الهجرة اللبنانيّة في التأريخ المعاصر وآثارها

العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

إعداد: الأستاذ منيف موسى الشوّاني

مُقدّمة: لقد مرّت الهجرة اللبنانيّة بمراحل زمنيّة متفاوتة، شكلّت محطات رئيسة في تحديد مسار التحركات السكانيّة، ويمكن في هذا السياق العام، التمييز بين عاملين رئيسيين، وهما: عامل التهجير الجماعي القسريّ، حيث ترافقت موجات الهجرة الكبرى مع إندلاع الحروب وتصاعد حدّة النزاعات الداخليّة في لبنان، ثُمَّ عامل الهجرة المغادرة للعمل وتحصيل الرزق، حيث إرتبطت هجرة القوى العاملة بالضيق الإقتصاديّ، وإنتشار البطالة، وزيادة الطلب على اليد العاملة المتخصصة في الدول النفطيّة.

ومع ضخامة موجات الهجرة المغادرة وتزايد الإنتشار اللبنانيّ في العالم، أدى ذلك إلى نشوء(لبنان المغترب) الذي يزيد إجمالي عدد سكانه عن(لبنان المقيم)، وقيام الجامعة الثقافيّة في العالم، وإنشاء(وزارة المغتربين)، وتعدّد الجاليات اللبنانيّة في إفريقيا وأميركا وأوقيانيا.

وبسبب هذا الإنتشار الجغرافي الواسع وتعدّد الدراسات حول موضوع هجرة اللبنانيين التي تميّزت بالتركيز على إيجابيات الحركة السكانيّة، رأت أنّها ظاهرة بارزة في الشخصيّة اللبنانيّة التي تميّزت بروح المغامرة والإقدام على المخاطرة، فالهجرة المغامرة كانت تمثل في المفهوم العام الأمل والمرتجى، بل هي صمام الأمان، وهي الخيار الذي يسلكه اللبنانيّ في أوقات المحنة سعياً وراء لقمة العيش.

إنّها النظرة التي تمجد الهجرة المغامرة بكامل فصولها وترى فيها مورداً لجمع المال والثروة مما يؤدي إلى تشجيع الهجرة وزيادة عدد المهاجرين، وذلك دون النظر إلى إرتباطها بالمجتمع الأم وإنعكاساتها على مخططات التنميّة الإقتصاديّة وخسارة طاقاته الإقتصاديّة، وتعرّض البنيّة الإجتماعيّة لمخاطر التفكك.

2 ـ خلفيّة تأريخيّة:

لقد إتخذت الهجرة اللبنانيّة طابعاً مميزاً نتيجة التغيرات الإجتماعيّة والإقتصاديّة التي حدثت خلال السنوات الماضيّة، فمنذ قرن ونصف تقريباً يستمر الإنتشار اللبنانيّ في العالم، وتتواصل الهجرات المغادرة خارج الوطن. بل لقد إتخذ طابع الإنتقال المستمر للبنانيين ورغبتهم الدائمة في السفر شكلاً مُختلفاً تبلور منذ سنة 1975م، حيث بدأت تنكشف المخاطر نظراً لزيادة أعداد المهجرين، وإختيارهم للهجرة الدائمة.

وإذا كانت الهجرة القديمة إلى العالم الجديد قد تميّزت بأنّها هجرة دائمة، فالهجرة إلى البلدان العربيّة بنوع خاص، أفريقيا الغربيّة عموماً، قد إتخذت شكلاً آخر، حيث ترافقت موجات الهجرة هذه مع تدفق الثروة النفطيّة وغزارة الإنتاج وحصول بعد الدول على إستقلالها لإستغلال مواردها الطبيعيّة، وقد إتسمت هذه الهجرة بسمة الهجرة المؤقتة، خصوصاً اثر عودة العديد من المهاجرين بعد تحويل أموالهم للعمل في لبنان، ومع تجدد النزاعات الداخليّة، تغيّرت الحركة السكانيّة وتضاءلت آمال الرجوع إلى الوطن، حيث توقفت عودة المهاجرين الذين نصحوا أسرهم وأقاربهم للحاق بهم.

