مارون عبود إن حكى

14/7/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

كان مارون عبود أديباً متعدد الجوانب والإهتمامات، مارس كتابة مختلف الأجناس الأدبيّة، وتفوق فيها جميعاً، ولا سيما النقد الأدبي الذي تميز فيه، إذ إنتهج أسلوباً هو نسيج وحده، لم يستطع أحد أن يقلده فيه، اسلوباً يقوم على السخريّة المرة، والتهكم اللاذع، وخفة الروح، ودقة الملاحظة، والجرأة والصراحة والعفويّة، وإستخدام النكتة والفكاهة.

لقد إعتمد في نقده القارص على ثقافته الدينيّة والتاريخيّة والأدبيّة الواسعة، ومطالعاته المتبحرة في الأدب قديمه وحديثه.. لم يرحم أحداً في نقده حتى ولو كان من أعزَّ أصدقائه، كما فعل في نقده للأخطل الصغير، وأحمد الصافي النجفيّ، وولي الدين يكن الذي قال عنه: «إنّه أكثر من الذباب والبرغش حول المستنقعات..» ويعتمد على ذوقه الفني ومزاجه الخاص، لا على قواعد النقد المعروفة ومدارسه المستوردة من الغرب.

كان يكثر فيه من الهمز واللمز، ويسرف في الوخز إلى حد الجرح أحياناً، فتراه ينقض على من ينقدهم بساطوره، يحطم ويهشم بلا رحمة، مبيناً عوراتهم، ومستقصياً سقطاتهم، حتى يظنُّ القارئ أن له ثأراً عندهم.. وكثيراً ما يلجأ إلى الإستعارة والكناية في بيان فكرته، رغبة في إثارة الإبتسام، كما يفعل الجاحظ وأناتول فرانس، ففي كتابه «الرؤوس» يناقش طه حسين في كتابه عن المتنبيّ فيقول: «كثيراً ما يتوكأ الأستاذ على هذه الحجة في مهامه بالإنكار، ولكنها خيزرانة لا تصلح إلاّ للهشِّ..» إلى أن يقول في موضع آخر: «ينظر في الشعر ليتناوله على  هواه، وكثيراً ما يخمع خلف المتمشرقين كالجواد المشكول، وهو يهزُّ الألفاظ أكثر من المعاني، مثل اللاعب بالسيف والترس، يردعك ولا يؤذيك..».

كان ناقداً عنيداً وعنيفاً، يرفع من يحبه ويريده إلى أعلى عليين، ويخفض من لا يحبه إلى أدنى مستوى، وقد أدت به صراحته وجرأته البالغة في النقد إلى فقدان الصداقة مع كثير من الأدباء والشعراء والكتاب، وكم تألم من إعراضهم عنه، في حين كان من الممكن أن يقبلوا عليه، ويجلّوا قدره، ويحترموه.

لقد ثار في نقده على المحنطين وأصحاب المناهج والمدارس النقديّة، لإعتقاده بأن النقد فن وذوق، وإنطباع وتأثر، وليس علماً توضع له القواعد والأسس والأصول، وكان ذوقه هو المعيار الذي بنى عليه أحكامه ومهما يكن من أمر فقد إستطاع مارون عبود أن ينهض بمستوى النقد الأدبيّ في لبنان والوطن العربيّ، ويعيد له مكانته الرفيعة، بعد أن تهافت وانحدر على أيدي الأدعياء، ودخل محرابه الكثير من المتطفلين وأنصاف النقاد والمثقفين، وتحول إمّا إلى مهاترات وقدح وذم وشتائم أو إلى مدح وثناء وتقريظ.

