خطاب الوفاء للملازم الحاج حميد نكد عوّاد(أبو عاطف)

3/11/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

في الذكرى الأولى لوفاته

 

بقلم: المؤرخ والمربي الأستاذ محمد علي حيدر عوّاد

 

سلام عليك يا قريب القلب والروح.

سلام عليك وأنت في العلياء من الرحمة والحكمة.

كنتُ صغيراً، وأنت في ريعان الصبا. وكانت نافذتي تطلُّ على السنديانة التي تظلل منزلك الراقد على هضبة بقربنا.

كنتُ أنظر إلى المصطبة وأنت تجلس عليها وبجانبك حوريةٌ وهي حورية التهذيب واللياقة. قد أعطتك كل ما تملك من وهج العطاء وأفضل الصفات. وكيف لا تعطيك هذه الحورية أجود ما عندها من الخير والصدق والجمال. جمال الخُلُق والخلق ولا سيما إذا كانت هذه الحورية هي الوالدة. والدة نبيلة ومعطاء تبتسم لمجيء الأولاد إلى منزلها وتعبئ لنا الجيوب بالزبيب والتين المجفف.

عرفتك تُقَّلبُ الصفحات من الكتب وتختار منها الثمين من المعارف والأفضل في الحكمة.

إمتلأ قلبك رأفة ومحبة وتودداً إلى رفقتك أخوة لي محمود وحيدر وتشاركتم في تداول المعرفة من أقاصيص وحكايات.

أنت في الذاكرة عندما كان يقصدك الرفاق من جيلك فتحسن إليهم بقص شعرهم وإظهارهم بالمظهر اللائق.

أنت في الذاكرة عندما كنت تدخل بيتنا المتواضع المسقوف بالخشب والتراب وتجلسوا حول الموقد أيام الشتاء أنت وأخواني وتمتحنوا بعضكم بالإملاء وفي تحصيل المعرفة وتقويم الذات.

إنها أيام خلت، وعودة في الزمان إلى الماضي، الماضي السحيق فما أحلى الرجوع إليها، وما أطيب مجلسكم المفعم بروح المحبة والإيمان.

إني أذكر ذلك اليوم الأغر عندما نودي إليك وأنت في جبل علمات الأشمُّ ولبّيت واجب التطوع في خدمة قوى الأمن الداخلي في البلاد وبين العباد. ركضت بقامتك الفارعة كالرمح الذي لا ينكسر وبعزيمة الشجعان وانخرطت بصفة دركي تسهر على حفظ الأمن. وكانت خدمتك في كل لبنان بدءاً من الشمال.

كنت أيها الصديق رجل أمن مثالي في تعاطيك مع الرؤساء ومع المحكومين, لا تُنفرِّ ولا تجافي، بل سلكت سلوك الرحمة والمحبة والوفاء، كنت تنفذ بدون ظلم، وكانت اطاعتك للحكام يرافقها الفهم والإحترام، وليس فيها عبادة لأي شخصيّة بل تلقي الأوامر وتنفيذها دون مواربة أو إبطاء، لا محاباة أو جفاء بل إرضاء للعدالة وللحقِّ.

إنّ هذه الشخصيّة المتوازنة استلفتت أنظار المسؤولين واستحقت الثناء والوفاء بالوفاء. نال درجات الإستحقاق وترقى في الوظيفة وتخرّج برتبة ضابط في قوى الأمن الداخلي.

كانت سيرة من أخاطب مسكاً وطيباً وصفات عالية. كان يخبرنا عن شؤون النّاس وعاداتهم كباراً وصغاراً فقراء وأغنياء.

ومن الأخبار التي تدلل على مساعدة الآخرين، بأنّه ذات مرّة طارد بصحبة دوريّة أمنية بعض المطلوبين للعدالة في جرود عكار وإذا بأحدهم بقرب مشحرة لصناعة الفحم، هرب صاحب المشحرة وبرفقته أولاده الصغار. تهدده رجال الأمن بالمثول أمامهم فلم يمتثل وتوارى عن الأنظار. إشتعلت النيران في المشحرة. دفعته المروءة والحمية إلى إطفاء المشحرة وتغطيتها بالتراب مُجدداً حتى يكتمل الإحتراق البطيء في الحطب ليصبح فحماً.

إن هذه الحادثة تنمُّ عن روح عالية بالرأفة والمحافظة على أرزاق العيال والأطفال.

إنّه من الرجال النادرين والمميزين في هذا العالم، عالم المادة والكسب السريع دون الإلتفات إلى براءة الأطفال والحنو عليهم وعلى الحفاظ على أرزاقهم ومعيشتهم.

هذا هو الضابط في قوى الأمن الداخلي حميد عوّاد الإنسان الشهم الخلوق الذي جمع بشخصيته حبَّ النظام إلى جانب الحبَّ والبُعد عن الإنتقام أو الظلم والجور. كان رحمه الله لا يخشى في الحقِّ لومة لائم. ولا يحابي قوياً ولا متنفذاً. ولا يستقوي على ضعيف ممن ليس له سند أو ظهير.

اعتبر الوظيفة رسالة يمكن لأي إنسان أن يطمح إليها، ويفتخر بها وهل أسمى من أن يتولى المرء شؤون أبناء جنسه في الأمن والأمان وفي ملاحقة كل ظالم. والمحافظة على مصير حياتهم واحترام حقوقهم وكرامتهم!

إنَّهُ سخرَّ نفسه بجميع قواه ومواهبه في خدمة العدالة والنظام دون التوقف عند أية تضحيّة، بنور عقله وحسن قلبه، ووحي ضميره، فإستحقَّ منّا الشكر والثناء في هذه الدُنيا والنعمة والثواب في الآخرة.

ومن صفاته المتميزة أنّه كان يصل أبناء قريته والآخرين بالودِّ والرحمة والإخلاص، يحفظ العهد والوعد دقيقاً بوعوده. يحفظ بقلبه وعقله كل صاحب فضل عليه ويبادله بالمواقف الصادقة والإخلاص.

وكان رحمات الله عليه يرد الإساءة بنسيانها ويتعالى عن الصغائر بأنفة الرجال الكبار.

آه ما أقل أمثالك يا أبا عاطف فزت بتقدير النّاس وثقتهم وحباك الله من كل رذيلة. ألا تنام مرتاح الضمير وراحة الضمير تسمو على كل الألقاب. وأمثالك يخلَّدون بما كنت تتحلى به من نكران للذات وبصفات قلَّ نظيرها في التُقى ومخافة الرحمان، رحمك الله وبورك التراب الذي رُشَّ على مثواك.

فنم قرير العين مرتاح الضمير ومن خلفك البروفسور عاطف1 والدكتور محمد على خُطاك سائران وهما يكملان الدرب. يؤديان  الرسالة التي رسمت، رسالة في الصدق وفي الإخلاص وعزّة النفس.

وأختم في ذكراك السنويّة الوداع ثُمّ الوداع أيتها النفس الطيبة صاحبة الذات الكريمة الطاهرة.

علمات في 28 أيلول 2011م.