ونتيجة المتغيرات الواسعة في التوزيعات المكانيّة للسكان، وحركات التهجير الكثيفة داخل المناطق اللبنانيّة، وتدمير العديد من القرى والأحياء في المدن، ثم تقكك الدولة ونشوء الدويلات المتصارعة على أنقاض الوطن، وتصاعد موجات العنف والخطف والقتل، فإنّ طموحات المهاجرين في الرجوع قد تبدلت، وتطلعاتهم الدائمة إلى العودة قد تغيّرت، كما تغيّرت بمرور الزمن أوضاعهم الإجتماعيّة والإقتصاديّة في البلدان المستقبلة، مما يشير إلى ضُعف آمال إسترجاعهم، وإلى أنّه قد فات الآوان للعودة.

وعلى ضوء ما تقدم، ومن أجل الإستفادة في تحليل الآثار الإجتماعيّة، والإقتصاديّة الناجمة عن الهجرة، فقد عرف تأريخ لبنان المعاصر مرحلتين رئيسيتين من مسيرة الهجرة:

المرحلة الأولى: (1946ـ1975):

تمثل هذه الفترة إنطلاقة جديدة ونقطة تحول في تأريخ الهجرة اللبنانيّة، فهي تعتبر بمثابة هجرة مؤقتة لليد العاملة اللبنانيّة إلى (عالم النفط).

ومع بداية الخمسينيات إزداد الطلب على المهنيين وأصحاب الكفاءة للعمل في مشروعات التنميّة الإقتصاديّة.

وقد لعب اللبنانيون دوراً بارزاً في قطاع الإعمار والتشييد، فأسسوا الشركات العقاريّة الكبرى التي نشطت في مجال المقاولات العامّة، فاستقدمت آلاف العمال اللبنانيين إلى دول النفط، في الستينات، واستمرت بوتيرة متصاعدة في السبعينات حيث ارتفعت مع إرتفاع أسعار النفط، والتغيير الإقتصادي الواسع الذي عرفته البلدان النفطيّة.

وقد بلغ إجمالي عدد المهاجرين اللبنانيين المقيمين في الدول العربيّة الغنيّة بالنفط 115726 مهاجراً عام 1975، بينهم 33% في السعوديّة، و22% في الكويت.     

كذلك إتسع تيار الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة، إبتداءً من سنة 1960، خاصة ما يعرف بـ(هجرة الأدمغة).

أمّا عدد الإختصاصيين العرب الّذين هاجروا إلى الولايات المتحدة بين 1966و1972 فقد بلغ 4218 مهندساً وعالم طبيعيات وعالم إجتماع بينهم 334 لبنانياً.

كذلك تزايد عدد المهاجرين إلى أستراليا، خصوصاً في الفترة الممتدة بين سنتي 1961و1971، حيث إرتفع عدد الأستراليين الّذين ولدوا في لبنان من 7253 إلى 24218 مهاجراً.

المرحلة الثانيّة: (1975ـ 2003)

إنّها مرحلة الهجرات الإستيطانيّة الكبرى وقد ترافقت مع الأحداث الأمنيّة التي إنفجرت في لبنان عام 1975، وقد ترافقت موجات المد الكبرى مع جولات العنف التي كانت تجتاح المناطق وتنتقل بين القرى والمدن وَتُهجِّر الآمنين من بيوتهم. وبمرور الزمن تحول التهجير إلى هجرات إستيطانيّة ضخمة شملت العديد من السكان الّذين دمرت قراهم وفقدوا مساكنهم وأرزاقهم وتحوّلوا إلى مشرّدين دون مأوى.

وقد جاء في دراسة أعدتها الجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالم حول هجرة اللبنانيين إلى الخارج إلى أنّ خلال أشهر الحرب، وللفترة الممتدة بين 20 نيسان 1975 و20 آذار 1977،  عدد المهاجرين وصل إلى 625760 لبنانياً(9). عاد منهم بعد هدوء الأحوال 353260، والباقون توزعوا في البلدان العربيّة وأميركا وأوروبا وأفريقيا، وقد تتابعت التدفقات البشريّة إلى الخارج، خصوصاً مع بداية التضخم الإقتصاديّ وإرتفاع أكلاف المعيشة وإنتشار البطالة، فقد تدنى معدل الدخل الفردي في لبنان من حوالى 1230 دولاراً أميركياً عام 1982 إلى حوالي 225 دولاراً أميركياً عام 1985، وإلى 155 دولاراً أميركياً عام 1986، وقد إنخفض هذا المُعدل أيضاً بشكل ملحوظ خلال عام 1987.

