اللانهاية الرياضيّة

24/5/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

 

بقلم الدكتور علي دعيبس

 

القياس هو مفهوم أساسي في حياة  النّاس اليوميّة وفي نشاطاتهم العلميّة والإختباريّة. والمجالات التي تقبل القياس شديدة التنوع، منها ما هو هندسي كالأطوال والمساحات والأحجام، ومنها ما هو فيزيائي كالأثقال، ومنها ما هو تخيلّي كالوقت.

عملية القياس تقرن بكل حقل من الحقول القابلة القياس وحدة قياس. وقياس كمية مُعينّة من هذا الحقل ما هو الاّ العدد الذي هو نسبة هذه الكمية على وحدة القياس، فالطول أربعة أمتار ونصف هو نسبة طول AB على طول الوحدة  التي هي المتر هنا أي I J

       

وكي نتمكّن من قياس كلُ كميّة تقبل القياس يتعيّن أن يكون بحوزتنا منظومة أعداد تتيح تحديد مقدار هذه الكميّة نسبة إلى الكميّة الوحدة.

بدأ الإنسان العدّ والقياس مستخدماً الأعداد الطبيعيّة الصحيحة ومن ثمّ الأعداد الكسريّة أي الكسور. وقد تحدّدت قواعد العلميات الحسابيّة على هذه الأعداد رويداً رويداً إلى أن بلغت مرحلة متقدّمة لدى الإغريق مع النتيجة الأساسيّة القائلة بأنّ كل عدد طبيعيّ هو حاصل ضرب أعداد أوليّة.

 

وقد بنى الفيثاغوريون(1) فلسفة متكاملة ترتكز على الحكمة الشهيرة «كل شيء هو عدد» لكن العدد آنذاك كان العدد الكسري فقط أي العدد الذي هو نسبة عدد صحيح على عدد صحيح آخر، العدد الصحيح n هو عدد كسري أيضاً يُكتب على شكل= n

لكنّ مبرهنة أرخميدس تقول أن العلاقة بين ضلع المربّع ووتره هي=   2AB2  AC2 = فإذا اعتبرنا Ab=1 يكون AC  إذاً الجذر التربيعي للعدد 2 هو مقاس طول معيّن. لكنّ برهنة حسابيّة بسيطة بطريقة الخلف تبيّن أن  لا يمكن أن يكون على شكل كسر .

معضلة يتعيّن حلّها. يتعيّن إضافة نوع جديد من الأعداد بحيث نحصل على منظومة أعداد الكسريّة وتتيح قياس كلّ كميّة تقبل القياس.

أوّل حلّ لهذه المسألة كان على يدي أودكس(2)، معاصر أفلاطون وصديقه، في نظريته نسب المقادير.

لكنّ هذه النظريّة لم تكن سهلة الإستخدام، وقد جرى أهمالها عملياً لأكثر من ألفي عام. وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر برزت الحاجة إلى بناء الرياضيات على أُسس منطقيّة سليمة. كان بناء الأعداد الحقيقيّة على يدي كلّ من ديديكند(3) وكانتور(4) على الشكل الذي نعرفه اليوم. لكنّه تبيّن أن بناء منظومة أعداد تسمح بقياس أي مقدار يقبل القياس لا يمكن أن يتمّ. ومهما كانت الطريقة المتّبعة، إلاّ من خلال مفهوم اللانهاية.

لم يكن مجال الأعداد هو المجال الوحيد الذي ظهر فيه مفهوم اللانهاية. على العكس تماماً، لقد برزت اللانهاية، ومنذ أقدم العصور، في المعتقدات الدينيّة والفلسفيّة، وفي الفيزياء والرياضيات.

برزت في مفهوم النقطة على أنّها كرة لا متناهيّة في الصغر، وفي التقسيم على شكل  السؤال الشهير: هل نستطيع أن نقسّم المادّة على نحو لامتناه أو أنّ هذا التقسيم يصل إلى عناصر لا يمكن تقسيمها؟ سؤال طرحه علماء الإغريق وفلاسفتهم: منهم من قال بأنّ التقسيم اللانهائي مستحيل، لأنّ المادة مؤلفة من ذرّات لا تقبل التقسيم، ومنهم من قال بعكس ذلك.

