رحلة عمر... ونموذجُ كفاح

09/04/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

الأستاذ الحاج محمد عليّ قيس

ليس من السهولة بمكان أن يكتب أحد عن حياة أي إنسان بشكل دقيق وتفصيليّ ما لم يُحط بكافة جوانب حياته بشكل مباشر أو غير مباشر بإطار علميّ موضوعيِّ.

لهذا فإنّ الكتابة عن الرجل المكافح المرحوم الحاج الأستاذ محمد علي الحاج حسين(1) إبراهيم قيس ليست سهلة على الإطلاق، لأسباب قد تظهر في سياق الحديث عنه، وأخرى ستبقى غامضة وغير مفهومة رغم الجهد المبذول لإماطة اللثام عنها، إلاّ أنّه مع ما أمكن الحصول عليه من معلومات ووثائق وما أمكن تحصيله من معلومات متناثرة هنا وهناك يمكن تكوين ملامح صورة عن شخصيّة لبنانيّة جبليّة شيعيّة مكافحة رغم الإضطهاد ومرارة العيش، تصلح لأن يكتب عنها ويؤرخ لها، عسى بذلك أن تشكل إنموذجاً وقدوة لنا جميعاً، وهذا لعَمري من البرّ به.

في حضن جبل شامخ من سلسلة جبال لبنان الغربيّة في أعالي منطقة جبيل الساحليّة تقع قرية الحصون، هذه القرية التي إستمدت إسمها من وجود العدد الكبير من القلاع العسكريّة التي كان يتحصن بها أهلها أثناء غزو المماليك لهذه البلاد عام 605هـ، الموافق لعام 1305م، وقتلهم وتشريدهم للقاطنين فيها من المسلمين الشيعة بمختلف مذاهبهم، لذا أصبحت تعرف لاحقاً بإسم كسروان الفتوح نسبة إلى الفتح المملوكي لجرود كسروان وقرية الحصون منها.

وفي هذه القرية الوادعة التي تعلو عن سطح البحر ما يقارب من 950 متراً، والتي كانت ولا تزال تشكل نموذجاً رائعاً للعيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين، حيث نشاهد هذا الأمر من خلال وجود كنيسة مار إلياس القريبة من مسجد البلدة، وكذلك من خلال وجود كنيسة مار جرجس القريبة من مسجد مُحمّد رسول الله، في منطقة السقي أو (سقي فرحت)، أو من خلال التضامن والتعاون الإجتماعيّ بين أبناء هذه القرية من المسلمين والمسيحيين.

في مثل هذه الأجواء من الإلفة والمحبة من العام1925 رُزِقَ الأستاذ علي(2)الحاج حسين إبراهيم قيس بمولود ذكر من زوجته وإبنة عمه فاطمة أبي حيدر، ولقد أدخلت هذه الولادة الميمونة البهجة والسرور على قلب هذه الأسرة الكريمة لكون هذا المولود الذكر هو الوحيد وسط ثلاث بنات هنّ: أميرة، زعم، وناهدة، ولقد أطلق الوالد إسم محمد على هذا المولود تيمناً بإسم النبيّ الأعظمP.

عاش هذا المولود وترعرع في كنف والدين مؤمنين عطوفين وحظي بإهتمام خاص لكونه المولود الذكر الوحيد في هذه الأسرة ـ وإن كان هذا النوع من التمييز مذموماً إسلاميّاً ـ لذا حرص والده على تعليمه وتثقيفه في أفضل المدارس في نواحي تلك المنطقة فوقع الإختيار على مدرسةcollege notre dame bir El Hait في جبيل والتي كان يترأسها آنذاك الخوري جبرايل سعيد.

حظيَّ الطالب محمد علي بإهتمام أساتذته لنبوغه واجتهاده وتقواه وهذا ما تؤكده الشهادة الصادرة في حقه من المدرسة المذكورة بتاريخ 6 تموز 1935 حيث جاء فيها: التقوى جيدة جداً، السلوك: عظيم جداً، الهندام: حسن جداً، الإجتهاد: جيد جداً، النجاح: جيد جداً، المعدل العام 18 علامة على 20.

