الحلقة الأولى من: ذكريات أدبيّة للنشر

08/01/2011
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

إنّ شواغل المثقفين اللبنانيين وهمومهم الإبداعيّة تطرح مسائل ترتبط بعمليّة الإبداع فكراً وبحثاً وفناً من جهة وبالشروط الإجتماعيّة والحياتيّة لهذه العمليّة من جهة أخرى.

وإنّ مسيرة ثقافتنا وآفاق تطورها تتصل بمصير الوطن وآفاق تطوره. ومن الطبيعي أن يلتزم المثقفون بالدفاع عن الحياة ضد كل أشكال إبادتها وبالدفاع عن الحريّة ضد كل ألوان القهر والمصادرة...

وفي هذا السياق حدثني فضيلة الشيخ القاضي الدكتور يوسف عَمرو أنّه إلتقى في دمشق الشاعر والمفكر الدكتور أسعد عليّ فإنتفضت ذاكرتي واستجمعت قواي وتداعت الأفكار والصور في مخيلتي وعادت صورة الجامعة اللبنانيّة الوطنيّة عماد التعليم العالي في لبنان ووسيلته الإنمائيّة الأولى وعقله المخطط وحافظ ثقافته ومصهر الإبداع فيه والأمينة على القيم الإجتماعيّة الموحِّدة البناءة وتذكرت أستاذنا الدكتور أسعد علي في كتابه (ع)صناعة الكتابة(ع) والدور في نقل المعارف ونقدها وتحليلها وتطويرها وعن وسائل ومسلتزمات الفكر النقدي وحسّ الإختيار وحُسن الأداء والإيصال.....

وهو الّذي يشعر بألم الزمان والأشياء من عدوان بعضها على بعض ـ أيقن أنَّ الشعر غذاء النفس وهو متعلق بالمنابع أكثر من تعلقه بالقواعد وأكثر وفاء لطاقة الجوع من مخازن الطعام..

وكان يستمع إلى أنين الكتب الجريحة وإنهمار مطر الشعر المتساقط من قصف الإنفعال وبرق العاطفة ولذلك تحمل مجموعتاه الشعريتان عنواني:(ع) في الملجأ(ع) و (ع)كتبي الجريحة(ع) بعد الإصابات التي إخترقت قلوب كتبه (ع)في الطريق الجديدة(ع) في بدايات الحرب اللبنانيّة.

وينقلنا أسعد علي إلى الحوار الّذي كان يدور بينه وبين أبيه (ع) لغة أبي(ع) حوار لا يقلّ عن حوار القذائف التي كانت لغة التخاطب بين الأخوة في بيروت السبعينيات.

فالدكتور أسعد علي يرفض (ع)أن يرتدي لفه خضراء ترمز إلى إنتسابه لعليّ والزهراءL لأنّها بلون العشب الذي تدوس عليه الخراف وترعاه.

ولا يريد لرأسه لفة سوداء لأنَّ السواد لون ليلي والليل رمز النوم ورفض أن يجعل اللفة بيضاء لأنّ اللون الأبيض حيادي قابل للإنطباع بأي لون واختار اللون الأزرق لأنّه يربط عمق البحر بعلّو السماء كلاهما زرقة عميقة (ع)فمن الماء حركة الأحياء الجسديّة ومن السماء حركة الأحياء الروحيّة(ع) فانقاد الدكتور أسعد علي إلى الحيرة التي خلّصه منها الشعر المنغم فكان أن صبّ حيرته وغضبه وقلقه في عباراته وتخطىّ الشاعر جهله بمرامي أبيه عندما طلب منه أن يضع عمامة عندما إكتشف السر لأنّ والده كان يريد لرأس إبنه أن يرتفع بالنور كالشمس إقتباساً في قوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ سورة التكوير،آية:1. أي رفعت وإستدارت وأنارت.

وهذا الحوار الساخن بين الولد وأبيه ينفع اليوم جيل الشباب الرافض ويفتح الباب إلى التأمل بإرادة الآباء. وفهم القديم فهماً عميقاً يكشف أسرار التعلق بالموروث كما ينفع جيل الشيوخ من الآباء والمرّبين فيفتح لهم الباب إلى إعتبار مشيئة الأطفال في صغر السن ومرح الأمل.

إنّ تأمل حياة الدكتور أسعد علي الشاعر والمفكر يظهر لنا تجربة فريدة في تأريخ الشعر العربيّ تجربة تجسّد وحدة مدهشة بين حدسه الغني وحياته الشخصيّة الحافلة وثقافته المتكاملة كوّنت معاناة فريدة وحققت تماهياً عجيباً بين شعره وفكره وأحداث حياته. فشعره كان سبيله إلى الحقيقة وأنّ فكره كان سبيله إلى الشعر. ومن هنا كانت جرأته المذهلة في مواجهة الحقيقة وكان إستبصاره الفلسفي الشامل الّذي يستقطب الزمن كله فلا يفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل ولا يقف عند حدود المكان أو حدود الذات... 