وقد ظهرت اللانهاية في مفهوم الطول نفسه، إذا كان طول المقطع AB=1 فكيف يمكن أن يتكوّن من نقاط لا طول لأيّ منها؟ وفي هذا السؤال بالذات تكمن مفارقات زينون الأيلي(5)، التي نستطيع رفعها اليوم من خلال مفهوم المنتهى(6)، في مجموعة الأعداد الحقيقية، وفي الهندسة تالياً.

إذاً، مفهوم اللانهاية بارز في اللامتناهي في الصغر وفي اللامتناهي في الكبر، وفي طبيعة التقسيم والإضافات. التقسيم إلى ما لا نهاية والإضافة إلى ما لا نهاية، أمّا في الفلسفة والمعتقدات فتبرز اللانهاية في العلاقة بين الكلّ والجزء، في الحكمة الشهيرة «الجزء أصغر من الكلّ». يعتقد المسلمون أن «الله أكبر»، وليس للإله كفؤ، ويعتقد المسلمون والمسيحيون أن «الله في كل مكان» (7).

اللانهاية الرياضيّة.

تنطلق من الأعداد الطبيعيّة... 1,2,3,4 مشيرين بواسطة الحرف N إلى المنظومة المكوّنة من هذه الأعداد. بطبيعة الحال عديد عناصر هذه المنظومة غير متناه. وهذا يعني أن عديدها أكبر من أي عدد طبيعي. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحال هو: هل عديد N اللامتناهي يتيح وجودها الفعلي ككل أو يتيح وجودها بالقوّة فقط؟ انقسم الفلاسفة والرياضيون والفيزيائيون حول هذه المسألة، منذ أيام الإغريق، وربما قبل ذلك بكثير.

لكنّ طبيعة العلاقات بين الأعداد الكسرية والأعداد غير الكسرية التي يتعيّن إضافتها للحصول على منظومة أعداد تتلاءم مع ما يتطلبه القياس والمنطق والهندسة وغير ذلك، فرضت متتاليات لا متناهيّة. وأوّل منطلق لهذه المتتاليات هو أنظمة الترقيم التي عرفها مختلف الشعوب منذ القدم، كالفراعنة والبابليين والهنود والمايا وآخرين. لكننّا سنكتفي هنا بالنظام العشري المعتمد عالمياً اليوم. مهما كان العدد X، يسمح النظام الترقيم بكتابة أعداد عشرية تقترب من العدد X أكثر فأكثر بحيث يصبح الفارق بينها وبين X  لا متناه في الصغر، اي «يتقارب نحو الصغر» لنفترض أن X=  . عمليات القسمة المعروفة تقول أنّ الفارق بين X وبين 0,63  هو أصغر من   وأن الفارق بين X وبين 0,6363 هو أصغر من    الخ... وهذه الخاصيّة ليست صحيحة بخصوص الكسور كالعدد  فحسب، بل هي صحيحة ايضاً بخصوص أي عدد حقيقي آخر كالعدد  على سبيل المثال. إذاً من الممكن أن تبنى الأعداد الحقيقيّة إنطلاقاً من هكذا متتاليات. بالفعل، لقد بنى كانتور منظومة الأعداد الحقيقيّة R التي تستوفي الشروط التي ذكرناها سابقاً، من خلال «المتتاليات اللامتناهيّة الإنسانيّة». أمّا ديديكند فقد بنى هذه المنظومة نفسها من خلال مفهوم القطوع(8) القريب من مفهوم أودكس. وقد أعطت هذه البناءات الثلاثة منظومة الأعداد الحقيقيّة كما نعرفها اليوم. وقد يكون من المفيد أن نذكر أنَّه لا يمكن أن يوجد أكثر من منظومة واحدة من هكذا أعداد، نتيجة رياضيّة هامّة. وبطبيعة الحال، يضيق المجال هنا عن الدخول في التفاصيل التقنيّة لهذه البناءات.