وهذا الأمر إن دلّ على شيء، فإنّه يَدلُّ على العناية الفائقة التي نالها هذا الطالب من والديه، والتي تمَّ الإشارة إليها آنفاً.

وكان هذا النجاح في تحصيل العلم مصدر فخر وإعتزاز لوالده الأستاذ علي الحاج حسين الذي كان يتابع شؤون ولده في المدرسة والتي يظهر من خلال النّص الآتي أنّه كان أي (محمد علي) من المقيمين بها، والذي يؤكد هذا المعنى حرص الطالب محمد علي على إرسال شهادة العلامات التي يحصل عليها لوالده ويكتب على ظهرها رسالة له يخبره فيها عن أحواله، ومن جملة ما أرسله لوالده على ظهر إحدى شهادات العلامات: سيدي الوالدين حفظك الله سالماً بعد تقبيل يديك وطلب رضاك الأبويّ راجياً لك الصحة والتوفيق ثُمّ أخبرك أن المعلمين مجتهدين علينا وأننا تعلمنا حركة النشاط جزاك الله وجزا أساتذتي الكرام لا سيما مدير المدرسة جزاكم خيراً وأعانني على تحقيق آمالكم بي. هذا ودروسي والحمد لله سائرة على قدم النجاح هذا والسّلام عليكم وأرغب تقبيل يديك وإستمطار دعائك. وكرّت سبحة الأيام على هذا المنوال من حسن إلى أحسن والطالب محمد علي يتألق بين أقرانه من التلامذة وكان طوال هذه المدة وعندما تسمح الظروف يتردد إلى منزل والديه في منطقة الضهر(أي ضهر قيس) حيث كان هذا المنزل إرثاً لوالده الأستاذ علي عن أبيه الحاج حسين مع عقارات عدة من الأراضي في تلك المنطقة.

إلا أنَّه في نهاية العام 1937 حصل أمر ما في تلك القرية الوادعة أجبرت الأستاذ علي الحاج حسين إبراهيم قيس على بيع وتصفيّة جميع أملاكه في تلك القرية والإنتقال بعائلته إلى منطقة الغبيري والسكن خلف قصر المحامي محسن سليم الذي يقع حالياً خلف مسجد الإمام المهديّ(عج). وفي محاولة لفهم طبيعة ما جرى لم نصل إلى أمر قاطع سوى بعض الروايات التي تتحدث عن إضطهاد شديد مورس على الأستاذ علي من قبل أبناء عمومته وبعضها يتحدث عن إيذائه جسدياً في بعض الأحيان.

وفي ضاحية بيروت الجنوبيّة إشترى الأستاذ علي منزلاً في الغبيري وإستمرَّ بإهتمام شديد بولده محمد على تكملة تحصيل العلم فأدخله مدرسة الغبيري الرسميّة للبنين وهي من المدارس المعروفة بمصطلح مدارس المعارف الرسميّة والتي كان يدرس بها معظم أبناء الفقراء ومتوسطي الدخل وفي هذا إشارة إلى بداية تدهور الوضع المالي عند الأستاذ علي الحاج حسين إبراهيم قيس، الأمر الذي تؤكده بعض الروايات التي تتحدث عن إضطهاد الأستاذ علي ودفعه لبيع ممتلكات آبائه وإرثه بأثمان بخسة في قريته الآنفة الذكر.

 ـ وبهذا الخصوص هناك بعض المدونات التي تحاكي بشكل من الأشكال الأحداث التي جرت مع الأستاذ علي الحاج قيس كتبها ولده محمد علي بخط يده وهي محفوظة لدينا ومؤرخة بتاريخ 5/3/1939م، وجاءت على شكل أقوال وحكم عربيّة مشهورة ومنها:

شرُّ المال ما لا ينفق منه

وشرُّ الأخوان الخاذل

وشرُّ السلطان من خافه البريء

وشرُّ البلاد من ليس فيه خصب ولا أمن

(في هذين البيتين كأنّه يتحدث عن قريته). أو تلك التي جاء فيها:

إذا القلوب تنافر ودُّها

مثل الزجاجة كسرها لا يجبر

(في هذا البيت كأنّه يتحدث عن أقاربه). ومن خلال هاتين المدونتين يمكن فهم ما يجول بخاطر هذا الفتى الذي يشارك أباه هموم الإضطهاد وألم الغربة عن موطن الأجداد وهذا الأمر يدعم بشكل من الأشكال الروايات القائلة بإضطهاد جدّنا الأستاذ علي الحاج حسين قيس، وخاصة أنّها دونت في تاريخ الإرتحال نفسه عن القرية تقريباً ـ.