وقد ترافقت الضائقة الإقتصاديّة مع أزمات إجتماعيّة حادة، فبعد أنْ كان لبنان يصنّف في عام 1982 من الدول ذات الدخل الفردي المتوسط، أصبح الفرد فيه يشارف مستوى الفقر، كذلك فإنَّ إنخفاض الحد الأدنى للأجور بسبب تدني سعر صرف الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار الأميركي ما جعل من الصعب على المواطن تأمين حاجاته الضروريّة من مأكل وملبس وتنقل، وجعل من شبه المستحيل أن يؤمن الطبابة والتعليم لأطفاله، فقد تدنى هذا الأجر إلى 29 دولاراً أميركياً في 14/1/1978، ثُمَّ إلى 19 دولاراً أميركياً في كانون الأوّل 1987.

3 ـ الآثار الإجتماعيّة للهجرة:

تعتبر الهجرة نتيجة القرارات والرغبات الشخصيّة بهدف تحسين أوضاعهم الإجتماعيّة والإقتصاديّة، وإذا كانت المحفزات للهجرة متنوعة، فهي على العموم تتناسب مع القيم المجتمعيّة السائدة في لبنان، وترتكز حسب تصنيف زريق(12) إلى أهداف رئيسة أهمها: وجود عمل ومدخول جيد، وجود استقرار، وجود أمن، تأمين مسكن مناسب وفرص ترفيه، وجود أهل وأصدقاء، والإحساس بالإنتماء، أمّا اليوم فالهجرة قد أصبحت طريق خلاص بالنسبة للناجين الهاربين من جحيم الحرب للبحث عن الأمن والعمل وهي في الوقت نفسه نكبة تواجه الوطن الذي تستنزف موارده البشريّة فيتداعى بنيانه ويتحوّل كل شيء فيه إلى يباس.

أمّا أهم الآثار الإجتماعيّة للهجرة فهي:

1 ـ إنخفاض عدد سكان لبنان:

إنَّ التأثير الرئيس للهجرة من لبنان، يتمثل في إنخفاض عدد السكان المقيمين، خصوصاً خلال الأعوام الأخيرة من الحرب الأهليّة وذلك لإشتداد تيار الهجرة إلى الخارج وتزايد عدد المهاجرين بالنسبة للسكان المقيمين في لبنان.

وتبيّن التقديرات أنّ عدد سكان لبنان المقيمين قد إنخفض بين سنتي 1982و1987 نتيجة الهجرة إلى الخارج وذلك من مليونين و916 نسمة إلى مليونين و684ألف،  وإنَّ عدد المهاجرين في الخارج قد بلغ 400 ألف نسمة سنة 1984، أو ما يعادل 1210 %، من إجمالي عدد سكان لبنان، ثُمَّ 495 ألف سنة 1987، أو ما يعادل 1615 % من عدد السكان.

2 ـ تأثير الزواج وإنخفاض معدل الخصوبة:

كما نجم عن حركة الهجرة إختلال التوازن القائم في أعداد الذكور والإناث والّذي نشأ نتيجة هجرة الذكور  المتزايدة، خاصة ممن تتراوح أعمارهم بين25 و35 سنة مما أدى إلى بروز فجوة عميقة في وسط الهرم السكاني، وهذا التوزيع له تفاعلات إجتماعيّة تنعكس على مستوى الخصوبة وتأخر الزواج، وعلى جميع نواحي الحياة العائليّة والتربويّة والإنمائيّة.

3 ـ إعادة توزيع السكان:

يلاحظ من معظم المناطق الللبنانيّة، أنّ الهجرة قد إرتبطت في السنوات الأخيرة من الحرب الأهليّة بمعظمها بالتهجير السكانيّ، وغالباً ما يعتبر التهجير الدافع الرئيس للهجرة، فبعد عمليات الترحيل والإقتلاع التي حدثت في معظم المناطق، تأتي الهجرة خلال الأحداث، كمرحلة مكملّة للحركة السكانيّة في لبنان.