مثلما تمرد مارون عبود على قواعد النقد الأدبيّ المعروفة، كذلك تمرد على قواعد القصة الحديثة، فقصصه ليست إلاّ مجرد حكايات إستمدها من أجواء القرية اللبنانيّة في عاداتها وتقاليدها، وأفراحها وأتراحها، وسهراتها العائليّة حول الموقد أيام الشتاء الباردة، حيث تروى قصص الزير وعنتره وأبي زيد الهلالي.. ويؤكل الجوز واللوز والزبيب، وتشرب الأراكيل على الحصيرة والطراريح، في مشق ورق التوت لتربية دود الحرير، والخبز على الصاج والتنور، وملء الصبايا جرارهنّ من العين ودحل السطوح الترابيّة، وصنع الدبس والملبن والزبيب والخمرة، وسطح التين وحصاد سنابل القمح ونقلها إلى البيادر، ثُمّ دراستها بالنورج وتذريتها، في مباريات الشباب لقرع جرس الكنيسة، ورفع الأجران والأثقال، وحكايات المختار والناطور والخوري والشماس وراعي الماعز..

إنّها لوحات يعرضها على سجيتها، كما سمعها أو شاهدها أو مارسها في قريته الجبليّة عين كفاع التي كانت على عهد متصرفيّة جبل لبنان معبراً للقوافل القادمة من جبيل إلى جونيه وبيروت وصيدا ودمشق، مثقلة بالبضائع إلى عنابر الشمال: دوما وبشري وإهدن وغيرها من دساكر لبنان، فكانت الطريق ثرثارة أبداً، لا تخلو من الرِجل والحافر، أجراس بغال وجمال تدق، وجلاجل حمير تهمهم، ومكارون يغنون مع الفجر العتابا والميجانا والمواليا والمعنّى والقرادي..».

لقد كان لمارون عبود فضل كبير في تدوين هذه الحكايات الساذجة والطريفة مثل»الأرملة مارينا» و «بابا نويل» و «ركبَوه العجل» و «وعظة بونا السلطان» و «طبيب امرأته» و «مار عبرا والمطران» و «بق البحصة يا شماس».. التي لم يعد هناك من يحكيها، بعدما تطورت القرية، وأخذت تفقد طابعها القديم، وتتخلى عن عاداتها وتقاليدها، وتسير في ركاب المدينة بسبب إنتشار العلم ووسائل الاعلام المرئيّة والمسموعة والمكتوبة.

لقد استقصى قريته أيما استقصاء، ونفذ إلى صميمها، وليست قريته إلاّ نموذجاً للقرى الجبليّة الممتدة من شط جبيل حتى أرز «جاج».. وإذا كانت أقاصيصه تفتقر إلى معظم المقومات الفنيّة، فإنّها لا تزخر بالتصوير الصادق واللون المحلي والعادات والتقاليد القرويّة والأمثال المعبرة، والنقد الإجتماعي الساخر، كل ذلك في أسلوب فكاهي طريف ومرح.

الأوسمة والألقاب

نال مارون عبّود في حياته الحافلة بالعمل والجهاد، عدّة أوسمة وألقاب شهادات، منحته إياها الدولة اللبنانيّة، ودول عربيّة وغربيّة، تقديراً للدور الذي أدّاه في خدمة الفكر والأدب.

«ليته يتاح لي أن أستبدل هذه الأوسمة بمال يعادلها وزناً. فالنياشين، على حدّ تعبير المرحوم الوالد ـ رحم الله موتاكم جميعاً ـ «شمّ ولا تدوق».

سألني الكثيرون من اين لك الوقت لتكتب كلّ ما تكتب، وهم لو عرفوا أنني صرفت حياتي كلّها في هذا الميدان، ولو كنت حرصت كما يجب على عدم ضياعها، لكان لي أضعاف مالي».

«لا أتمثل الحياة إلاّ مدرسة لا نهاية لدروسها.

خرّيجها يتوارى في الظلمة قبل أن يرى النور الذي، ينتظر. ومع ذلك. أراني أؤمن بالحياة إيماناً لا قرار له، وأحبها محبة كليّة ولكنها بدون رجاء».