ولم تكد هذه الأسرة الكريمة تستقر في المكان الجديد حتى بدأ حظهم بالرزق بالتقهقر نحو الأسوأ، إنطلاقاً من مرض جدنا الأستاذ علي الحاج حسين إبراهيم قيس الذي اضطره المرض لبيع ما قد إشتراه في منطقة الغبيريّ، لأجل التداوي ومتطلبات العيش، ، لينزح إلى منطقة الطيونة ليستأجر هناك غرفتين تأويه وعياله حيث وافت المنية جدتنا المرحومة فاطمة حسين قاسم أبي حيدر في شهر تشرين الثاني عام 1949م، إذ كانت رحمها الله خير معين لجدّنا على الصعاب والملاذ العطوف الرحيم لأولادها، وهذا ما ساهم في تدهور الوضع الصحي عند جدّنا الأستاذ علي الذي أصبح من بعدها بحاجة إلى عناية خاصة وَمُكلفة، الأمر الذي حدا بوالدي محمد أن يترك التحصيل العلميّ ويسعى للبحث عن عمل يستطيع معه أن ينهض بأعباء هذه المسؤوليّة التي أُلقيت على كاهله في هذه السن المبّكرة حيث أضحى مسؤولاً عن أُسرة، الأب فيها مريض وثلاث شقيقات لا يملكن حولاً ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم.

في بداية الأمر عزَّ عليه أن يترك الدراسة وأن يعمل في بعض المجالات التي تعتبر وضيعة أو دون المستوى المطلوب لسليل عائلة كانت إلى الأمس القريب معروفة بالعلم والتقوى والثروة، إلاّ أنّ حجم المسؤوليّة وخطورتها الملقاة على عاتقه جعلته يشمّر عن ساعدي الجد ويسعى لتحصيل مُستلزمات علاج والده وما يكفي لإعالة الأسرة. وهناك بعض الأبيات الشعريّة تحاكي ما آل إليه بعد مرض والده الأستاذ علي وقبيل وفاة والدته في عزِّ الأزمة الماليّة التي كانت تتعرض له أسرته (مؤرخة بتاريخ 17/8/1948م)، يقول فيها:

إنَّ الدراهم في المواطن كًلَّها

تكسو الرجال مهابةً وَجلالا

فهي اللسانُ لمن أَرادَ فَصاحةً

وهي السلاحُ لمن أَرادَ قِتالاَ

أمّا الغنيُّ إذا تَكلَّم خَاطئاً

قالوا صَدَقتَ وما نَطقتَ مَحالا

أمّا الفَقيرُ إذا تَكَّلمَ صَادِقاً

قالوا كَذِبَتَ وَفنّدوا ما قَالَ

ولم تَمض على وفاة جدتنا فاطمة مدة حتى حدثت بعض الأمور الجميلة والتي ساهمت في تخفيف الضغط المعنوي والمالي اللذين أثقلا ظهر معيل الأسرة المرحوم الوالد محمد علي، وتمثلت هذه الأمور في زواج الأخت الكبرى أميرة علي الحاج حسين قيس بعلي محمد حمزه شمص ـأبو غازيـ من قرية مشَّان الجبيليّة، وزواج الأخت الوسطى زعم علي الحاج حسين قيس بملحم كركبا من منطقة بعلبك[ ـ ولعمتنا هذه وزوجها وأولادها الإثني عشر قصة تقشعر لها الأبدان حيث كانوا يقطنون في منطقة تل الزعتر القريبة من المخيم الفلسطينيّ حيث تمّ إعدامهم جميعاً بشكل إجرامي على ايدي بعض ميليشيات الحرب الإجراميّة والعبثيّة وقاموا بدفنهم في قبر جُماعي مع إخوانهم من المظلومين ولم يجد أحد لغاية تاريخه معالم هذا القبر أو الحصول على رفات أجسادهم الطاهرة فرحمة الله عليهم أجمعين ـ.