إذاً فرضت المتتالية اللامتناهيّة نفسها ككائن رياضي قائم بذاته. وهذا ما جعل اللانهاية الفعليّة تدخل الرياضيات من أوسع الأبواب. وفي بناء نظرية المجموعات على أيدي كانتور وديديكند، والتي تعتبر اليوم على نطاق عالمي، على أنّها الأساس الذي ترتكز عليه الرياضيات، ظهرت اللانهاية في المبدأ القائل بوجود مجموعات لا متناهيّة، مجموعات عديدها ليس بعدد صحيح، كمجموعة الأعداد الطبيعيّة N وقد تبيّن أن مفهوم المجموعات اللامتناهيّة الذي فرض نفسه على الرياضيات له استتباعات أعمق بكثير، أعمق ممّا ظنّه مؤسسو نظرية المجموعات أنفسهم. ومن هذه الإستتباعات نذكر:

أولاَ: المجموعة اللامتناهيّة ليست بالضرورة أكبر من جزء منها. على سبيل  المثال، المجموعة الجزئيّة M في N المكوّنة من الأعداد المفردة، بتطابق عديدها مع عديدN , وبهذا المعنى الكل ليس أكبر من الجزء، نتيجة مغايرة لمبدأ قال به النّاس الآف السنين. لقد صدمت هذه النتيجة الكثير من مفكرّي تلك الأيام. عندما برهن كانتور أنّ مجموعة النقاط الواقعة على ضلع المربّع يتطابق عديدها مع عديد كل النقاط الواقعة على محيط المربع وفي داخله أيضاً، كان لهذه النتيجة وقع الصاعقة عليه هو نفسه، حيث كتب إلى ديديكند صائحاً «أرى البرهنة لكنّي لا أصدّق».

ثانياً: لا يوجد ما لا نهاية واحدة، بل يوجد ما لا نهاية من المالا نهايات. كلّ ما لا نهاية هي أصغر من لا نهاية أخرى، ولا يوجد ما لا نهاية أكبر من كل المالانهايات. وهذا ما قاد كانتور إلى إدخال الأعداد عبر اللانهاية حيث درس خصائصها والعمليات الممكنة عليها.ولشدّة ما كان لأعمال كانتور من استتباعات، سواء في اسس الرياضيات أو في النتائج الرياضيّة الهامة التي ما كان من الممكن أن تتبرهن بدونها، دُعي ما قام به كانتور بالثورة الكانتوريّة.

لكنّ ما قام به كانتور ما كان من الممكن أن يمرَّ دون مقاومة. أن تتداعى مبادئ راسخة عمرها دهور ليس بالأمر الذي يقبله النّاس ببساطة وسهولة. ما رافق الثورة الكانتوريّة من إتهامات ومناظرات حاميّة ربما لم يعرف التاريخ مثالاً له. وما تعرّض له كانتور من مضايقات حتّى في نشر نتائجه الرياضيّة كان له تأثير كبير على أعصابه وحياته، خاصّة في أيّامه الأخيرة.

الفيثاغوريون هم أتباع فيثاغورس Pythagore

Eudoxe

Didiknd

Cantor

نسبة إلى مدينته أبله.

Limite

قال أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب(ع)، في نهج البلاغة:[« وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهْ لاَ شَرِيكَ لَهُ، الأَوَّلُ لاَ شَيءَ قَبْلَهُ، والآخِرُ لاَ غَايَةَ لَهُ، لاَتَقَعُ الأَوْهَامُ لَهُ عَلَى صِفَةٍ، وَلاَ تُقْعُدُ القُلُوبُ مِنْهُ عَلَى كَيْفِيَّةٍ، وَلاَ تَنَالُهُ التَّجْزِئَّةُ والتَّبْعِيضُ، وَلاَ تُحِيطُ بِهِ الأَبْصَارُ وَالْقُلوبُ»]. ج1، ص:129، الخطبة رقم: 85.

وفي خطبته الثانيّة في صفات الله تعالى جاء بها قوله(ع):[«مَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ حَدَّهُ، ومَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهْ، وَمَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ، وَمَنْ قَالَ كَيْفَ فَقَدِ اسْتَوصَفَهُ، وَمَنْ قَالَ أَيْنَ فَقَدْ حَيّزَهُ، وَعَالِمُ إِذْ لاَ مَعْلُومٌ، وَرَبّ إِذْ لاَ مَرْبُوبٌ، وَقَادِرٌ إِذْ لا مَقْدُورٌ»]. ج2، ص: 236ـ237، الخطبة 152.

Coupures