مفاجأة العدد

3/11/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

الحلقة الثانيّة

 

الدكتور علي دعيبس

 

قد يكون من الطبيعي أن تتضمّن قوانين الفيزياء ثوابت رياضيّة، لكن حضور المبادئ الحسابيّة والهندسيّة في صميم كائنات حيّة أمر عجب. جميل أن نتأمل التفافات تويجيّات زهور دوار الشمس وحراشف أكراز الصنوبر، حيث تظهر عناصر متتاليّة فيبوناكي 1 الشهيرة... 1,2,3,5,8,13,21,34,55كل عنصر هو مجموع العنصرين السابقين له، ونسبة العنصر الذي قبله تؤول، عندما يتعاظم مؤشر العناصر نحو اللانهاية، نحو العدد الذهبي وقد لعب هذا العدد دوراً جوهرياً في الزخرفة على مدى عصور. والدورية الحياتيّة لزيزان الحصاد في النصف الشرقي للولايات المتحدّة الأميركيّة، التي تنبثق كل ثلاث عشرة سنة أو سبع عشرة سنة، العدد 13 والعدد 17 هما أوليان، هي متميّزة أيضاً. وقد ارتأى س. ج. غولد 2، أنّ هذه الدوريّة غير القابلة للقسمة تتيح لهذه الأنواع فرصة الهرب من مفترسيها من الحشرات التي تتبّع دورات من عامين أو ثلاث أو أربع أو خمس سنوات.

قد يكون ما ذكرناه غريباً، لكنّه لا يُقارن بالتطابق المدهش الذي تمّ اكتشافه في مطلع العام 1995م، في أفريقيا لملكة عظيمة تُدعى ديبنوست(3)، تعيش في مناطق يصيبها الجفاف بحيث يساعدها على الصمود رئتان تتنشق بواسطتهما الهواء. وقد استطاع فريق الأستاذ رود هبرنغ(4)، في مختبر البيولوجيا الجزئيّة في هامرفست(5)، في النرويج أن يحدّد على الكروموزوم 3 لهذا الحيوان سلسلة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالثابت الرياضي ∏ الذي هو نسبة محيط الدائرة على قطرها. تبيّن أن السلسلة المكوّنة من العشرين نيكلوتيد(6) الأولى في مقطع الكروموزوم 3 هي على الشكل التالي:

G A T C A A G G G C T T T T A T A T A C

وكما هو معروف يشير الحرف A إلى الأدينين والحرف C  إلى السيتونين والحرف T إلى التيمين أمّا G فيشير إلى الفانين. ولاعتبارات تفرضها الكيمياء الحيويّة. نستبدل A بالصفر وتحلَّ محلّ C العدد 1 ومحلّ T العدد 2 ومحلّ G العدد 3. وهذا ما يحوّل السلسلة السابقة إلى السلسلة العدديّة.

3,0210033312222020201

وهذه بالضبط هي سلسلة الأرقام العشرين الأولى التي تدخل في كتابة ∏ في القاعدة الرباعيّة أو النظام الرباعي.

والعدد الذي تمثله هذه السلسلة مكتوبا في القاعدة العشريّة المألوفة هو التالي:   +  +..... +   +     +  +  + 3

وهذا ما يعطي

 ...3, 14 15 926 5 3 5 8 8 3 04 

كتابة صحيحة للعدد ∏ حتّى الرقم الثاني عشر بعد الفاصلة. وفي الحقيقة تبيّن أنّ مئة وثلاثة وتسعين نيلكوتيد متعاقب تتطابق مع الأرقام المئة والثلاثة والتسعين الأولى في كتابة أشهر الثوابت الرياضيّة أي ∏، في القاعدة الرباعيّة.

على أي حال، ما كان بالامكان تحقيق هكذا اكتشاف لولا وجود طالب ايطالي في مختبر هامرفت، وهو سلمو غيرد نيري، حاسب خارق، تعرّف فجأة أثناء دراسة كروموزوم هذه السمكة على السلسلة المتطابقة مع سلسلة ∏ والتي كان يحفظها عن ظهر قلب. وما هو غريب حقاً ما جرى أثناء تحديدهم الأوّل لسلسلة النيكلوتيدات في هذا الجزء من الكروموزوم. النيكلوتيد رقم 43 لم يكن يتطابق مع ما كان مُنتظراً. كانوا قد وجدوا G. وهذا ما قاد الفريق إلى إعادة العمل مرّة أخرى حيث اكتشف غلطة: النيكلوتيد رقم 43 هوA، تماماً كما هو الحال في كتابة ∏ في القاعدة الرباعيّة.