ولم تدم هذه الفترة طويلاً حتى إرتحل إلى الرفيق الأعلى جدّنا الأستاذ علي الحاج حسين إبراهيم قيس بتاريخ 10/1/1954 مُخلفاً وراءه شاباً وحيداً هو الوالد محمد وبنتاً هي الأخت الصغرى ناهدة، وقام ولده محمد علي مع بعض الأهل والأقارب بمراسم جنازته ودفنه في مقبرة الطيونة القريبة من جامع الإمام الصادق(ع) حالياً.

ونتيجة لتردي حالته الماديّة فلقد إضطر الوالد إلى الإستدانة من بعض الأقارب من آل عمرو وآل أبي حيدر من أجل القيام بمستلزمات الجنازة والدفن وعمارة القبر وكان مقدار ما استدانه لأجل ذلك ما يقرب من مئة وأربعين ليرة لبنانيّة منها من آل عمرو مئة ليرة، ومن آل أبي حيدر أربعين ليرة، أمّا تكلفة بناء القبر، لم يذكر مصدرها إستدانة أم غير ذلك.

وبعد وفاة والده الأستاذ علي بمدة عشرة أشهر تقريباً تزوجت الأخت الصغرى ناهدة علي الحاج حسين قيس من إبن عمها ديب عبد الله أبي حيدر وذلك في:8/11/1954م،

بعد خلو هذا المنزل المتواضع والكريم من الأهل والأحبة بالوفاة أو الزواج إنبرى المرحوم الوالد ليهتمَّ بنفسه فإذا هو يجد نفسه رجلاً شارف على الثلاثين من العمر لم يحصل على شهادة علميّة عاليّة تحاكي طموحه، أو ما يمكن التعويل عليه لتأسيس المُستقبل، ولا مال يمكّنه من التحرك لإيجاد فرصة معينة أو لسداد الديون التي تراكمت عليه من جرّاء علاج والده والإنفاق على شقيقاته، وكأن كل تلك العلامات التي كان يحصل عليها أثناء تحصيله العلميّ والتي لم تكن تتدنى عن 15 على عشرين بأسوأ الأحوال أضحت صفراً أمام ناظريه، إلاّ أن كل ذلك لم يسقط عزيمته المستمدة من إيمانه بالله سبحانه وتعالى، ولقد عبَّر عن ذلك من خلال ما دونه باللغة الفرنسيّة:

Je veus vivre aussi longtemps possible en oubliant les peines de ce mond et jaime le bon  Dieu de tous mon Coeur avant la mort et après la mort.

وترجمتها بالعربيّة: أريد أن أعيش أطول وقت ممكن متناسياً آلام هذا العالم، كما أنني أحب إلهي من كل قلبي قبل الموت وبعد الموت.

لذلك أعاد شحذ همته متوكلاً على الله سبحانه وتوجه للعمل، فبدأ بأحبِّ المهن إلى قلبه وهي التدريس، إلاّ أنّه لم يوفق للتدريس في المدارس العامّة أو الخاصة لأسباب غير واضحة، لذا نراه قد إنصرف للتدريس الخاص للطلاب في منازلهم وهم مجموعة لا بأس بها فمنهم: رباب إبنة الحاج محمد قاسم قيس، ومحمد حسن محسن أبي حيدر، وجملة من الأولاد منهم أبناء المرحوم الحاج أبو حمزة الشاب وهو من نواحي صور في جبل عامل ومن مؤسسي منطقة كمب رحال، وغيرهم من آل زلزلي، وهكذا كان يُرى طوال هذه المدّة متأنقاً في ثيابه، حاملاً لحقيبة فيها بعض الكتب والأوراق، وفي هذه الفترة أصبح لقبه الأستاذ محمد إبن الإستاذ علي الحاج حسين إبراهيم قيس.

