علم الإجتماع التربوي: بحث بعنوان البُنية الإجتماعيّة والتحصيل الدراسي

24/5/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

 

الأستاذ منيف موسى الشوّاني

 

المقدمة: ناضل الإنسان منذ أوائل العصر الحجري القديم كي يتكيّف مع بيئة معقّدة، مستعيناً بأدوات بدائيّة، مخترعاً أشكالاً جديدة من التعاون الإجتماعيّ. والإنتقال من هذه الحالة البدائيّة إلى التقنيّة الضخمة، جعل الإنسان هشاً وقابلاً للعطب أكثر من ذي قبل، لأنّ المكاسب العظيمة في المعرفة القيمة وفي الإنتاجيّة كانت ذات أبعاد أعظم بكثير إذ وفرت له الضار من أدوات العنف والتدمير(1).

 

وسلطان المهارة التكنولوجيّة ونفوذها لا يؤكد أن وجودها في منحى السياسة العامة وحسب، ولكن أيضاً في أكثر مظاهر السلوك البشريّ شخصانيّة وحتى في تربية الأطفال(2).

وللتقسيم الدولي  للعمل نتائج تربويّة، إذ ينعكس في شكل تقسيم متخصص في التربيّة بين دول المركز ودول الأطراف، فتركز الأولى على المعرفة العمليّة الإنتاجيّة، وفي الثانيّة يدور التعليم حول المعرفة الإستهلاكيّة النظريّة(3).

والسيطرة المؤسساتيّة تقضي على الخاصيّة الترابطيّة في المجتمع، لأنها تركز على التحكم بدلاً من المشاركة، وعلى المزاحمة بدلاً من التعاون. والإهتمامات الطاغيّة بإنتاج الجملة وباستهلاك الجملة، تقضي بطبيعتها إلى إفقار البيئة الثقافيّة وإهمال الملكات الأخلاقيّة والعقليّة لدى الإنسان التي تمكنه أن يجعل الحياة ذات معنى وتجربة مبدعة(4).

ـ واقع التعليم في لبنان:

يذكرنا النظام التعليمي في لبنان بتمثال بني في حقبات مختلفة، تتداخل فيه تأثيرات مختلف العوامل الإجتماعيّة ـ الطائفيّة والثقافيّة. ويعاني من الإهتمام بالكم على حساب الكيف، ومن انعدام التوازن بين الخدمات التعليميّة للمناطق المختلفة. ففي القرى اللبنانيّة نشرت المدارس الإبتدائيّة تعليماً أولياً يرضي حاجات المجموعات الريفيّة(5)، بينما لم يتعد التعليم المتوسط البلدات الكبرى والمدن، استطاعت فقط قلة من البورجوازيين إكمال دراستها الثانويّة والعليا، والتي سمحت لها بتنبؤ المراكز الهامة(6).

ومنذ منتصف الستينات، كان نشاط صمام الأمان، الكامن في الهجرة نحو البلدان العربيّة النفطيّة، يتناقص كلما نما التعليم في البلدان العربيّة المجاورة. نتيجة لذلك، استمر احتياط اليد العاملة المستخدمة في الإزدياد وان انخفضت قيمة الشهادات على كل المستويات وبأن عدم التلاؤم المتزايد بين مخرجات نظام التعليم وسوق العمل الداخليّة(7).

وخفت الدافعيّة للتعليم وبرزت عيوب نظامنا التربويّ وتقليديته والذي يرهق التلميذ بالفروض والواجبات التي كثيراً ما يعجز عن القيام بها وكذلك الأهل، والتي تعقدّ الولد وتحمله على النفور من المدرسة، وبدلاً من أن تكون مصدراً للبهجة والمرح والعمل الخلاّق(8).

