخلاقيّة، وكان القرويون اللبنانيون يهتمون بنظافة بيوتهم ومحيطهم، ويعتاشون من الثروة الحيوانيّة والثروة الزراعيّة اللتين تلتقيان وتتكاملان....

3ـ المحافظة على البيئة مسؤوليّة كل فرد:

إنّ البيئة التي يتخذها الإنسان لسكناه لا تفي بالشروط الصحيّة الأساسيّة، نتيجة لتجاهل الحكومات، أو جهل الأفراد، فباستثناء الكوارث الطبيعيّة، فإنّ الكثير من ظروف البيئة يمكن مجابهتها وتعديلها ودرء خطرها.

فالبيئة لا توجد كمجال معزول عن الأفعال، والطموحات والحاجات البشريّة، ومحاولات الدفاع عنها بمعزل عن الهموم الإنسانيّة أعطت مصطلح البيئة ذاته معنى ساذجاً في بعض الأوساط السياسيّة واعتبرت مشاغل المختصين بمسائل معونات التنميّة ولكن البيئة هي حيثما نعيش جميعاً، والتنميّة هي ما نفعله جميعاً لتحسين حياتنا في هذه البيئة. ونظراً لأن التدهور البيئي ملاحظ ومستشعر بوضوح تام على المستوى المحلي، لذا فإنّ نهج التنميّة يرتبط إرتباطاً وثيقاً بالبيئة المحليّة. والعوامل المؤديّة إلى تلوث البيئة، والتي رافقت التكاثر السكانيّ، متنوعة سنستعرض أهمها آملين إزالة أسبابها، ونشر الوعي بأهميّة البيئة والحفاظ عليها بين السكان من خلال المدارس والنوادي واللقاءات والمحاضرات.

أ ـ صيد الطيور المكثف وغير المنضبط، الذي يقضي على الكثير من الطيور النافعة التي تتغذّى من الحشرات المضرّة بالزراعة والإنسان. وعلى سبيل المثال دودة الزياح(الصندل) وهي من أهم الآفات التي تهدّد البيئة والثروة الحرجيّة في لبنان، فهذه الديدان تختبئ نهاراً في أكياس تحميها من حرارة الشمس وفي الليل ترعى أوراق الأشجار. فابتداءً من شهر أيار تبدأ الديدان بالنزول إلى الأرض، فتسير الواحدة خلف الأخرى كما لو كانت تشارك في الزياح، ثُمّ تختبئ في الأرض ضمن شرنقة حتى مطلع الصيف وفي شهري آب وأيلول، تخرج فراشة لتضع بيضها مجدداً على أوراق الشجر وأغصانها. وهكذا تتكرر دورتها الحياتيّة. وفي الربيع عندما تكون في مرحلة اليرقة، كانت تتنقل بين أشجار البلّوط والصنوبر رفوف من عصافير صفراء (الصفراية) فتأكلها وعندما خفت هذه الطيور إزدادت بشكل كبير أكياس دودة الزياح في غاباتنا.

ومثال آخر، كانت أعداد كبيرة من عصافير صغيرة صفراء اللون تنقي الأشجار من المن أواخر الربيع، وأيضاً الناقوس وباشق الريّاح والسنونو وغيرها من العصافير التي نراها فوق الأغصان اليابسة، كانت تفتك بالبعوض والذباب والصراصير فيأتي الصياد ويفتك بهذه الطيور فيخلّ بالتوازن البيئوي التقليدي.

ب ـ الإستخدام المكثّف للمبيدات الزراعيّة يقضي على الحشرات النافعة التي تعتاش على الآفات. فازدادت الآفات المقاومة للمبيدات على الصعيد العالمي. ويقاوم الكثير منها حتى أحدث المواد الكيماويّة. ففي عام 1941، ظهرت في الولايات المتحدة، أول انواع القمل المقاوم للـ د.د.ت إلى درجة أنّه في الخمسينيات لم يكن ينمو ويترعرع إلاّ إذا أضيف الـ د.د.ت. إلى درجة الوسط الذي يعيش فيه. وزيدت بطبيعة الحال الكميّة المستخدمة وسوّقت منتجات جديدة منها. وقدرت آنذاك الكميات التي كانت قد ثبتت في أنحاء العالم بأكثر من مليون طن من الـ د.د.ت. والمعروف أنّه يتراكم عبر السلاسل الغذائيّة ويتركز في دهون الحيوانات. وعلى هذا النحو يتركز في ديدان الأرض دون أن يؤثر فيها كثيراً على حين يسمم الشحرور الذي يتغذى على هذه الديدان.