إلاّ أنّه لم يستمر طويلاً بالتدريس حيث نراه في العام 1959م، قد إنتقل إلى مهنة أخرى، والظاهر من الأمر أن مسألة التدريس للطلاب في المنازل بشكل خصوصي لم تكن تعطي ثمارها الماليّة، حتى تُمَكِّنه من تأمين مستلزمات المستقبل الموعود ومتطلبات الحياة اليوميّة، وخاصة أنّ معظم أولئك الطلاب كانوا من أبناء متوسطي الدخل أو الفقراء والذي يساعد على هذا المعنى أيضاً إنتقاله من المنزل المستأجر الذي توفي فيه والده إلى منطقة عين الرمانة ليستأجر غرفة أصغر وأرخص منها.

كما قد عمل منذ منتصف العام 1959م، بصفة حارس مبنى(ناطور)، في عمارة يملكها إبراهيم الشعَّار قرب كليّة الطب التابعة لجامعة القديس يوسف والتي كانت تعرف فيما مضى بالطبية واستمر بهذا العمل حتى العام 1961 حيث إنتقل للعمل في المهنة ذاتها ولكن في البناء الملاصق للغرفة التي كان قد إنتقل إليها وأشرنا إليها سابقاً في منطقة عين الرمانة عند ربِّ عمل جديد يدعى عبد الله حسن الزين، الّذي أحبَّ الأستاذ محمد كثيراً فخصص له غرفة في المبنى الذي يعمل فيه وقام بتسجيله في الضمان الإجتماعيّ، عندها بدأ يستشعر الأستاذ محمد بنوع من الإستقرار المالي والمعنوي فبدأ يبحث عن شريكة حياته التي يمكنها أن تتقبل ظروفه وتعينه على الأيام القادمة في اليسر والعسر، فوقع إختياره على يتيمة الحاج أحمد صفا وهي خديجة أحمد صفا والتي كانت تصغره قرابة العشرين عاماً.

بعد زواجه ورغم أوضاعه الماليّة وطبيعة عمله إلا أنَّه أصرّ على الإنجاب والإكثار، وهذا إن دلَّ على شيء فإنّه يدلّ على رغبته العارمة للإحساس بالدفء والحنان الأسري الذي افتقده كثيراً، وعلى ثقته بالله تعالى، فرُزق بداية بمولود ذكر طار قلبه به فرحاً وسروراً وأطلق عليه إسم علي تيمناً بوالده الأستاذ علي وذلك في 5/5/1962م.

بعدها إنتقل مع ربِّ عمله عبد الله حسن الزين إلى منطقة الشياح للعمل لديه في المبنى الجديد الذي كان قد إشتراه وخصص له غرفة ليسكن فيها مع زوجته وولده البكر علي.

وتوالت الأفراح على قلب هذا الرجل المكافح الأستاذ محمد علي حيث رزق في مكان هذا العمل الجديد ببنت أحبها كثيراً حتى آخر أيام حياته وأسماها صباح وذلك في 6/10/1963، ومن بعدها رزق بمولود ذكر آخر أسماه أحمد وذلك في: 15/8/1965 من بعده بمولود ذكر أيضاً أسماه محمود وذلك في:12 /1/1968 وكان طوال هذه المدة يجتهد في عمله من أجل تحسين دخله، فعمل في العديد من المهن وتعلم الكثير من الحرف التي كانت تساعده على هدفه ولا تتعارض مع عمله الأساسي في المبنى المذكور،إلاّ أنّه وبحلول العام 1969م، تقريباً باع السيد عبد الله حسن الزين العقار الذي يملكه والذي يعمل به الوالد ويؤوي أسرته، ورفض الشاري الإبقاء على حارس المبنى وأسرته في العمل وبالتالي في الغرفة التي تأويهم، فإنتقل مع أسرته إلى منطقة كرم رحال القريبة من كرم الزيتون الواقعة قرب منطقة الأشرفيّة والتي كانت تعتبر آنذاك من أفقر المناطق والتي يعيش فيها العديد من الفلاحين ومربي المواشي، فقام الأستاذ محمد علي بإسكان عائلته بشكل مؤقت في منزل زراعي عند أحد الأصدقاء.