بطبيعة الحال، من المهمّ جداً التعرّف على أسباب هذا التطابق. قد يرى البعض أنّ هذا التطابق يمكن أن ينوجد صدفة دون أن يكون له أي مدلول. خاصّة إذا عرفنا أن أطول سلاسل الكروموزوم تتعدىّ الألف مليار. وأنّ السلاسل المكدسّة في مختبرات العالم والمعروفة التركيب تتضاعف كل عامين تقريباً وأنّها بالمليارات الآن، فلا عجب إذاً أن ينوجد في هذا الكمِ الهائل تطابق من النوع المذكور دون سبب معين. بالمقابل، قد تدلّ هذه النتيجة على تواجد بُنى رياضيّة في الجينوم ممّا يسمح بإضاءة نظرية التطوّر بنور جديد. وتمثيل التطوّر من خلال الإنتقاء الطبيعي على أنّه طريقة حسابيّة. فكرة سبق إستكشافها في مجال الخوارزميّات الجينيّة. يمكن أن يفسرّ الإكتشاف النرويجي.

وبإنتظار ما سيقدمّه العلم، نسأل ماذا يفيد هذه السمكة أن يكون في جينومها تمثيل العدد المفضّل لدى الرياضيين. هل الجواب على نحو ما يقترحه الأستاذ راي في ايدنبورغ من أن هذا الثابت يساعدها على تكوين خلايا كرويّة بالكامل. أو أنّه وفق ما يقترحه ل. شول في هامبورغ من أن الخصائص الكهربائيّة لهذه السمكة تستوجب السيطرة على قوانين الكهرباء السكونية التي تحتوي العدد∏؟

لا شك أنّ التطوّر العلمي سيوضح ما نجهله اليوم!

وقبل أن ننهي هذه الصفحات نذكر بعض النقاط التي نعتقد أنّها ذات فائدة:

1ـ لقد أعلن رئيس الولايات المتحدّة الأميركيّة بيل كلنتون بنفسه منذ حوالي عشر سنوات إنجاز خارطة الجينوم البشري ووضع هذه الخارطة في متناول الجميع. لا شك في أن نتائج هذا الإنجاز العلمي الضخم ستكون حقلاً يعمل عليه الباحثون عقوداً من الزمن. وقد يجد الرياضيون في خارطة الجينوم البشري تطبيقات رياضيّة لا تخطر في بال أحد اليوم.

وقد يكون ما وجد في جينوم السمكة ديبنوست حالة خاصّة من ظاهرة رياضيّة لا تخطر في بال أحد اليوم. وقد يكون ما وجد في جينوم السمكة ديبنوست حالة خاصّة من ظاهرة رياضيّة عامّة منتشرة في عالم الأحياء.

2ـ خصائص العدد ∏ والتي هي في النهاية خصائص تتعلّق بالدائرة والكرة، وبالتقوّس والتكوّر على نحو أعمّ، شغلت الباحثين على مرّ العصور. وغالباً ما  شكلّت هذه الخصائص مسائل رياضيّة صعبة البرهنة عميقة المدلول.

ومن هذه المسائل نذكر تربيع الدائرة الذي تطرّقنا إليه في مقالة سابقة ومسألة الشكل الذي يجب أن يكون عليه شريط مغلق بحيث تكون المساحة التي يحصرها هذا الشريط أكبر ما يمكن:

طول الشريط ثابت، شكله متغيّر، المساحة التي يحصرها الشريط  تكون أكبر الممكن عندما يأخذ الشريط شكل دائرة.

لا يظننّ أحد أن برهنة هذه النتيجة سهلة هيّنة. لقد تمّت برهنة هذه النتيجة رويداً رويداً طيلة عقود. وترتبط بهذه النتيجة قصّة جلد الجمل الذي استعملته ديدون يوم حدّدت الأرض التي بنت عليها قرطاجة الشهيرة. إضافة إلى ما سبق ذكره، العدد ∏ هو عدد متسام، وبالتالي لا تخضع كتابته في أي نظام منازلي، كالنظام  العشرين أو الرباعي على سبيل المثال، لأي نوع من الترتيب أو القواعد المعروفة. وهذا ما يدخلنا في مجالات رياضيّة خصبة ترتبط بها مسائل رياضيّة وفيزيائيّة وغير ذلك.

 

  Fibonacci

Gould

Dipneuste Protopterus Aethiopicus

Rod Herring

Hammerfest

Nucléotides

 K. ARP, R. ABBIT,Surprise biolodique, pow la science N ˚ 210, Avril 1995.