ولم تعد العلاقة تقتصر على مستوى الطالب والأستاذ وإنّما تعدّتها بالصدفة إلى التلاقي والتزاور عندما كنت ضمن لجنة تكريم الشاعر القروي رشيد سليم الخوري شاعر العرب الأوّل في جبيل في آذار 1975م، وكان هذا الشاعر مدعوّاً لألقاء كلمة بمناسبة عيد المولد النبويّ الشريف في برج حموّد، وإنتقلنا إلى بيروت معاً ومِلنا إلى منزل الدكتور أسعد علي وكان الملتقى كريماً وحاراً وجلستُ مُنبهراً ومُنتعشاً بحدوث يوم الجمع، وتبادل الشاعران المؤلفات وأهدى القرويُ أستاذنا أسعد علي ديوانه مقدّماً بما زلت أذكره.

من الرشيد الأرشد

 

إلى العلّي الأسعد

 

هديةً

 

في يوم عيد المولدِ

 

 

ولا زلتُ أحتفظ بما جاء في كلمة القرويّ في إحتفال برج حمود:

(ع)أيها المُسلمون(ع)

دينكم دين العلم

 

ولكنكم أنتم الجاهلون

 

دينكم دين التيسير

 

ولكنكم أنتم المعسرون

 

دينكم دين النصرة

 

ولكنكم أنتم المتخاذلون

 

 

قال رسول الله (ع)لا ترجعوا بعدي كفاراً بضرب بعضكم رقاب بعض(ع) .

يولد النبيّ على ألسنتكم كل عام ويموت في قلوبكم كل يوم. ولو ولد في أرواحكم لولدتم معه ولكان كل منكم مُحمّداً صغيراً ولكان الخلق منذ ألف سنة مسلمين... (ع)إني لموقن أنّ الإنسانيّة التي يئست من كل فلسفاتها وعلومها وقنطت من مذاهب الحكماء جميعاً لن تجد مخرجاً من مآزقها وراحة لروحها وصلاحاً لأمرها إلا بإرتمائها في حضن الإسلام تجد فيه حلاً لمشكلة الحياة.

عيد البريّة عيد المولد النبويّ

في المشرقين لهُ والمغربين دويّ(ع).

وها إني اليوم أكتب بناء لرغبة الأخ والصديق الشيخ القاضي الدكتور يوسف عَمرو لهدف. فلا أهم من أن نكون رماة ـ لهم حكمة الإنحناء في القوس والإستقامة في السهم. وغايتي ألا تصيب حكمة إنحناء القوس  الحقيقة بإستقامة السهم. غايتي أن أكون مُصيباً أو مُصاباً بالحقيقة وأعترف لكم أنني من المصابين لا المصيبين فيها، فالمصيب فيها محاميها. وأمّا المصاب فيها فعاشقها. ومن هنا فإنّ حكمة إنحناء القوس وإستقامة السهم لن تصيب من الحقيقة إلاّ عاشقيها. ولأجل ذلك أرادوا صلب المسيح ودفعوا إلى قتل الحسين، وجرَّعوا السُمّ سقراط.

أهمّ ما يجمعنا اليوم هو أننا لم نخسر أجنحتنا وقدسيّة دم الحبر في أقلامنا. لم نخسر أوطاننا. لم نخسر شعوبنا. لم نخسر خيالنا. فلا شيء في العالم أجمل من أننا مُبدعون. ولا شيء في العالم أفضل من أننا عُشاق الحقيقة.

ما زلنا يا إخوتي صرعى التعصب والأميّة الحضاريّة، ما زلنا أسرى التخلف والجهل وعمى التقاليد، وما زلنا نخاسين عيارين نتاجر بأوطاننا. ما زالت أقطارنا زنازين واسعة تسجن فيها الكلمة وَيُجلُد فيها الحرف وَيُسحلُ المنطق والفكر والعقل. ما زالت تربتنا التي تنبت الزهر والخصب والشعر تتنكر لنبتة لطيفة إسمها المحبة ولا يتسع صدرها لغرسة جميلة إسمها الديمقراطيّة.

تلك الآفات حاربها المثقفون وحاربها القروي والدكتور أسعد علي.

ومن أجل الإسهام في دحر الآفات وإنتصار القيم جئت أكتب اليوم عن رمز ثقافتنا الوطنيّة وعن رمز ثقافتنا القوميّة وتكون هذه المقالة صرخة:

من منبع النيل إلى مصب الفرات

من أطراف الجزيرة إلى جبهة لبنان

من شاطئ الخليج إلى أذيال الصحراء

ولنتواضع: هذه صرخة من قمة صنين الشاهق إلى السماء إلى حضن جبيل التي تجمع أصداف الفينيقيين.

وقال الدكتور أسعد علي:

(ع)إذا كان نشر الشعر عملاً إنسانيّاً أحياناً فمن الإنسانيّة كذلك أن نعيش مستوى ذواتنا وأن نكرّم الشعر بالصمت الأعلى(ع).

د. حسن حيدر أحمد

أستاذ جامعي، مدير ثانويّة المعيصرة الرسميّة