وأيضاً يؤدي إستخدام المُبيدات بمعدلات عاليّة إلى إبادة الكائنات العضويّة بالتربة والتي تحافظ على خصوبتها وإلى التلوث الكيميائيّ لمياه الشرب وتلويث الغذاء والماشيّة.

والحلُّ يكمن بترشيد إستخدام المُبيدات الزراعيّة عن طريق التعاونيات الزراعيّة وليس عبر الشركات التجاريّة التي من أولى إهتماماتها بيع منتجاتها.

ج ـ الإفراط في إستخدام الأسمدة الكيماويّة الأمر الذي يؤدي إلى إضعاف التربة وتلوّثها، وإن زادت إنتاجيتها في الموسم الأوّل، بسبب الترسبات التي تبقيها هذه الأسمدة وتنقلها مياه الأمطار فتلوث المياه الجوفيّة .

د ـ عدم الإهتمام بالأحراج فنتيجة لقطع الأشجار المستمر، خاصة مع إستخدام المنشار الأوتوماتيكي، أضحى الكثير من المساحات الحرجيّة جرداء بعدما قطع معظمها لغايات عقاريّة.

وتربيّة الماعز تفتك خاصة بالشجيرات الصغيرة فتؤخِّر تجديدها. وايضاً التسبّب بإشعال الحرائق عن قصد أو إهمال، خاصة الحرائق المتنقلة، نتيجة ترك النّار مشتعلة تحت الأشجار التي تظلّل المتنزهين في أيام العطل، ورمي الزجاجات الفارغة التي تركز أشعة الشمس على العشب اليابس فيشتعل. مع التأكيد على ضرورة العمل على إطفاء الحرائق بالسرعة الممكنة وعلى وجوب الإتصال سريعاً بالأجهزة المختصة، وعلى توعية المواطنين على أهميّة هذه الأحراج من كافة النواحي الجماليّة والسياحيّة والطبيعيّة، وشرح أهميتها في تنقيّة الهواء وتثبيت التربة، وتوفير المأوى للأنواع البريّة من الطيور والحيوانات.

والمهمة الحاسمة هي موازنة الحاجة إلى إستغلال الأحراج في مقابل الحاجة إلى الحفاظ عليها. والمفترض أن تبدأ برامج الحفاظ على موارد الأحراج بالسكان المحليين الذين هم ضحايا التدمير ووسائطه في آن واحد، والّذين سيقع على كاهلهم عبء اي مشروع إداري جديد.

هـ ـ رمي دواليب المطاط غير الصالحة وهياكل السيارات القديمة على الطرقات والأمكنة القريبة منها على نحو يشّوه المناظر الطبيعيّة.

و ـ رمي النفايات على جوانب الطرقات، لا سيما النفايات المنزليّة التي تزداد بإزدياد التطور الإجتماعيّ وإرتفاع مستوى المعيشة. فتكدّست النفايات على منعطفات الطرق وعلى مقربة منها خاصة في المساحات الخاليّة من البناء بين القرى، ممّا أحدث خللاً في المحيط البيئويّ كله سواء بإحداث التلوّث في التربة والمياه والهواء بفعل الروائح الكريهة، وإنتشار الحشرات الضارة والديدان الدابة أو بتشويه المناظر الطبيعيّة.

ويستطيع أي مراقب أن يلاحظ يومياً إهمال عدد من المواطنين للنظافة برميهم لأكياس نفاياتهم على جوانب الطرقات، وهم يمرون في طريقهم إلى العمل في المدينة بالقرب من مستوعبات النفايات المنتشرة على طول الأوتوستراد والطرقات الرئيسة: فمن المفروض توعيتهم إلى مضار النفايات المُنتشرة في الطبيعة، وحثّهم على الضغط على البلديات لنقل هذه النفايات والتخلّص منها بطريقة الحرق بإنشاء محرقة لهذه الغاية تتناسب مع حجم كل منطقة.