أحسبني كرة في يد لاعب جبار يقذفها في الفضاء، فلا هو ولا هي تدري أنّى تتوجه وأين يكون مستقرها. فالحياة في نظري لعبة تتلهى بها قوة سرمدية أزليّة، تخرج منها أنماطاً لا تدرك، ولا يزال في قراراتها غرائب وعجائب لا نهاية لها، كلما تزاوجت انسلت أقزاماً وعماليق، وكلما إنفعل الكائن الأزلي تفجرت قواه اللامتناهيّة وانبثق إلى الوجود ما يحيّر كل موجود.

في مذهبي أن الدماغ البشري هو المستودع النائمة فيه، إلى حين، أسرار الطبيعة، وقد عاينته، يبرزها إلى الوجود واحداً واحداً في سبعين عاماً فما كان مستحيلاً أمسى ممكناً لا أتمثل الحياة إلا مدرسة لا نهاية لدروسها. خريجها يتوارى في الظلمة قبل أن يرى النور الذي ينتظر، ومع ذلك أراني أؤمن بالحياة إيماناً عميقاً لا قرار له، وأحبها محبة كلية ولكنها بدون رجاء.

إني أرى الأرض مصدر كل خير وبركة، ومع ذلك يكفر بها النّاس، ينكرون فضلها عليهم، ويفتشون عن سعادتهم في غيرها. أمّا أنا فمذهبيّ في الحياة هو مذهب طرفة القائل:

فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي

فدعني أبادرها بما ملكت يدي

لا أؤمن إلا بأني سوف أموت، ولا يعنيني كل ما يقال عني بعد ذلك.

مذهبي في الحياة أن أعمل دائماً، وهمي أن أسبق من قبلي وأعجز من بعدي، ولكن يا ليت.

أكره القمر ولا أفرح بولادته لأنّه بشير زوال، وأنّا لا اُريد أن أزول قريباً. وأحبُّ الشمس لأنّها رمز الديمومة.

«أتعد هذا فلسفة؟ أنا لا فلسفة لي في الحياة، ولا أؤمن بالفلسفة. واعتقد أنني حجر في مقلاع الجبار العنيد، فتارة يضربني وآونة يضرب بي، فخير ما أعمل هو أن أعمل بلا إنقطاع لأجد اللذة فيما أعمل لا في ما أفكر».

فكل ما أعرف هو أنني نشأت نشأة زمنية في كنف رجل يرى الضحك جريمة، فكان يهزُّ لي العصا كلما خف وقاري، فأعود إلى الترصن، وكان صباي وشبابي رصانة لا قيمة لها لأنّها مُصطنعة وضد طبعي وفتوتي:

فمفترق جاران دارهما العمر

ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها

ومذهبي الأخير، أقول الأخير الآن، فربما كان لي غداً مذهب غير هذا، هو أن استهزئ بالموت، وإني لأعجب كيف يخاف الموت من لا يرى أمامه حقيقة ثابتة غيره. نعلم أننا ميّتون، وإذا حصل الموت قمنا وقعدنا وتفجعنا كأنما حلّ بنا أمر غير منتظر ولا مقدر. فمن لي بمن يضحك ويقهقه يوم أتوارى لتقرّ بذلك عيني وتطيب نفسي كممثل هزلي يسدل عليه الستار بين تصفيق النظارة وعربدتهم الضاحكة. وهل الحياة غير رواية هزليّة؟!

محمد مارون

«رزقت ولداً فسميّته محمداً، فقامت قيامة النّاس، فريق يستهجن ويقبّح ويكفّر، وفريق يوالي وينتصر. وكان أوّل من قدر هذا العمل وَأُعجب به أشدّ الإعجاب، صديقي المرحوم أمين الريحاني، فبعث إليّ بكتاب بيني وبين الريحانيّ. أمّا الآن فإليك القصيدة وفيها التفصيل التام(1).