ويتجه اللبنانيّ للإنفصال عن التراكيب المجتمعيّة الطائفيّة نحو الدولة الواحدة، وقد أكدّ هذه الحقيقة بحث ميداني أجري بين العامين 1988ـ1992 حول القيم الخلقيّة التي يتمنى اللبنانيون أن تنتقل إلى أبنائهم(9)، وذلك بالرغم من المحاولات الفوقيّة لبعض مواقع القطاع التربويّ لإعادة شحن المولد الطائفيّ وإحياء ثقافة الفتنة. لهذا تصبح المدرسة الرسميّة حاجة مجتمعيّة، تدعم الوحدة الوطنيّة، من الواجب البحث عن أسباب تراجع الإقبال عليها، وذكر نقاط الضعف والثغرات التي تعاني منها. خاصة وإن المناطق الريفيّة تعاني من النقص في إعداد المعلمين ووزارة التربيّة ما زالت تعتبرها حقل إختبار للمعلم المبتدئ، ينقل بعد سنوات من المران، بنتائج خبراته إلى المدن  الكبرى وفقاً لطلبه وأحياناً بناء على أوامر الوزارة لمدارس جيدة، وذلك أنحيازاً لا شعورياً للفئات المدنية. فيعاني أبناء المناطق الريفيّة من التأخر الدراسي بالنسبة لأبناء المدينة ونتائجها هي ترك المدرسة قبل الوصول إلى المراحل المتوسطة أو الثانويّة(10).

ـ البينة الإجتماعيّة والتحصيل الدراسيّ:

كان التفاوت الإجتماعيّ في التحصيل العلميّ قائماً منذ فترة طويلة، إلاّ أنّ الحرب العالميّة الأولى، وكذلك الثانيّة، أحدثتا بعض التغيير في النظر إلى التربيّة، وتوسيع دائرة التعليم، وعدم قصره على القلة أو الصفوة نتيجة لبروز الحاجة إلى عدد أكبر من الكوادر، والتقنيين، والمهندسين، والمعلمين، وغيرهم ممن يتطلبهم التحول الإقتصاديّ والتقنيّ(11).

وتزيد التربيّة من قدرة الأفراد على التكيّف مع ظروف العمل. فقد أدى التطور التكنولوجيّ السريع إلى إحداث تغيير كبير في هيكل العمالة وطبيعة المهن(12).

وترى بعض الدراسات الإجتماعيّة أن التعليم وسيلة أساسيّة للحراك الإجتماعيّ من الطبقات أو المستويات الإقتصاديّة الإجتماعيّة العليا. وينظر البعض الآخر إلى التعليم على أنه وسيلة للثبات الإجتماعيّ والمحافظة على الوضع الإجتماعيّ وإنتقال اللامساواة من الآباء إلى الأبناء عن طريق توفير فرص التعليم والدافعيّة ومن ثم العمل لأبناء الطبقات العليا والمتوسطة وحرمان الطبقات الدنيا منها(13).

ويعود لاتكافؤ الفرص الدراسيّة إلى الفئات الإجتماعيّة أكثر مما يعود إلى نوعيّة التعليم. فالبرغم من تحقيق ديمقراطيّة التعليم، وبالرغم من إفساح المجال للحصول على التعليم أمام الجميع وفتح المدارس في مختلف المناطق، فإن الفرص الدراسيّة غير متكافئة إجتماعياً بين أبناء الجماعات أو الفئات الإجتماعيّة والإقتصاديّة المختلفة، تبعاً لموقع كل منها في السلم الإجتماعيّ(14).

وفي لبنان يختار الأهل، على إختلاف مستواهم العلميّ، المدرسة الخاصة غير المجانيّة اعتقاداً منهم أنّها الأفضل والأضمن لأولادهم علمياً وسلوكياً ومستقبلياً. أمّا خيار التعليم الرسميّ أو التعليم الخاص المجانيّ لا يبدو خياراً بقدر ما يبدو قدراً، خصوصاً للأميين ومن هم في عداد المرحلة الإبتدائيّة(15).

هذا بالرغم من أن الدراسات تؤكد أنّه ليس هناك فارق مهم بين كفاءات المديرين ولا بين كفاءات المعلمين في قطاعي التعليم الرسمي الخاص. وإذا كان ثمة من فرق يمكن تسجيله فهو، بخلاف ما نتوقعه، لصالح المدارس الرسميّة حيث نجد نسبة أعلى من حملة الشهادات الجامعيّة والدراسات العليا في الجسم التعليميّ للمدارس الرسميّة(16).