وإنَّ الهجرة الخارجيّة في لبنان، قد إرتبطت إلى حد كبير بعمليات الفرز الطائفي التي حدثت في معظم المناطق اللبنانيّة، ممّا أدى إلى تغيير واسع في طبيعة المجتمع اللبنانيّ، المتميز بالتعايش القائم بين الطوائف على إختلافها.

4 ـ إزدواجيّة الولاء عند المهاجرين:

إنَّ المشكلة الرئيسة في تزايد عدد المهاجرين هي في إنقطاع العلاقة مع الوطن الأم خصوصاً بالنسبة للهجرات المعيدة التي تمثل هجرة إستيطان حقيقية وهي تختلف عن مثيلتها إلى دول الخليج العربيّة، التي هي هجرة عمل تتسم بالطابع المؤقت.

أمّا الهجرة اللبنانيّة إلى كندا، وإستراليا، والولايات المتحدة، والبرازيل فيلاحظ أنَّ المؤقت فيها يتحول إلى دائم بحيث يبدأ التحول عندما يحصل اللبنانيّ على الجنسيّة وأحياناً بسرعة خلال سنة أو سنتين ثمّ ينال كافة حقوق المواطنية في البلد الجديد، بينما هو يعاني نتائج التمييز والنزاعات الطائفيّة في بلده الأم لبنان، حيث تبرز عنده وتنمو إزدواجيّة الولاء التي تتغذى تدريجياً وبمرور الزمن، وعند زواج المهاجر أو أصحاب أفراد الأسرة معه يختل التوازن لصالح الوطن الجديد، وغالباً ما تنتهي الهجرة بالإستيطان والإستقرار.

5 ـ التفاخر والمباهاة في(قصور المهاجرين):

وفي حين يزداد التضخم المالي، يتواصل الإستهلاك المفرط، ذلك أنَّ الأكثريّة الساحقة من اللبنانيين الّذين يعودون إلى قراهم ومدنهم، لا يستغلون ثرواتهم في الإستثمار المجدي، بل يوجهون هذه القدرة الشرائيّة الضخمة في بعض جوانبها، إلى (الإستهلاك التفاخريّ الصارخ).

وإنَّ ظاهرة (قصور المهاجرين) والتي تَدّلُ على الرغبة في التفاخر والمباهاة وهي حالة نفسية إجتماعيّة تبدو السبيل الوحيد لتصنيف المهاجرين، وتحديد الموقع الإجتماعيّ الجديد لكل منهم، لكنها تبرز التفاوت الكبير، القائم اليوم، بين قرى يفتقر سكانها للخدمات الإجتماعيّة الضروريّة، ولا تتوفر فيها الطرقات والمياه والكهرباء، وفي الوقت نفسه تشيّد فيها قصور تزهو باشكال هندسيّة مختلفة لا مثيل لها وكأنها جاءت من عالم آخر، إنّه بالفعل (عالم الإغتراب). 

5 ـ الآثار الإقتصاديّة للهجرة:

1 ـ تأثير الهجرة على التركيب الإقتصاديّ:

أسهمت الهجرة إلى حد كبير في إزدهار التجارة والخدمات في لبنان. فاللبناني المغترب إعتمد التجارة منذ القديم، فهو صاحب الدكان، وحامل الكشّة، بل لقد تنقل المهاجرون إلى بلاد الإغتراب من بحر إلى بحر، وأسسوا المخازن التجاريّة والشركات الكبرى، وأثناء عودتهم إلى لبنان، أنشأ المغتربون المصارف والمؤسسات السياحيّة ومكاتب التجارة المثلثة والسمسرة.

وهكذا إستخدمت أموال الهجرة في التجارة داخل لبنان وخارجه، وخلال سنوات تمَّ بناء شبكة من العلاقات المكانيّة بين لبنان ومحيطه والخارج، حيث نشأ وتكون المجال الجغرافيّ للهجرة اللبنانيّة.

