الحسين في الليالي العاشورائيّة

16/2/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

مطران بيروت الراحل سيادة المطران خليل أبي نادر(1)

 

استُشهد الإمام الحسين(ع) منذ قرون، وحرارة قلوب المؤمنين، في الذكرى، لم ولن تبرد. له الحبّ المتقّد والشوق الشديد والعواطف القوية والاحترام الأليق واضطرام الإيمان والتضحيات على أنواعها حتى بذل الذات. هو الشهيد الأوّل، بل شهيد الشهداء، في تاريخ الإسلام، في سبيل الإيمان والحرية والأمّة. يقرّب نفسه للعليّ، بطيبة نفس كاملة، ذبيحة طوعيّة. له اليوم، في عاشوراء، من محبّيه المؤمنين، الحمد والإكرام، الشكرُ والحبّ، الإيمانُ والرجاء. تاقت إليه نفس كلّ مؤمن منذ استشهاده حتى اليوم وللأزل، مع كلّ فضيلة وتسبيح، أجل، تُسبّحه الشعوب والقبائل والألسنة، وبتهليل عظيم تعظِّمُ اسمه العذب، لأنّه في حياته ومماته قدوة الصالحين. هو سرّه الجزيل السُّمُو في الإسلام ولدى عارفي حياته الباسلة. وأننا لمن العارفين، ولذا، نصلّي الآن معاً، ونتضرّع. لكن صوته الرسولي، باستناراته الفائقة ورؤاه النبوية الفاعلة في سبيل الوطن لبنان الرسالة، يوصينا بمعجزات في زمننا العسير، على أرضنا المقدسة وفي عالمنا العربي البعيد عن الوحدة فكراً ورأياً وعملاً وسياسة داخليّة وخارجيّة، وأحياناً بنوايا مبيّتة ومقاصد خفيّة.

لنا وصاياك، يا حسين(ع) إمام المسلمين والمسيحيين. كانت لك، عند استشهادك، صلاة النصارى في الكنائس، ضاربين النواقيس حُزناً على سيّد الشهداء، قائلين: «أنّا نبرأ من قوم قتلوا ابن نبيّهم». وكان في الصلاة: والدموع، القسيّسون الرهبان. ذاكرين كلمات الحسين(ع): «لم أخرُج مفسداً ولا ظالماً إنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدّي. أريد أن آمرَ بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير سيرة جدي وأبي». جدُه رسول الله(ص) وأبوه الإمام العظيم فكراً وديناً. علي بن أبي طالب (ع)، وكانت بقربه أخته المثال زينبُ الكبرى سليلةُ أشرف نسب في الإسلام، إبنة فاطمة الزهراء بنت رسول الله(ص). وأكملت بجهادها المستميت ثورة أخيها بصدقه وإيمانه وإنسانيته في سبيل كل إنسان. بينما لا دين ليزيد القاتل الفاسق ولا ضمير، بل إرادة السلطة ظلماً وبهتاناً. وكانت تعيد الآية: }وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ{سورة آل عمران، آية:169.

يا إمامنا(ع)، ما وصاياك لنا، مسلمين ومسيحيين، بروحك المؤمنة الجامعة، بسموّ فهمك وتعمّق إيمانك، حتى نسلك في سُبُل معبَّدة أمينة ونبني، من جديد، لبنان التاريخ، لبنان الحضارة، بروح إنجيل وقرآن، لبنان الرسالة  في عالمه العربي، بل في العالم أجمع؟ وأننا لنؤمن بكلامك وبرؤيتك، وكأنها من قدّيسينا وأنبيائنا، فيهرب عنّا كل عدو شرير.

صوت الحسين(ع)، يُدلي لنا بعشر وصايا:

1ـ حركة تصحيحية في لبنان، ثورة تقضي على الإقطاع والطائفيّة والمذهبيّة، تقلبُ الأوضاع الشاحبة وتجدِّد كل شيء بتطلّعاتٍ وطنيّة حاضرة ومستقبليّة، وكأنها ثورة 1789 الفرنسيّة التي لغاية اليوم في عقل وقلب وسياسة كل فرنسي. والحركة التصحيحيّة في لبنان ستكون اليوم وغداً في عقل وقلب وسياسة كل لبناني لحياة لبنان الرسالة. وكم نريدها، عندئذ، عبرة ومثلاً شاهداً لكل بلد عربي شقيق.