وبالرغم من هذا يزيد التفاوت الإجتماعيّ للفرص الدراسيّة هذه كلما صعدت في السلم الدراسيّ بين المرحلة الإبتدائيّة والمتوسطة، وبين التعليم الثانويّ والفروع المهنيّة اليدويّة وبين الكليات السهلة والكليات الصعبة(17).

ويعود هذا في إعتقادي إلى أسباب متنوعة، أهمها:

1ـ دور الأسرة:

إن المحيط العائليّ للمنزل هو الذي يكسب الطفل الشعور بالتقبل الشخصيّ، والذي يرسي السلوك الإجتماعيّ للطفل، وتشكل الأسرة العامل الأهم في تحديد مستوى الدراسة التي يتابعها الفرد ونوعها، وفي المهنة التي يختارها.

يأتي الأطفال إلى المدرسة بزاد ثقافيّ متناسب مع إنتمائهم الطبقي الإجتماعيّ، وهذا الزاد يمكن أن يشكل عائقاً يحد من تكيفهم مع المدرسة، وبالتالي يؤثر سلباً على فرص نجاحهم، ويمكن أن يكون عاملاً إيجابياً يعزز تآلفهم مع المدرسة واستمرارهم فيها بشكل طبيعي(18).

فالإتصال داخل الصف يجري بواسطة اللغة، وهي لغة الفئات المحظيّة، لذلك يجد أبناؤها في المدرسة جواً مكملاً لما عهدوه في المنزل من تفاعل لفظي غزير. ويحظون فيها بإمكانيّة استثمار رصيدهم اللغوي المكتسب سابقاً. أمّا أبناء الفئات الدنيا فيجدون أنفسهم في ظروف غربة لغويّة ينقطع فيها اتصالهم اللفظي مع المدرسين مما يكون لدى هؤلاء المدرسين صورة سلبيّة عنهم وعن «مواهبهم». ومع تراكم هذه الصورة والنتائج السلبيّة للإختبارات التحصيليّة والإمتحانات، تتكون لديهم صورة سلبيّة عن أنفسهم، تعكس الصورة التي يكونها المدرسون عنهم، مما يقنعهم وأهلهم تدريجياً بلاجدوى عملهم المدرسي(19).

وأهميّة الدافعيّة بالنسبة للتربيّة أمر لا خلاف عليه(20)، فبمقدار ما تحظى المدرسة بتقبل من الأسرة، بمقدار ما تشكل دافعاً عفوياً لاحترامها من قبل الأبناء. وكما علم الإجتماع التربويّ كذلك علم النفس التربويّ يهتم ببيئة المتعلّم الماديّة والإجتماعيّة لتأثيرها الكبير على نمو الطالب(21).

واهتمام الأب بشؤون الطفل على علاقة بالتفاعل الذي يدور بين مختلف أفراد الأسرة. وتتصف صورة الأب في المجتمعات العربيّة بالقمع والتسلّط. وكأنّ وظيفته تقتصر على الردع والتأديب. وتشجع الثقافة السائدة هذا التوجه التسلطي للأب. وكثيراً ما تهدد الأم الطفل بعصا الأب الغليظة لضمان طاعته دون أن يؤثر على صورتها كمصدر للعاطفة والمحبة. وثمة علاقة شرطيّة بارزة بين ثقافة الأم والمستوى العلميّ للإبن وبالتالي الموقع الإجتماعيّ الذي يحققه(22).

ودور الأهل لا ينتهي عند تسجيل أبنائهم في المدرسة، وتوطيد العلاقة الدائمة مع الأهل والتعاون معهم في تتبع مراحل نمو التلميذ في سبيل تفهّم أفضل لشخصيّة التلميذ والعوامل المؤثرة في سلوكه وفي تحصيله الدراسيّ. ويجد المعالج السلوكي في أحيان كثيرة إن علاج مشكلات الطفل بطريقة ناجحة لا يقتصر على علاج الطفل، بل قد يتطلب علاجاً وتعديلاً في سلوك البالغين أنفسهم(23). وحتى في حالة الإهتمام نجد أنّه كثيراً ما يربى الطفل وفي ذهن الوالدين مخطط خاص موضوع لأجله من قبل، وكثيراً ما يكون المخطط متأثراً بالنجاح الشخصيّ أو الفشل الذي أصاب أحد الوالدين، والطفل يعجز غالباً عن الوصول إذا كان يعمل وفق مخطط موضوع.