وإذا كانت التجارة تسهم ولو بشكل غير مباشر في إنماء الهجرة الدوليّة ، فإنَّ الهجرة اللبنانيّة قد ساعدت في إنماء التجارة والخدمات، حيث تمَّ التحول عن الأرض والزراعة والإنتاج، إلى التجارة والإستهلاك والهجرة، كما تمَّ النزوح من القرية إلى المدينة، ثُمَّ الهجرة من القرية والمدينة إلى الخارج، بحيث جرى التحول تدريجياً عن تصدير الحمضيات والتفاح والخضار إلى تصدير الأدمغة والكفاءات والعمال المهرة، وهكذا أصبحت التجارة والخدمات التي تركزت في المدن الكبرى المورد الرئيس في الإقتصاد اللبناني، مما أدى إلى عدم التوازن بين المناطق الجغرافيّة وإلى بروز الفروقات بين الفئات السكانيّة في المدن والأرياف، رغم الأزمات الطبيعيّة والبشريّة التي أصابت الزراعة خلال أعوام الحرب، فهي لا تنال أي إهتمام من قبل الدولة، ويتجلى هذا الإهمال من خلال التوزيع القطاعيّ على مشاريع الإحتياجات الأساسيّة في برنامج الإنفاق الإعماريّ المقرر سنة 1984/1985 والّذي أعده مجلس الإنماء والإعمار حيث كانت حصة الزراعة حوالى 6 % من الكلفة الإجماليّة المقررة، أمّا بالنسبة إلى القروض المُعطاة، فقد نالت الزراعة أقل من 1 % من مجمل النفقات.

2 ـ التحولات المالية للمهاجرين:

تكاد تنحصر إيجابيات الهجرة الدوليّة في تحويلات المغتربين، التي تعبر عن إرتباط المغترب بالوطن، وتزداد أهمية الأموال، عند توظيفها في المشاريع التنمويّة الإقتصاديّة والإجتماعيّة والثقافيّة، ولعلَّ من أهم الآثار الإقتصاديّة للهجرة اللبنانيّة، هي التحولات الماليّة التي يرسلها المغتربون إلى ذويهم، وهي تتكون بغالبيتها من تحويلات اللبنانيين العاملين في الخليج، والتي أصبحت المورد الأساسي لقيمة النقد، وللإقتصاد اللبنانيّ، إذ بلغت في عام 1979 أكثر من 55% من المجموع الصافي للإنتاج الداخلي في لبنان، وتجاوزت بأكثر من 15%، النقص الحاصل في الميزان التجاريّ.

ويمكن التمييز بين نوعين من هذه التحويلات، التحويلات على الحساب الجاري من اللبنانيين المهاجرين خصوصاً العاملين في البلدان العربيّة النفطيّة، ثُمَّ التحويلات لأغراض التوظيف والإستثمار من لبنانيين عاملين في الخارج وغيرهم، أمّا النوع الأوّل من التحويلات مرتبط بتوفر فرص العمل والربح في البلدان العربيّة النفطيّة، أمّا التحويلات بغرض التوظيف الإستثماري فهي متوقفة تقريباً (بإستثناء التوظيفات في سوق الأراضي والبناء) لأنَّها مرتبطة بالأوضاع الأمنيّة وتحتاج إلى إستقرار دائم.

ورغم تأثر التحويلات بالأحداث الأخيرة. فقد أسهمت لفترة طويلة في إعادة التوازن إلى ميزان المدفوعات، كما أنّها تساعد اليوم في تحسين مستوى معيشة أسر المهاجرين المقيمة في الوطن. وقد كان لهذه التحويلات أثرٌ إيجابي مباشر على إزدهار القطاع المصرفي اللبنانيّ وذلك من خلال قيام المغتربين بتأسيس عدّة بنوك وشركات مال وشركات مساهمة، وقد إستفادت هذه البنوك من حرية النظام الإقتصادي، ممّا أدى إلى جذب مُدخرات المغتربين إلى لبنان.