ز ـ حفر الآبار وإستخدامها حُفراً صحيّة، حيث يحكى عن وجود العشرات منها، وإنعدام المراقبة وضعف السلطة جعلا فئة من المواطنين تحلّل ما يحرّمه القانون، فمن الضروري إذن إقفال هذه الآبار لتجنّب تلوث المياه الجوفيّة بالمياه المبتذلة وإنشاء مجار عامّة.

ح ـ الضجيج، خاصة في الليل، المتأتي من الموسيقى الصاخبة، والسيارات والدراجات النّاريّة، والتفجير بإستخدام الديناميت بكميات كبيرة... إلخ ومن مساوئ الضجيج أنّه يحدث خللاً في الجهاز العصبيّ عند الإنسان ويرفع لديه ضغط الدم، ويهدّد جهاز السمع، ويخفض قدرته على التركيز والتفكير والعمل.

ط ـ تشييد الأبنيّة على الشواطئ خلافاً للأنظمة المرعيّة الإجراء، ممّا شوّه مناظرها وغيّر مظهرها الطبيعيّ. فالمسافر في السيارة على طريق بيروت ـ طرابلس الممتد بمحاذاة الشاطئ يسير عشرات الكيلومترات دون أن يستطيع مشاهدة الشاطئ ومياه البحر بسبب الأبنيّة والتجمعات السياحيّة التي تمتد طولاً وترتفع علواً أحياناً.

إنّ أياً من هذه المظاهر المشوّهة للطبيعة أو الأبنيّة المخالفة للقوانين لم يكن موجوداً قبل 1975، وحدث في الستينيات أن شيّد أحد النافذين مبنى على الشاطئ بطريقة مخالفة للقانون، فما كان من السلطة آنذاك إلا أن أصدرت أوامر بتطبيق القانون وهدم البناء المخالف، ونفّذت الأوامر بالدقة والسرعة اللازمتين.

ي ـ هدم المعالم الأثريّة والطبيعيّة كما جرى في نهر الكلب وفي كسارات نهر إبراهيم وغيرهما، وشق طرقات الفرز في الطبيعة وتشويهها بالإسفلت الأسود دونما حاجة للبناء حالياً أو في المستقبل القريب، إنّما لرفع أسعار الأراضي وتحويلها إلى المضاربات العقاريّة.

4ـ الخاتمة:

إنّ مُنتجات التكنولوجيا هي التي تشبع الحاجات في النهاية، وحماة البيئة لا يدعون إلى العودة للوراء ومحاربة التكنولوجيا، بل إلى ترشيد إستخدامها وإزالة تعدياتها على المحيط الطبيعيّ وعلى الإنسان نفسه، فنرى المشاهد الوحشيّة على شاشة التلفزيون بدون مبرّر(البرامج الشعبيّة)، يشاهد الطفل الأميركي حتى يبلغ من العمر الثامنة عشرة، ما يصل معدله إلى 40ألف جريمة على شاشة التلفزيون.

تضاف إليها مشكلة البطالة، فمن النادر أن تكون منح الضمان الإجتماعيّ كافية لتجنب الإغراء الشديد للإنخراط في ممارسة الإقتصاد الأسود أو في النشاط الإجراميّ. وممّا لا شك فيه أن الفرد الذي يجد وظيفة يجدها ممتعة وهو في عمر العمل يعتبر نفسه محظوظاً.

ومن المعروف أنّ الإهتمام بالبيئة يعتمد على المستوى الثقافيّ والاقتصاديّ والإجتماعيّ للفرد، لذا يجب أن تصاحب التوعيّة البيئيّة إزالة التفاوت الإجتماعيّ الكبير ونشر التعليم، وتقديم الخدمات الأساسيّة لأحزمة البؤس والمساكن الشعبيّة.

فلا يمكن للقانون وحده أن يفرض الصالح العام، فذلك يحتاج بشكل أساسي إلى إدراك المجتمع وتأييده، ومشاركة عامّة أوسع في إتخاذ القرارات التي تؤثّر في البيئة، ويتطلب ذلك أيضاً تشجيع مبادرات المواطنين وتفويض المنظمات الشعبيّة، وتقويّة الديمقراطيّة المحليّة ، كي لا تندرج الطبيعة والمكان والماء والهواء في عداد السلع التي تسير في إتجاه الندرة وبالتالي إرتفاع الأسعار.