2ـ دور المعلم:

المعلم الحديث مرشد ومعين، لا يجديه علمه الغزير في مهمته الصعبة، إن لم تطغ عليه خصلة التعاون، فالمعلم الذي يملي مذاهبه إملاء، لا ينفع لأنّها تدخل من أذن وتخرج من أذن، فعلى التلميذ أن يبحث ويجد بمعونة أستاذه وإرشاده، لأن الذي يجده التلميذ بنفسه يبقى، أمّا الذي يسمعه من معلمه فيذهب(24).

والمعلم صار رسول السلطة العامّة وممثلها، تربوياً وتعليمياً، تجاه الناشئة المغلوبة على أمرها، بعد أن كان ينطلق من قناعاته العقليّة والخلقيّة، من الأفكار والقيم السائدة، فتقلصت المبادرة الذاتيّة والخصوصيّة في نفوس الطلاب حتى تحولوا، شيئاً فشيئاً، إلى مجرد مستلكين للمعرفة ترسمها السلطة العامّة وتنتجها، ثم يحوّلها المعلم المتحول إلى موظف(25) بالطريقة التلقينيّة المعتمدة على العقاب أكثر من الثواب.

ولوضعيّة القهر آثار مدمرة على التكوين النفسي والعقليّ للإنسان لعل أبرزها هو الميل إلى التخلي عن إستقلال النفس الفرديّة ودمج النفس في شخص آخر للحصول على القوة التي تنتقص الأنا  الفرديّة. وفي معظم الأحيان يخضعون خضوعاً أعمى لمتطرفين جعل منهم القهر ساديين ينحون إلى الحقد وإنتاج ثقافات الفتن  المتنوعة(26).

ويلعب المعلمون بصورة واعيّة  لعبة الإصطفاء الإجتماعيّ، وذلك من خلال ردود فعلهم تجاه التلاميذ في الصف وتقييمهم لهم، ومن خلال توجههم المهني لهم، وبكلام آخر من خلال إيديولوجيتهم التي جرى تحضيرها إبان أدائهم المهنيّ(27).

ويتجاوب المعلمون لاشعورياً مع ملاحظات الأهل والزائرين (غالباً الطبقة الوسطى والعليا) بإعطاء قسط من إهتمامهم ووقتهم لأبناء هؤلاء. وطرق التعليم يمكن أن تكون ذات طبيعة نخبويّة. فأبناء الفئات الشعبيّة أكثر ألفة مع ما هو مادي ومحسوس. وطرق التعليم تقوم على الإنطلاق من المجرد نحو «التطبيق» وهي أكثر تناسباً مع أبناء الفئات الإجتماعيّة الوسطى والعليا الذين اعتادوا على التصميم(28).

وبشكل عام، أفضل طريقة تعليميّة هي النابعة من داخل المعلم، ومن صميمه. فيقدر ما يمكن أن يستخدم عناصر التشويق والوسائل التعليميّة اللازمة وخلق المناخ المؤاتي للتعليم عن طريق كسب ثقة تلاميذه واحترامهم ومحبتهم، بقدر ما يكون معلماً ناجحاً، وإلاّ فإنّ جميع طرائق التدريس لا تضمن له أن يكون ذلك المعلم  الناجح(29).

وأثبتت التجارب أنّ هناك نافذة بين شبكة الإنفعالات والمستوى الأعلى الدماغي للتحليل والتخزين، وهذه النافذة تفتح أو تغلق عند الطلاب بمقدار حبهم للمادة والأستاذ، فعبثاً يحاول الأستاذ الشرح عندما تكون هذه النافذة مغلقة. فأنماط التموجات الكهربائيّة التي تدل على النشاط الذهنيّ تتحول إلى تموجات أكثر وأبطأ قريبة من تلك التي تسوء في حالة النوم ومن مراقبة البؤبؤ نلاحظ إنه قد تقلّص إلى درجة لا يسمح بالكثير من المراقبة والمشاهدة والإستيعاب.