3 ـ إستنزاف الموارد البشريّة:

يعتبر لبنان، بالرغم من قلة عدد سكانه من الدول الرئيسة المصّدرة للكفاءات، وإن هذا الموضوع يشكل اليوم مصدر القلق الرئيس بالنسبة للدول المعرّضة لهجرة العقول، ويعتبر لبنان نموذجاً للدول التي تتعرض لخسارة الكفاءات والقوى البشريّة فيها، ويستدل من بعض التقديرات، بأنّه يوجد بين اللبنانيين المهاجرين في الخارج. أطباء ومهندسون ومحامون وأساتذة جامعات وسياسيون وهم يقدّرون بعشرات الآلاف.

وكما يستنتج من دراسة أعدتها الجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالم، إنّ الهجرة اللبنانيّة خلال حرب السنتين 1975ـ1976 قد سجلت نسبة مرتفعة من العاملين في عدّة قطاعات حيوية وقد توزعت نسبة المهاجرين كالآتي: 50% من عدد العاملين في حقل الطب، 48% في المحاماة، 70% في الصناعة.

وإنَّ الصورة المعّبرة لعملية الإستنزاف تتضح من خلال مقارنة بين عدد المهاجرين ومجموع سكان لبنان، حيث يتبيّن لنا إنَّ أعلى نسبة هجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة، من الدول العربيّة في فترة 1966 ـ 1977، هي من لبنان، الذي يبلغ عدد سكانه حوالي ثلاثة ملايين نسمة، وبحيث يبلغ معدّل الهجرة لكل مليون ساكن 208 بينما يبلغ هذا المعدل 86 بالنسبة لمصر 115 بالنسبة للأردن ثُمَّ 50 بالنسبة لسوريا و53 للعراق و5 بالنسبة للمغرب ثُمَّ 280 بالنسبة للجزائر.

هجرة القوى البشريّة الشَّابة:

إنَّ الواقع المأساوي الّذي عاشته البلاد خلال الحرب الأهليّة من عام 1975، أدى إلى إستنزاف مواردها البشريّة، فإنهيار الدولة بكامل أجهزتها ومؤسساتها وتدمير البنيّة التحتية والشلل في الخدمات العامة.. كل هذا أدى إلى إستنفار واسع للقوى البشريّة الشّابة الباحثة عن مستقبل. بل إنَّ تقسيم الدولة وإلغاء دورها لمصلحة الدويلات ثم عزل المناطق عن بعضها ومراقبة المعابر وحصار التجمعات البشرية في مناطق تواجدها وأخيراً إنتشار الفساد في الإدارات العامة وإستغلال الشركات التي تتسبب بالأزمات المعيشيّة وتتحكم بمصادر التمويل، هذه  التحولات، خلقت حالة ضيق ويأس في نفوس العناصر الشّابة، فوجدت كل الأبواب مقفلة في وجهها فإختارت الهجرة وسيلة وحيدة لصنع  المستقبل وللبحث عن وطن بديل.

وقد أدت الهجرة إلى إفراغ بعض القرى من أبنائها بينما يتجمع سكانها في بلاد المهجر كما هي الحال في الولايات المتحدة الأميركيّة، حيث جرى تأسيس جمعيات ذات طابع ديني وأخرى محلي لبناني.منها الجمعيّة العين عربيّة(نسبة لقرية صغيرة جداً هي: عين عرب قضاء حاصبيا) والجمعيّة الدومانيّة( نسبة لقرية دوما في قضاء البترون) في ولاية كاليفورنيا.

5 ـ الإستثمار العقاري في الضاحية الجنوبيّة:

يمثل قطاع البناء والإعمار النشاط الرئيس الّذي تمحورت حوله أموال، الهجرة العائدة، وإذا كانت عائدات الهجرة قد أدت إلى نهضة عمرانيّة واسعة(في الضاحيّة وبعض المناطق الريفيّة) في مناطق مختلفة من لبنان، فالبارز إنّ النمو العمراني في الضاحيّة الجنوبيّة هو أفضل أنموذج في لبنان، لمنطقة بل حالة خاصة ومتفردة للأثار الناتجة عن توظيف أموال الهجرة في البناء العقاري الإستثماريّ الّذي يؤمن الربح السريع، وهي وسيلة إعتاد عليها المهاجرون واعتمدوها في بلاد الإغتراب. وبما أنَّ أموال الهجرة العائدة لم توظف في مشروعات إنمائيّة مُنتجة، قد تسببت بشكل غير مباشر في إختلال التوزيعات المكانيّة للسكان، فقد تزايد عدد سكان الضاحيّة الجنوبيّة مثلاً من حوالي 50 ألف نسمة سنة 1965 إلى نصف مليون نسمة عام 1981. 

