مكتبة آية الله المرعشيّ النجفيّ حاضرة علميّة قائمة بذاتها في قُم المُقدسة

16/2/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم الدكتور الشيخ أحمد محمد قيس

لا يخفى أنّ للمكتبة العامّة في المجتمع دور له أهميته البالغة، وطابعه الخاص، لا يتهاون ولا يستهان به، والمكتبات العامّة هي مجمع الأفكار والآراء للعلماء والعظماء عبر التاريخ البشريّ، كما أنّها تلعب دوراً هاماً في تعزيز العوامل والوسائل للتنميّة الإنسانيّة للطاقات الكامنة في الأفراد الّذين يطلبون المعرفة، ويسعون للمزيد من الثقافة في كافة ميادين العلم، ويبذلون في سبيل ذلك الجهد الجهيد لرفع مستوى المعرفة والثقافة بين سائر طبقات المجتمع، ثمّ يعمدون إلى ما تحمله أنفسهم من قرائح وفنون مكنونة، وعلوم عالية وجمّة إلى التصنّيف والتأليف، وإخراجها إلى عالم النور والنشر والتبليغ، ويأبون إلا أن يقفوا على الحقائق الكونيّة والقضايا العلميّة المتجددة بين حين وآخر.

وهناك أهداف ومآرب أخرى، كإنعاش الشعوب بالعلم، وملء الفر اغ بالمعرفة، ونشر الفضائل، وتزكيّة وترفيه النفوس، وحفظ التراث، وديمومة المسير الثقافيّ والعلميّ، وغيرها من المقاصد التي تتطلب تأسيس مكتبات في المجتمع تدل على قيمته، إذ قيمة كل امرء ما يحسنه.

ومن هذه المنطلقات الساميّة، وشعوراً بهذه الحاجات الملّحة، نهض علماؤنا الأعلام منذ البداية، بتأسيس مكتبات عامّة وخاصّة، تزخر بالنفائس والكتب القيّمة، دونتها أقلام وعقول فريدة، وبذلوا في سبيل ذلك الغالي والرخيص.

ومن أولئك آية الله العظمى السيّد شهاب الدين المرعشيّ النجفيّ{، حيث قام بتأسيس مكتبة عامّة، عامرة  بالذخائر والأسفار العلميّة النفيسة، قلَّ نظيرها في العالم الإسلاميّ، وتحمّل من أجل ذلك المشاق والصعاب في طريقه لجمع هذه الأسفار والكتب، بما لم يسمع بمثله من قبل.

فقد كان{ يشتري الكتب بأموال اكتسبها من خلال أجرة قضاء صلاة عن بعض المتوفين في الوقت الذي كان الجوع يقضُّ مضجعه وكيانه الشريف.

كما أنّه ومن أجل الإحتفاظ بأحد الكتب النادرة خشيّة وقوعه وسلبه من قبل المستعمر البريطانيّ آنذاك، سُجن ولم يفرَج عنه إلاّ بعد توسط المرجع الأعلى في ذلك الوقت الميرزا فتح الله المشهور بشيخ الشريعة الأصفهانيّ. وذلك بشرط تسليمه إلى الحاكم الإنكليزي في النّجف بمدّة لا تتجاوز الشهر.

فما كان من المرعشيّ{، إلاّ أن طلب من زملائه في الحوزة الدينيّة في النّجف الأشرف بإستنساخ الكتاب، وهذا ما حصل، وبعد الفراغ من استنساخه سلّمه إلى المرجع الأعلى. وبعمله هذا قدّم خدمة جليلة للعلم والعلماء.

وهذا الكتاب النفيس هو كتاب (رياض العلماء) للعلاّمة الميرزا عبد الله أفندي، ولا يوجد في المكتبات في العالم سوى اثنتي عشرة نسخة منه، واحدة منها في المكتبة العامّة بقُم المُقدسة.

وكان{ منذ بداية حياته العلميّة في النّجف الأشرف يفكر بحفظ التراث الإسلاميّ، وقد بذل كل الجهود في جمع المخطوطات، وأوقفها لوجه الله ولخدمة الدين الحنيف، وأودعها مكتبته الخاصة لينتفع الطلاب منها.

وافتتح مكتبته العامّة الأولى في شارع ارم في قٌم المُقدّسة وذلك في الخامس عشر من شهر شعبان عام 1385هـ. الموافق لعام 1965م.

ولكثرة المراجعين والمهتمين بالعلم والمعرفة، وضيق المكان، افتتح{، مكتبته العامّة الثانيّة والتي تبعد عن الأولى بحوالى ألف متر وذلك أيضاً في الخامس عشر من شعبان عام 1394هـ. الموافق لعام 1974م. وضمَّت هذه المكتبة الجديدة حوالي ستة آلاف كتاب.

ثمّ نمت هذه المكتبة حتى أضحت تحتوي على ما يزيد على مئتين وخمسين ألف كتاب، وبلغت المخطوطات فيها خمسة وعشرين ألف مخطوطة.

وفي هذه المخطوطات نفائس فريدة من القرن الثالث الهجري، كما تضمُّ وتحتوي على مداد العباقرة القدماء من أمثال: الشيخ الطوسيّ، والمحقق الأوّل، والعلاّمة الحليّ، وفخر المحققين، والشهيد الثاني، والعلاّمة المجلسيّ، والحرُّ العامليّ، وميرداماد، والشيخ البهائيّ، وصدر المتألهين، والفيض الكاشانيّ، والشيخ الأنصاريّ، وكثير من أساطين العلم والأدب والفن من مختلف المذاهب والأديان.