2ـ الدين لله والوطن للجميع. والعليُّ يسمع صلاتنا في جامع وكنيسة وخلوة. بل صوت شعبنا العظيم سيصرخ، غداً وبعد غد، بإيمان وقسم في مجلس النواب، وفي كل شارع وقرية وندوة ومدرسة: لنا طائفة واحدة اسمها لبنان. هي كلمة البطريرك الياس الحويّك، سنة 1920، عندما كان لنا لبنان في حاضره وحدوده بموجب قرار كليمنصو والبطريرك في باريس، وكما أراده منذ قرون الأمير فخر الدين الثاني.

3ـ الوفاق الوطني والمصالحة والعيش المشترك.

4ـ الإستقرار السياسي نتيجة الإزدهار. ونظامنا ديمقراطي برلماني بحرياته كافة وبالإنفتاح الدائم، غرباً وشرقاً، على كل لغة وثقافة وحضارة. هي رسالة لبنان في عروبته الشاملة الوافيّة بكليّتها، وفي إنتشار مواطنيه في أقطار العالم كافة. لنا خمسة عشر مليون لبناني في الإنتشار. حيث هم سيكونون صوت لبنان والعروبة سياسياً واقتصادياً وإعلامياً. كم نحن بحاجة ماسة لهم.

5ـ لا توطين فلسطينياً على أرض لبنان، وذلك لصالح فلسطين ولبنان معاً، وكلّنا في سبيل فلسطين الدولة على أرضها، وعاصمتها القدس. وإكليلُ الظَفر لشهداء الإنتفاضة البواسِل.

6ـ تنظيم منح الجنسيّة اللبنانيّة للمقيم على أرض لبنان سيكون وفقاً لقوانين ثابتة، لا لكلّ عابر سبيل أو لابن ساعته، كما حصل. وكلنا أخوة بعروبتنا النقيّة.

7ـ تلازم المسارين السوري واللبناني والتنسيق الدائم على كل صعيد، وبخاصة لسيادة البلدين الشقيقين التامة، لمنع تقسيم لبنان، لمناهضة الغزو الصهيوني، للسلام الواحد... وما هذا التنسيق بين البلدين الشقيقين، وما هذا الإستقرار الأمني والسياسي إلا لسيادة لبنان وإستقلاله وحرياته التامة. وكل ذلك لصالح لبنان وسوريا معاً.

8ـ سلاحنا الحوار والوحدة والمحبة ومحبتنا للأرزة الخالدة. وإلاّ ستبقى لنا «الجمرة الخبيثة» كما حديث اليوم، هي لنا منذ سنوات الحرب: اسرائيل العدوة الأولى، الطائفيّة والمذهبيّة، الميليشيات، السلاح، عدم عودة كل مهجَّر، الإغتراب، الفقر والجوع. وما إلى كلّ ذلك... والدولة في رقاد، علماً أن رؤساءنا في الحكم لقادرون، بروحهم الوطنيّة ووحدة الكلمة والرأي والعمل، على تخطّي الصعوبات في سبيل لبنان الجنّة، كما يريده شعبنا الجليل القدر. كان لإيران الإمام الخمينيّ، لسوريا الرئيس حافظ الأسد. ولنا المقاومة الباسلة التي حرّرت جنوب لبنان ودخلت التاريخ من بابه الوطنيّ الواسع. نريد رؤساءُنا، اليوم، للبنان الوطن بإستقلاله التام، بسيادته، بحرياته، هو إيمان كل الشعب. والإيمان الحقيقي لا يمكن أن يضِلّ.

9ـ وكأن صوت الإمام الحسين(ع)، يقول أيضاً لرؤسائنا المسؤولين كلمات جبران خليل جبران:«ما احقرني عندما تعطيني الحياةُ ذهباً، فأعطيك فضةً، ثُمّ أحسب نفسي سخياً». لبنان الوطن يريد منكم ذهباً، أيّها المسؤولين. وأنّكم لقادرون. وما ذهبكم إلا لبنان الرسالة بمسلميه ومسيحييه.