وهناك أيضاً نافذة بين المستوى الأعلى الدماغي لإعادة المعلومات إلى شبكة الإنفعالات (للتذكر) وقد تغلق في حالة عدم الرضى والتقبل أو في حالة الخوف زمن الإمتحانات، وعلى المعلم أن يخفض قدر الإمكان الضغوضات التي يتعرّض لها الطلاب.

3ـ دور العشرة والإختلاط:

يرتبط عدم تكافؤ الفرص بالمواقف وبالقيمة الإجتماعيّة المعطاة للثقافة المدرسيّة. فيعطي العمال قيمة ضعيفة للثقافة المدرسيّة في تحديد مصير أولادهم المهني، ويتوقعون حياة دراسيّة قصيرة لهم، بينما يتوقع أصحاب المهن المرموقة والأطر العليا حياة دراسيّة طويلة لأولادهم متناسبة مع القيمة العالية للثقافة بإعتبار أن شريحة المهن المتوقعة أو المطلوبة لأولادهم هي بالتحديد تلك المبنيّة على رصيد ثقافيّ عال(30). ولكن أحياناً يظهر العكس بنشوء  قيمة عالية للثقافة في ظل إنخفاض الرصيد الثقافيّ بسبب قوة الحرمان الإجتماعيّ وما ينشره من رغبة في تجاوزه. وهذه الرغبة تنشأ عن أولويّة اللجوء إلى مرجعية أصليّة (عم، جد، الخ...) أو مستجدة في القرابة(صهر)، أو الصداقة (زميل في الدراسة، معلم، لخ...)(31) وهذه النقطة يجب توضيحها والإستفادة منها عن طريق تقبل أخطاء الطلاب والعمل على إصلاحها بمحبة وحنان.

وتنتج مدارس الطوائف أو العصبيات المختلطة إجتماعياً لأبناء الفئات الشعبيّة، فرص إتصال بأبناء الفئات الميسورة والمرموقة، وفرصاً للتباهي التربويّ الإجتماعيّ مع أشخاص غير طبقتهم(32).

وأخيراً تذكر الدراسات التي أجريت في الولايات المتحدة الأمريكيّة عن دور العشرة والإختلاط في المدرسة، حيث أن أبناء الأقليات (أو غير المحظوظين أو الميسورين إجتماعياً) تزيد فرص نجاحهم المدرسي كلما زادت نسبة زملائهم البيض أو الميسورين إجتماعياً في الصف(33).

4ـ دور المدرسة في التنشئة الإجتماعيّة والوطنيّة:

كان من الصعب قبل عام 1991 إقناع الكثيرين بالدور المحدود للمدرسة في التنشئة السياسيّة (والتنشئة الوطنيّة تجمع السياسة والمدنيات) إلى أن إنهارت الدول الإشتراكيّة الواحدة بعد الأخرى.

والتباين بشكل عام واضح بين ما تنقله المؤسسة التعليميّة من رسالة وبين ما يتناقله المعلمون والخريجون، فالسود مثلاً في أميركا لا يعصى عليهم إيجاد الأدلة اليوميّة على أن الديمقراطيّة وحقوق الإنسان... متحققة في جزء من المساحة الإجتماعيّة ومهيّضة الجناح في جزء آخر منه، مما يجعلهم على مسافة أكبر من هذه القيم بالمقارنة مع مواطنيهم البيض(34).

وفي لبنان، لكل مدرسة رسالة سياسيّة مبطنة أو مكشوفة مبثوثة في كتبها، إلاّ إنّها ليست هي التي تكوّن إتجاهات الطلاب، لأنّ هؤلاء يأتون بالرسالة من مصدرها الأصلي(الطائفة) عبر إجهزتها أو وكالاتها الأخرى ولا سيما منها الأُسرة(35). والمدرسة وحدها تركت آثاراً على إتجاهات الطلاب في حالتين:

أ ـ عندما كانت القضيّة  المطروحة إجتماعيّة الطابع دون مغازي سياسيّة.