وأقدم نسخة في المكتبة هي عبارة عن جزأين من القرآن الكريم بخط عليِّ بن هلال المعروف بابن البواب الكاتب البغدادي، وتاريخ تدوينه عام 392هـ. الموافق لعام 1001م.

ويتراوح عدد الوافدين لزيارة هذه المكتبة حوالى الألفين يومياً.

كما أنّه يوجد تبادل ثقافيّ بين هذه المكتبة و(350) مركزاً ثقافياً حول العالم، وخاصة لجهة تبادل المصورات والمايكرو فيلم وغيرها.

وتحتوي المكتبة على أجهزة تصوير ضخمة، كما تضم قاعات كبيرة للمطالعة، بالإضافة إلى صالات خاصة للمحققين والمؤلفين.

كذلك فإنّ المكتبة مجهّزة بالكاميرات الحديثة وآلات ومكائن التعقيم وغيرها.

ومن خلال رعاية الإمام الخمينيّ الراحل{، الخاصة، ورعاية الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، تمَّ شراء عقار بجانب هذه المكتبة تبلغ مساحتها حوالي 2400 متر مربع.

وقد قام آية الله المرعشيّ{، بوضع حجر الأساس لهذا المشروع الجديد في السنة التي إنتقل فيها إلى الرفيق الأعلى وذلك يوم الجمعة من 20 ذي الحجة عام 1410هـ. الموافق لعام 1989م.

ويرعى ويشرف ويدير هذا المشروع الضخم بعد وفاة آية الله المرعشيّ{، نجله الدكتور السيّد محمود(حفظه المولى)، والذي لم نتوفق للقائه أثناء زيارتنا لقُم المُقدّسة، وذلك بسبب وجوده في طهران.

وقام بمد يد العون لنا ومساعدتنا في هذا التحقيق أحد الإخوان من الأساتذة المشرفين والعاملين في هذه المكتبة، فله منّا كامل الإحترام والتقدير والشكر.

نسأل الله أن يوفق العاملين لخدمة الدين، وإحياء وحفظ تراثنا المعرفيّ  العظيم، وتغمد الله روح آية الله المرعشيّ برحمته الواسعة.

وقببل الختام لا بُدّ من استعراض نبذة قصيرة عن آية الله المرعشي{:

ـ ولد في النّجف الأشرف في 20 صفر عام 1315هـ. الموافق لعام 1897م.

ـ والده السيّد محمد شمس الدين المرعشيّ من علماء النّجف الأشرف وجده سيّد الحكماء.

ـ أطلق عليه والده إسم محمد حسين، أمّا سبب تسميته بـ (شهاب الدين) فهو أنّ أستاذ والده آية الله السيّد إسماعيل الصدر{، هو من لقّبه بهذا الإسم، وأضحى يعرف به لاحقاً. وعليه يكون إسمه التالي: محمد حسين(شهاب الدين) بن محمد محمود شمس الدين المرعشيّ النجفيّ.

ـ يتصل نسبه الشريف بثلاث وثلاثين واسطة إلى الإمام زين العابدين عليّ بن الحسينQ.

ـ تلقى علومه في النّجف الأشرف على فطاحل العلم والفضل أمثال: آية الله العظمى الشيخ ضياء الدين العراقيّ، وفي قُم على يد مؤسس الحوزة العلميّة آية الله الشيخ عبد الكريم الحائريّ.

ـ إشتغل في التدريس في حوزة قُم الكبرى، وكان يُعدُّ من المدرسين الكبار فيها.

ـ طبع أوّل رسالة عمليّة له تحت إسم (ذخيرة المعاد) سنة 1370هـ. الموافق لعام 1950م.

ـ عُرِفَ بالورع والزهد والتقوى والكرم حتى أصبح يضرب به المثل.

ـ صنّف وألف أكثر من مائة كتاب ورسالة، في شتى العلوم، والفنون، أهمها تعليقاته على (إحقاق الحق) الذي طبع منه 24 مجلداً.

ـ أنجز العديد من المشاريع الإسلاميّة والإجتماعيّة والثقافيّة. والتي أنفق عليها مبالغ طائلة، كان أكبرها وأعظمها مكتبته العامّة في قُم ـ موضوع هذا التحقيق.

ـ توفيّ ليلة الخميس المصادف 7 صفر في عام 1411هـ. الموافق لعام 1990م. عن عُمر يناهز 96 سنة، ودفن في جوار مكتبته العامّة وفي المدخل إليها تحديداً(1).

نشأ طالباً ومحباً للعلم، وعاش عالماً، وارتحل فقيهاً متبحراً بالعلم والمعرفة، وخلّف وراءه كنزاً علمياً ضخماً، وذريّة من السادة العلماء الأفذاذ.

فهنيئاً له حياً وميتاً، ووفقنا الله للإقتداء به على درب المعرفة والعلم والتقوى.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين-قٌم المُقدسة ـ إيران

 للتوسّع أكثر عن حياة هذا العالم الجليل يراجع: (قبسات من حياة آية الله المرعشيّ النجفيّ)، بقلم عادل العلوي، إصدار مكتبة المرعشيّ النجفيّ، قُم، المُقدسة الطبعة الثالثة، تاريخ 1418هـ. أو كتاب: (شهاب شريعت)، للمؤلف علي رفيعي، إصدار مكتبة المرعشيّ النجفيّ، قُم المُقدّسة، تاريخ 1423هـ. وهذا الكتاب باللغة الفارسيّة.