ذكرى عاشوارء والوحدة الإسلاميّة

16/2/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

مفتي طرابلس والشمال سماحة الشّيخ الدّكتور مالك الشّعّار

أهل البيت(ع) عند أهل السنَّة

نستذكر في هذه الأيَّام مصاب الأمَّة الجلل بسيِّد شباب أهل الجنَّة أبي عبد الله الحسين بن عليّ(ع)، وأدعوكم في هذه الذِّكرى الأليمة الحزينة إلى تدبّر مكانة آل البيت الكرام في قلوب المؤمنين كافّةً، وما تزخر به كتب أهل السُنَّة من حبٍّ لآل البيت ووجوب توقيرهم وإجلالهم، وقد أفرد كلّ من الإمامين البخاري ومسلم فصلاً خاصّاً عن فضائل آل البيت.

كما كانت العلاقة بين آل البيت الكرام والصّحابة الأجلاء مؤسَّسة على تقدير بعضهم بعضاً، كيف لا، وهم خرّيجو مدرسة النبوّة، نشأوا على أخوَّة الإسلام وحبّ الله ورسوله، وتزخر المصادر الإسلاميّة المتقدّمة للسُنّة والشّيعة بالأخبار الّتي تنبئ بالحبّ الّذي كان عنوان التّلاقي بينهم.

نعم، وقع الخلاف عقب مقتل الخليفة الثّالث عثمان بن عفان(رضي الله عنه)، وكانت الفتنة الأليمة، ولكن حذار أن نتصوّر أنّ الخلاف كان في أساسه دينياً أو عقيدياً، وأؤكّد هنا وبقوة أنّه كان سياسيّاً.

وعندما فجعت الأمّة بالجريمة الكبرى، لم يزل أهل السُنّة يستنكرون فعلة يزيد، ويتبرأون منه، ويستفظعون شهادة الحسين(ع) من قبل شرذمة من القتلة والمجرمين.

                                                                    

شهادة الحسين(ع) مدعاة وحدة

فإذا كان موقفنا معاً، سنّةً وشيعةً، من آل البيت الكرام، موقف الحبّ والإجلال والتّكريم، فإنَّ الأولى بشهادة الحسين، بما تمثّله من قيمٍ وعبرٍ ومُثُل، أن تكون مدعاة تجميع ووحدة، وحبّ وتلاق، واستلهام للمعاني والقيم الشّريفة النبيلة الّتي قضى من أجلها وفي سبيلها، عليه من الله سحائب الرّحمة والرّضوان.

لنُخرِج إذاً - في ذكرى عاشوراء - من قلوبنا ومشاعرنا وصفحات تاريخنا، كلّ ما من شأنه أن يباعد، أو يفرِّق بيننا، فنحن جميعاً أتباع محمّد(صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم)، وأحباب الحسين، ولا يجوز أبداً لا في منطق التّاريخ، ولا في قيم الإسلام والإيمان، ولا بما نعقله من القرآن، أن نضع قطرةً واحدةً من دم الحسين الطّاهر، أو دم من قضى معه من الأطهار والأخيار، في عنق أو مسؤوليَّة أحد من أهل السُنَّة، أو أن نأخذه بجريرة القتلة المجرمين الّذين أجمعت الأمَّة على شنيع فعلتهم، وقبيح ما ارتكبت أيديهم، وسوء خاتمتهم وعاقبتهم.

وإذا كانت تلكم الحقائق كذلك، فلماذا نفترق؟ بل لماذا لا نتّحد؟ ولدينا كلّ مقوّمات التّلاقي والاتّفاق، ويجمعنا دين عظيم متين، به نحيا وبه نسمو ونهنأ..

الدّين عزّ المسلمين

وفي زمن التكتّلات والتّحالفات الدّوليّة، وفي زمن حديث البعض عن صراع الحضارات، وسعيه من أجل الإيقاع بين الشّعوب والثّقافات، يتأكّد دورنا ـ نحن المسلمين ـ أن نعود خير أمّة أخرجت للنّاس، وأن نسعى لاستعادة مكانتنا في نشر الخير على الأرض، وذلك لا يتحقّق إلا بوحدتنا، ونبذ خلافاتنا، والحرص على كل ما يجمع ويوحد ويؤلف القلوب.. ولأنّنا نرى أن الحضارة الإنسانيّة واحدة، وأنّ سبيلها عودة المسلمين إلى دينهم، الّذي به عزّهم ومجدهم، فإن دعوتنا إلى الوحدة المؤسَّسة على هذا الدّين تتأكَّد أكثر وأكثر. فالإسلام أخرج أمّة العرب من جاهليّة ظلماء، أردتهم في أوحال التخلّف والجهل والضَّعف وانعدام الوزن، والفرقة والتّقاتل والتَّناحر والتَّباغض قروناً عديدة.

واستطاع الإسلام ـ وبفترة زمنيَّة قصيرة جدّاً شكَّلت معجزةً تاريخيّةً، كما أقرَّ بذلك مؤرِّخو الغرب ـ أن ينتشل العرب من أوحال جاهليَّتهم، وأن يطلقهم بسرعة فائقة إلى العالم سادةً له، وقادةً لدولة عظمى رفعت رايات عزّها؛ من جبال أطلس في شمال أفريقيا، إلى جبال الهملايا في شرق آسيا.