ب ـ عندما كانت القضيّة المطروحة مرتبطة بالحياة المدرسيّة والثقافيّة.

وفي هاتين الحالتين يمكن تلّمس البعد الإجتماعيّ لهذا الأثر بحسب تراتبيّة الإنتماءات الإجتماعيّة لجمهور المدارس وبحسب مكاناتهم الإجتماعيّة اللاحقة(36).

وقصور المدرسة في التنشئة الوطنيّة ناتج إجمالاً عن سببين:

أ ـ مخاطبة ذاكرة التلميذ لا عقله.

ب ـ بعد المدرسة عن محيطها الإجتماعيّ وبيئتها الطبيعيّة.

وبشكل عام في الدول الناميّة يصعب إعتبار المدرسة المؤسسة الرئيسيّة للتنشئة، لأنّ البنى السابقة المسماة تقليديّة ما زالت نافذة والإختلاف في النسق القيمي والتباين بين ما تخرجه المدرسة وسوق العمل، حوّلا علاقة المدرسة «وخاصة المدرسة الرسميّة» بمحيطها إبان الحرب اللبنانيّة من علاقة إحترام وإحتضان إلى علاقة إستخفاف واستباحة وممارسة ضغوط وكأن المدرسة جسم غريب عن محيطها.

ـ الخاتمة:

إن وجود علاقات بين المدرسة والبيئة يسهل العمليّة التربويّة ويغنيها لأن التحركات الإجتماعيّة الموجودة تحدث بفضل المدرسة أو محكومة بالمدرسة، فهناك تحرك أفقي هام للطبقات التقليديّة نحو الطبقات الحديثة وهناك تحرك إجتماعيّ عمودي، وإن كان محدوداً للفئات الشعبيّة نحو الأطر الوسطى والعليا. ومن جهة ثالثة تحرك آخر منحرف أكثر إتساعاً، نحو الأطر الصغرى(مستخدمون، موظفون صغار...) فطابع التوسع المستمر وغير المنجز للقطاع الحديث،  يعني أن التفاوت الإجتماعيّ غير جامد، لأنّ التوسع يفترض إستدخالاً لفئات جديدة يجتذبها القطاع الحديث من بين سكان القطاع التقليديّ (37).

وكي لا يضحى العلم قشرة خارجيّة فيخرج الأخصائيّ الأميّ، وتتناقض ممارسات المعلم والتلميذ بين الحياة والمدرسة، فنرى إزدواجيّة في شخصيّة الإنسان بين دور المتعلم ودور الإنسان الممارس حياتياً، ففي الحياة اليوميّة نرى التقليد وإنتشار الخرافات والنظرة المتخلفة إلى الوجود. أمّا في المناسبات العلميّة فنرى التحليق في دنيا  المنطق والعلم. لذا يجب أن لا يقتصر دور المدرسة على تزويد المتعلم بالموقف الجاهز. والمطلوب منهج قوي يوضح الأهداف السلوكيّة ويخاطب عقل التلميذ لا ذاكرته. ويؤكد «ديوي» إنّ المصدر الأساسي للمعرفة الإنسانيّة، هو الخبرة والنشاط الذاتي للفرد.

 

 

جوزف كاميلليري، 1983، أزمة الحضارة. منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، ترجمة فؤاد الخوري، ص:6.

المصدر نفسه، ص: 32.

سعيد إسماعيل علي، 1995. فلسفات تربويّة معاصرة، عالم المعرفة 198، الكويت، ص: 162.

جوزف كاميلليري، ص:33.

ـMaalouf  N. et autres – 1983 – Le regroupement ScolaireCoûts et Bénéfices M. de E.N.P:   

سليم نصر، كلود دوبار، 1976. الطبقات الإجتماعيّة في لبنان، مؤسسة الأبحاث العربيّة، بيروت، ترجمة جورج أبي صالح 1982، ص: 357.

فريد جبرائيل نجار، 1983. تطور الفكر التربويّ في العالم، المركز التربويّ، بيروت، المجلد الرابع، ص:35.

El Kahi, A. 1994 Evolution des valeurs au Liban entre les valeurs du cercle ou les valeurs du réseaus special education - lorient le jour-