عند هذا التطور الخطير هبَّ هذا الرجل المكافح مجدداً سعياً خلف عمل يساعده مع عياله، فوفقه الله إلى عمل في منطقة الأشرفيّة عندها طلب من زوجته أن تساعده لإيجاد غرفة ليستأجرها ويؤوي عياله بها، فوفق الله هذه الزوجة الصالحة إلى غرفة في منطقة الشياح قرب السكن السابق وبسعر مناسب وهي عبارة عن غرفة واحدة مع مطبخ وحمام، فإنتقلت العائلة إلى المنزل الجديد تاركة خلفها الكثير من الذكريات حول منطقة كرم رحال!. وبعد برهة من الزمن إستدعاه مالك العقار الجديد الذي كان قد رفضه للعمل لديه سابقاً في منطقة الشياح وطلب منه العودة للعمل في المبنى مجدداً، وهذا ما أسعد الوالد كثيراً حيث أصبح مكان عمله قريباً من منزله المستأجر حديثاً. وفي منزله الجديد(الغرفة) في منطقة الشياح رزقه الله بقية الأولاد من زوجته الفاضلة رغم تعرضه لنوبة قلبيّة إستدعت دخوله المستشفى لمدة لا بأس بها كما كانت تعاوده النوبات القلبيّة مراراً وتكراراً كل فترة ليعود بعدها للدخول إلى المستشفى لتلقي العلاج وعندما يتماثل للشفاء كان يستأنف عمله كحارس للمبنى، والأولاد الّذين ولدوا في هذه المرحلة وفي هذا السكن الجديد هم على التوالي: بسَّام محمد علي الحاج حسين قيس ولد في تاريخ:10/11/1970، سمر محمد علي الحاج حسين قيس ولدت بتاريخ: 28/12/1972 وهذه المولودة لم يكتب لها البقاء على قيد الحياة حيث وافتها المنية بعد مرور ثمانيّة أيام على ولادتها أي بتاريخ/ 5/1/1973 ومن بعدها مولودة أخرى وهي شهناز محمد علي الحاج حسين قيس ولدت بتاريخ:12/12/1973 ومن بعدها مولودة أخرى وهي دانيا محمد علي الحاج حسين قيس ولدت بتاريخ:20/3/1975م.

كبرت العائلة وعظم ثقل مسؤوليتها على قلب هذا الرجل الكادح الذي كان لا يزال يتعرض لنوبات قلبيّة بين الفينة والفينة، وممّا زاد الطينة بلة هو إندلاع الحرب اللبنانيّة العبثيّة في:13/4/1975م، فزادت الهموم وكبرت المخاوف الجديدة وأظلمت الدنيا في وجه هذا الرجل المثابر في كدحه والمتصدي لهموم الدنيا وغصصها إلا أن نوبة قلبيّة قوية جعلته يُسلم الروح لبارئها تاركاً وراءه أسرة كبيرة في أمسِّ الحاجة إليه والتي كان قد ودّعها قبيل وفاته حيث تناول معهم طعام الغداء ورحل ولم يعد بعدها أبداً، وكان ذلك نهار الخميس الواقع في: 20/11/1975م، الساعة الرابعة ونيف بعد الظهر.

فجهزت جنازته من قبل الجيران وأحد الأقارب وهو المرحوم الحاج محمد قاسم قيس الذي كان له ولولده ميثم أيادٍ بيضاء وخيّرة على هذه الأسرة التي غاب عنها راعيها.

وَشُيّع في اليوم التالي إلى مقبرة الطيونة تحت أزيز صوت رصاص القناصة حيث تَمَّ دفنه في ضريح والده المرحوم الأستاذ علي الحاج حسين قيس، وكأني بوالده الأستاذ علي ينادي من داخل ضريحه ويقول: عجّلوا آتوني بوحيدي وحبيبي فلقد أنهكته السنون واتعبت قلبه، أدخلوه ليستريح على صدري لأستأنس به ويأنس بي فلقد إشتقت إليه كثيراً عسى الله أن يجعل في ذريته من يذكرنا بخير ويترحم علينا ويقرأ لنا الفاتحة أو يتصدق عنّا.