فالإسلام إذاً عزّ العرب، وهو سبب نهضتهم الرَّئيس... فهل يا ترى استطاع العرب بعد ذلك أن يبنوا صرحاً لهم ذا شأن بعيداً عن هذا الدّين؟ الحقائق والشَّواهد التَّاريخيَّة، تؤكِّد وبوضوح تامّ: لا، لم يستطع العرب أن يتقدَّموا خطوةً واحدةً إلى الأمام في كلِّ مراحل تاريخهم المعروف إلا وهم متمسِّكون بدينهم..

فعندما ضعف الوازع الدّيني في النّفوس، وأصبح أجر المغنّية الواحدة في الأندلس يوازي أجر ألف عامل، وعندما انتشرت الملاهي والمعاصي في ليل بغداد، وتحوَّلت حقائق الإسلام صوراً لا روح فيها، ضاعت الأندلس، وأفل نجم المسلمين فيها، ودمّرت بغداد، ودنست إحدى أهمّ المدنيّات الّتي شادها المسلمون.

وهكذا أيّها الإخوة، وعلى مرّ التّاريخ، توالت حالات المدّ والجزر في واقع المسلمين الّذين كانوا كلّما زهدوا واستخفّوا بدينهم، فقدوا وزنهم الحضاري، وكلّما زاد تمسّكهم بدينهم والتزامهم به، سادوا وتألّقوا وتقدّموا، وحقّقوا لأنفسهم وللإنسانيّة جمعاء الإنجازات الحضاريّة المشرفة. وها نحن اليوم، كما بالأمس، نتحسّس آثار ذلك كلّه، ونرى نتائجه وعواقبه ذلاً وهواناً وصغاراً، كما هو الحال المفجع في غزّة وفي أكثر من بقعة إسلاميّة ملتهبة في عالمنا الإسلامي..

إنّ الفرقة بين المسلمين هوّنت أمرهم، وإنّ تعاليم الدّين وروح العصر توجب علينا أن نجتمع في وحدة حول كتاب الله تعالى وسنّة رسولهP، والله تعالى ينادينا في قوله عزّ وجلّ:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ{[آل عمران 102-103].

يقول الإمام العلاّمة محمد أبو زهرة(رحمة الله تعالى عليه): «إنّ الأمة الإسلاميّة تقوم فيها الرّوابط على وحدة الدّين والعقيدة، ووحدة المبادئ الخلقيّة الفاضلة والنظم الاجتماعيّة العادلة والعبادات الجامعة... وإن التّقريب بين الطوائف الإسلاميّة يجب أن يكون غايةً مقصودة.. إنّ أسباب الخلاف قد زالت، ومن الخطأ أن يبقى الخلاف الطائفيّ مع زوال أسبابه، وكيف يكون بيننا تنافر فكريّ بسبب أنّ عليّاً أفضل من أبي بكر وعمر، أو أنّهما أفضل منه، }تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم{ [البقر 134]: إنّ الخلاف بين الطّوائف ليس في أمر ما يتّصل بعقيدة التوحيد وبشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا بالأصول التي تعتبر لبّ الدّين، كالصّلاة والصّوم والحجّ والزّكاة، وغيرها مما جاء به نصّ القرآن الكريم، وجل الخلاف الطّائفيّ ليس في مسائل تتعلّق باللّبّ، وإن ادّعت بعض الطّوائف أنّها من اللّبّ»·

مواجهة الفتن بالوحدة

إنَّ سبيلنا إلى الوحدة والتّلاقي والتطلّع إلى المستقبل الواحد المشرق، ممهّدة إذا صدقت النيّات، وخلصت الهمم والعزائم، وقُدِّمت المصالح العليا على المصالح الآنيّة الضيّقة. فلنتذكَّر عند كلّ أزمة، وعقب كلّ صلاة، ومع انبثاق كلّ فجر، أنّ الله تعالى يخاطبنا بقوله: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ{ [الحجرات: 15]، وأنّه يرشدنا إلى طريق الخلاص بقوله: }وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ{[آل عمران: 103...].

ولا يتوهّمنّ أحد أنَّ المتآمرين الجاهدين على إيقاد نار الفتنة بين السُنّة والشيعة، من قوى الاستعمار وأزلامها في عالمنا الإسلاميّ، أو من فئات المتطرّفين الجاهلين من هنا أو هناك، سيوقفون سعيهم الخبيث عند مجرّد التفريق أو التحريش بين المؤمنين سنّة وشيعة.. لا والله أبداً، بل سيمتدّ سعيُهم ـ إن لم نأخذ على أيديهم بالرّدع والمنع الحازمين ـ إلى تقسيم السُنّة أنفسهم فرقاً وأحزاباً، وإلى تفتيت الشّيعة على المنوال نفسه، لأنّ العداوة هي للقرآن وأهله، وللإسلام وأتباعه عامّة، بغضّ النّظر عن المذهب أو الطائفة، والمشروع الصّهيوني جاثم يتربص بنا جميعاً، فهلا تنبهّنا؟!

 

كلمة مفتي طرابلس والشّمال الدّكتور الشيخ مالك الشعّار في مجلس عاشوراء في مسجد الإمامين الحسنين(ع).الموافق لأوائل شهر مُحرم 1433هـ. الواقع أوائل شهر كانون الأوّل 2011م. التاريخ: 15 محرّم 1433 هـ  الموافق: 10/12/2011 م