6 ـ شراء الأراضي والمضاربة العقاريّة:

لقد توجهت أموال الهجرة العائدة إلى شراء الأراضي خصوصاً مع إنهيار قيمة النقد  الوطني والخوف من تقلبات أسعار الدولار إذ وجد المهاجر العائد في الأرض خير ضمان للحفاظ على قيمة مدخراته. وإن حدّة المضاربة تتمثل في شراء الأراضي الممتدة على طول الطرقات الرئيسة وبعض التلال المجاورة، حيث تمَّ تخطيط بعض المناطق لإنشاء مدن سياحيّة.

وإنَّ تركيز أموال الهجرة العائدة في سوق الأراضي، أدى إلى إنعكاسات سلبيّة ابرزها:

ـ تحوّل الأراضي الزراعيّة لإستعمالات البناء بهدف الإستفادة من الأسعار المرتفعة، ممّا أدى إلى إهمال الأرض، وتأخر الزراعة.

ـ أحدثت أموال الهجرة تغيرات بارزة في توزيع الملكيّة، تتمثل بعدم قدرة سكان الأرياف على شراء أو إمتلاك الأرض(بإستثاء الملاكين الكبار).

ـ تواجه اليوم معظم المشاريع العقاريّة، خصوصاً المحصورة في سوق الأراضي، أزمة مردها إنخفاض الطلب على الأراضي وجمود حركة البيع، ممّا سيؤدي حتماً إلى كساد واسع من خلال تراجع الأسعار.

5 ـ الخاتمة:

لقد أحدثت الهجرة الدولية في لبنان تفاعلات إجتماعيّة وإقتصاديّة متنوعة أدّت في بعض الأحيان إلى سلبيات، ومع هذا فما زال بالإمكان مواجهة المتغيرات للإستفادة منها وتحويلها إلى إيجابيات فاعلة، والخطة الأولى في مواجهة هذه الوقائع تكون في فتح الأبواب للإستفادة من الهجرة العائدة بكافة أشكالها، فالتغيرات الإجتماعيّة الحاصلة يجب أن تفهم على حقيقتها كنتيجة حتميّة لعودة المهاجرين بعد سنوات الإقامة في الخارج، والنجاح الأساسي يكمن في محاولة إستيعاب الثروات التي جمعت بعرق الجبين في بلاد الإغتراب للعمل في مجالات إستثمار مجدية وبالأخص في القطاعات الصناعيّة والزراعيّة المنتجة، ثُمَّ توفير مجالات العمل للمهاجرين العائدين، ممّا يسهل إندماجهم ببيئتهم ومجتمعهم وذلك من خلال إيجاد فرص عمل جديدة والقيام بمشاريع إنمائيّة.

والحقيقة التي يجب التسليم بها أنّ لبنان بعد إستنزاف موارده البشريّة النادرة، قد إنحدر بعيداًإلى مستوى البلدان المتخلفة، ويتجلّى ذلك من خلال إنخفاض الدخل الفردي وتفكك البنيّة التحتيّة وتخريب التجهيزات الأساسيّة والشلل الّذي أصاب الإدارات والمؤسسات الحكوميّة، ثم فساد النظام وإنتشار الفوضى في التعامل بين المواطنين ممّا شجع الهجرة كمخرج لتفادي الإنهيار وتأمين المستقبل.

ولبنان بفضل ما تبقى من موارده البشريّة وبرغم الأوضاع المترديّة والتي أدّت إلى هجرة أبنائه ما زال قادراً على إستعادة الكثير من قدراته وحيويته وتحقيق معدلات نمو مقبولة إذا ما تحقق إتفاق اللبنانيين فيما بينهم على ثوابت إجتماعيّة إقتصاديّة وسياسيّة تكفل بناء المجتمع وتأمين السيادة، بما يكفل إسترجاع ما يكفي من العناصر الشّابة والمتعلمة.

زيتون ـ فتوح كسروان: منيف موسى الشوّاني.