وفي الختام لا بُدَّ من قول ما أمرنا به المولى عزَّ وجل: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا

 بالله العلي العظيم والحمد والشكر لله على ما قدّر والحمد لله على ما هدى والحمد لله كثيراً.

تغمد الله بواسع رحمته والدي وأجدادي وأرحامي المنسيين وأرحام انسبائنا من آل عمرو، وآل أبي حيدر، وآل قيس، وآل مرعب، وآل حيدر، وآل مرجي الوائليين.

السبت في:5/2/2011م.

المدير المسؤول:

الشيخ الدكتور أحمد  إبن الأستاذ الحاج مُحمّد إبن الأستاذ علي إبن الحاج حسين  بن إبراهيم آل قيس الوائليّ

 الحاج حسين إبراهيم قيس اشهر من أن يُعرّف في قريته الحصون والقرى المجاورة حيث تميّز هذا الرجل بمزايا قلّ نظيرها وقتئذ من تقوى وصلاح وعلم وإشتغال بالصالح العام كما كان من أصحاب المال والثروة حيث كان يملك قسماً كبيراً من أراضي قريته أهمها ذاك الجبل المعروف بإسم الظهر وما زال يطلق عليه لتاريخ اليوم إسم(ضهر قيس) نسبة للحاج حسين.

كان في ما مضى يطلق لقب أستاذ على كل متعلم يجيد القراءة والكتابة وخاصة أن جدّنا علي كان من المتعلمين والمثقفين وكان يعمل في محتسبية سكة الحديد(القطارات) بالإضافة إلى أنه كان يدرّس في مدرسة القرية في الحصون كذلك في إحدى مدارس قرية المعيصرة آنذاك.

هكذا أتت في النّص المدون وإن كان الأصح أن يقول سيدي الوالد لكن يحتمل أنّه اراد الأب والأم معاً.

أفادني إبن عمي القاضي الدكتور عمرو رئيس تحرير هذه المجلة أنّ المبلغ الآنف الذكر ليس هو إستدانة من آل قيس وآل عمرو وآل أبي حيدر وآل مرعب الوائليين في بلاد جبيل وكسروان وإنّما هو: كمواساة لعائلة المتوفى، وهكذا جرت عادة باقي العائلات الجبيليّة الكسروانيّة من مسلمين ومسيحيين على صلة الرحم  في هكذا مناسبات.

أفادني إبن عمي القاضي الدكتور عمرو، أنّ منطقة كمب رحال كانت معسكراً قديماً للجيش الافرنسي، وقبيل رحيل الفرنسيين عن لبنان إستأجر الأرض والخيم المرحوم الحاج أبو حمزة الشاب، وكان يقوم بتأجير تلك الخيم المؤلفة من بعض حجارة الإسمنت والتنك للفقراء من العمال والموظفين الوافدين إلى بيروت من بلاد جبيل وكسروان والجنوب والبقاع.

أقول: رحمكم الله يا جدّي ويا والدي ويا أرحامي المنسيين، فلقد قيّض الله لكم من ذريّتكم من يسعى لبرِّكم من حجِّ أو صلاة أو صيام أو صدقة أو ما  شابه وهذا إن دلَّ على شيء فإنَّه يدلَّ على رحمة الله الواسعة التي تأبى إلا أن تشملكم، فالله سبحانه هو أرحم الراحمين، وهو مولى المستضعفين، وجابر كسر قلوب المنكسرين، وراحم الأيتام المتروكين ومؤنس وحشتهم وخوفهم، وململم ضيعتهم، وذلك من خلال تسخير أم رؤوفة عطوفة حنونة تعجز الجبال عن النهوض بالدور الذي قامت به هذه الأم والمرأة التي صانت عرضها، وحافظت على شرفها وشرف عيالها، وجاهدت خير جهاد للبلوغ بهذه الأسرة وهؤلاء الأيتام إلى شاطئ الأمان، فلله درُّها وأطال الله بعمرها ووفقنا لمرضاتها أنّه سميع مجيب، ولنا وقفة مُفصّلة معها في اعداد لاحقة بإذنه تعالى.