10ـ وكأن صوت الإمام الحسين(ع)، يضيف: في الإنجيل عبارة «في البدء كان الكلمة». وفي القرآن الكريم عبارة «إقرأ باسم ربّك الذي خلق». بروح هاتين الآيتين، من إنجيل مقدس وقرآن كريم، يكون لبنان الكلمة والثقافة والفكر والحضارة والرسالة.

هي الوصايا العشر لنا بصوت الإمام الحسين(ع)، ورؤيته. نودعه بكلمة المفكر إليوت قائلاً:«إذا كان يمكن أن تكون نجماً، كن نجماً في السماء. وإذ كان لا يمكن أن تكون هذا النجم، كن النّار على الجبل. وإذا كان لا يمكن أن تكون النّار على الجبل، كن المصباح في البيت». إمامنا العظيم، في تاريخ الإسلام والإنسان، كان معاً، في حياته واستشهاده، النجم والنور والمصباح، ولا يزال. وبقربه، كانت الشقيقة زينب الكبرى إبنة فاطمة الزهراء بنت رسول الله(ص)، شقيقة المرأة الحرة في الإسلام وفي التاريخ كما كانت مريم قرب يسوع. وبركة الحسين(ع)، في كربلائه دامت لنا جميعاً، وأعطت الرؤساء العرب في قمتهم الآتية في بيروت الحكمة والوحدة والإرادة لمواجهة المصاعب والمنازعات ولسلام دائم في عالمنا العربي.

الحسين(ع)، طلب الإصلاح في أمة جده، معلناً هدفه من ثورته الكبرى قائلاً:«ما خرجت لا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي. أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. فمن قبلني بقبول الحقّ، فالله أولى بالحقّ. ومن ردّ عليّ هذا اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ. وهو خير الحاكمين».

يا حكام العرب، ويا حكامنا في لبنان، اسمعوا وصيّة الإمام الحسين(ع)، هذه. ولتكن صيغتكم دينيّة وإنسانيّة معاً. بروح إنجيل وقرآن وببركة الحسين(ع) وتعاليمه، هو الذي بشّر بأخلاق جديدة، وبأخلاق إسلاميّة عاليّة بكل صفاتها ونقائها، وكتبوا ذلك بدمائهم وحياتهم. ونتائج ثورة الحسين(ع)، أنّها بعثت الروح النضاليّة أمام المنحرفين والظالمين.

وهكذا برزت أيضاً أخلاقيّة المرأة المسلمة في ثورة الحسين(ع)، بموقف زينب، وأخوات زينب والنساء. وكانت الكلمة لهنَّ منذ كربلاء وعاشوراء: هنيئاً لك الجنّة. وكم نوّد أن تكون للمرأة في عالمنا العربي، ببركة زينب بروحها. الحرية والمساواة التامة مع الرجل، بالحقوق والواجبات، وتكون لهنَّ الكلمة الثورة الإنسانيّة: هنيئاً لك الحرية والأخلاق، ببركة زينب أخت الحسين(ع).

وأخيراً، بحرارة داخليّة طوعيّة واحترام عظيم، لا يسعنا في ذكرى كربلاء وعاشوراء وفي الليالي العاشورائيّة إلاّ أن نرجع، بالشوق والحمد، بالإكرام والتهيّب، إلى ينبوع الإمام الحسين العائلي الرسولي: جدّه لأمّه رسول الله(ص)، جدّه لأبيه أبو طالب، جدّته لأمّه خديجة بنت خويلد، جدّته لأبيه فاطمة بنت أسد، أبوه علي أمير المؤمنين، أمه فاطمة الزهراء، أخوه لأمه وأبيه الحسن، أخواته لأمه وأبيه زينب الكبرى وأم كلثوم، ولما وُلد جيء به إلى جدّه رسول الله(ص)، فاستبشر به وسمّاه حسيناً، وكان اشبه النّاس برسول الله(ص). وللمؤمنين الصادقين البارّين بركته.

كلمة سيادة مطران بيروت الراحل خليل أبي نادر على منبر حسينيّة الإمام عليّ بن أبي طالب(ع) في منطقة سد البوشريّة ـ المتن الشمالي ـ في ذكرى عاشوراء عام 2004م. من كتاب:«في رحاب الإمام الحسين(ع)»، بإشراف الشيخ مُحمّد علي الحاج ـ دار القارئ ـ بيروت ـ الطبعة الأولى سنة 2005م. من ص:27 إلى ص:35.