عشت يا بني، عشت يا خير صبي

ولدته أمه في «رجب»

فهتفنا وأسمُهُ محمدٌ

أيها التاريخ لا تستغرب

خَفَفِ الدهشةَ واخشعْ إن رأيتَ

ابنَ مارونٍ سميّاً للنبي

اُمّه ما ولَدتْهُ مسلماً

أو مسيحياً ولكن عربي

شغلوا المشرق في أديانهِ

فغدا عبداً لأهل المغربِ

بكَ قد خالفتُ يا ابني ملْتي

راجياً مطلعَ عصر ذهبي

فكتابي العدلُ ما بين الورى

في بلادٍ هي أمُّ الكتب

فاتّبع يا ابني أباً أبغّضَهُ

وجفاهُ كلُّ ذي دينٍ غبي

وعلى لحديَ لا تندب وقُلْ

آيةً تزري بأغلى الخطب

عاش حراً عربياً صادقاً

وطواه اللحدُ حراً عربيّ

ذكريات مع معاصريه

كان لمارون عبود معرفة حميمة ببعض القادة الروحيين منهم المثلثا الرحمات البطريركان الياس الحويك وانطوان عريضة. كما تعرّف في القدس على المفتي الشيخ أمين الحسينيّ.

ربطت أسباب الحياة صلات المعرفة بين مارون ورجالات عصره فقد تعرّف إلى رجال السياسة منذ عهد المتصرفيّة حتى عهد الإستقلال، ومنهم الرئيس إميل إده والشيخ فؤاد حبيش والرئيس بشارة الخوري، وفي مدرسة الحكمة تعرّف إلى الأب لويس شيخو، وفي جريدة «النصير» تعرّف إلى أمين الريحاني وكان مارون عبود صديقاً لعمر فاخوريّ.

ونستشف من ذكرياته مع عمر تلك الروح الساخرة التي تملأ أدب مارون عبود، وهذه النزعة النفسيّة عنده والتي تدفعه للسخريّة قد تكون نابعة من مفهومه للحياة حيث يقول:

«ما وجدت ترياقاً لسم الحياة أشقى من الهزء بها وبناسها». وإذا كان مارون يهزأ من الحياة وناسها فإنّه أحياناً كان يتندر على نفسه إذا لم يجد من يتندر عنه كما يقول له عُمر.

وفي بلدة الفريكة، تعرّف مارون على ريحانة الشرق مي زيادة في منزل أمين الريحاني، وعرف مارون عبود أيضاً الشاعر الياس أبو شبكة فصادقه وترك في ذكرياته وصفاً رائعاً له، نقرأه فنخال الياس يسير أمامنا، كان أول لقاء لهما في جريدة المكشوف، ولما مرض الياس أبو شبكة وأقعده المرض زاره مارون مرتين، وكتب عن ذلك يقول:

«مرض الصديق العزيز فعُدته مرتين، وقد علقت بذهني صورة الكاهن الذي دخل ليصلي له، وأنا عنده، فإذا بشاعرنا ينسى أنّه مريض فيقعد في فراشه بخفة عجيبة، ويصلّب برشاقة كأنّها لمع اليدين الذي تراءى لأمرئ القيس، فخلت أنني أزور الشاعر الفرنسي ﭭرلين قبل الإحتضار».

كان مارون عبود ممن حملوا راية الإصلاح، فهو حاول إصلاح النّاس، ودعا إلى التحرر، وإلى مواكبة الحضارة والتقدم. حثّ اللبنانيين على العمل لما فيه صلاحهم، كان صوته عالياً، وكان من وراء الدعاء للسلطان يمرّر كلمته على الرقابة، ولكن كتاباته لم ترق لبعضهم، فتعرض لكثير من التهديدات، ذلك أن من لم يرقهم ما كتبه كانوا يردّون عليه بدبابيس أزلامهم... كم نحن أحوج اليوم إلى مارون عبود وأمثاله.

د. حسن حيدر أحمد

أستاذ جامعي  

مدير ثانوية المعيصرة الرسميّة

القصيدة مؤلفة من أربعة وثلاثين بيتاً إقتطفنا منها عشرة أبيات.