الإمام السيّد موسى الصدر وبلاد جبيل

11/10/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم:الأستاذ يوسف حيدر أحمد

أ ـ مع الطائفة الإسلاميّة الشيعيّة

عظمة الأوطان تُقاس بعظمة رجالاتها. فالرجال الرجال هم الّذين يُعطون العزّة والكرامة والعنفوان لأوطانهم. والبلاد التي تفتقر إلى الرجال العِظام، تُصاب بحالة من الإحباط والوهن، أمَّا الزمن بقساوته، فلا يرحم الخانعين ويُصفِّقُ للمتفوقين...

منذ خمسينيات القرن الماضي وما قبله. كانت الطائفة الإسلاميّة الشيعيّة من أكثر الطوائف اللبنانيّة ظلامة وحرماناً كانت مهمّشة مُفككّة ضائعة. تتناتشها أحزاب اليمين واليسار مُتسكعةً على أبواب الطوائف إستجداءً للعمل.

وكان زعماؤها آنذاك ما بين مُتقاعسٍ، أو مُحابٍ، أو غير مُبالٍ، أو على أقل تقدير لا يتمتَّعون بالكاريزما التي تؤهِّلهم قيادة الطائفة، أو المطالبة بحقوقها المشروعة.كانوا مُرّفهين، وكانوا يعتبرون أنّ كل أفراد الطائفة على شاكلتهم، رغم أنّ معظم أبنائها كانوا يعيشون التخلَّف، والفقر المُدقع. وفي أحزمة البؤس في ضواحي بيروت الجنوبيّة والشرقيّة، والجنوب، والبقاع، وفي أكثر المناطق الأخرى التي يتواجدون فيها. فلا من يهتمُّ. ولا من يرفع الصوت طلباً للعدالة، ورفضاً للحرمان، وبقي الوضع على رتابته المُملة القاتلة، حتى أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وزاد الوضع تأزماً اعتداءات إسرائيل المتكررة على الجنوب والبقاع الغربي.

ب ـ مع الإمام السيّد موسى الصدر

وفي أواخر الخمسينيات من القرن الماضي أطلَّ الإمام السيّد موسى الصدر. هذا العملاق بجماله، وقامته، وإطلالته، وإيمانه، وتواضعه، وعفويته، وديناميته، فقلب الموازين، ورفع الصوت لكن بالتثقيف، والعمل الجاد، والدبلوماسيّة الهادئة، والإلحاح الناعم المُطالب بحقوق الطائفة وكل الطوائف تحت شعار «علينا، أن نسعى بكل ما نملك لرفع الحرمان عن المحرومين من أي فئة، أو طائفة، أو منطقة في لبنان».

وسرعان ما دبَّ وَجيبُ الروح في جسد هذه الطائفة البائسة التي أخذت تُلملمُ جراحها، وأطرافها المُفكَّكة، بعد أن أيقظها الإمام من سُباتها العميق.

وفي رسالة مؤثرة إلى الإمام، أرسلها الأستاذ كريم بقرادوني في 30/4 1975م. يُعبِّر له فيها عن إعجابه بمناقبيته، وديناميته، وعن الإنقلاب الأبيض والتحوّل النوعي الذي أحدثه في جدار الطائفة والوطن. نسمعه يقول في رسالته إلى الإمام:» قبلك كان الجنوب أرضاً دون ضمير، ومعك أصبح الجنوب ضميراً داخل كل بيت لبناني. قبلك كانت الشيعة طائفة مُتخلِّفة بين الطوائف، ومعك أصبحت الشيعة حركة كل الوطن»(1).

كلمة صغيرة لكنها تظهر عظمة وصدقيّة الإمام الذي أراد تثقيف الأمّة، كل الأمّة على جميع الأصعدة بالعلم والعمل والإيمان والإنسانيّة، وبالإجتماع الذي يزيل غشاوة الحرمان عن عين الوطن والشعب.

ويُجيب الإمام عندما سُئل عن هدفه في لبنان كعالم دين، رابطاً العلاقة الجدليّة بين المجتمع السليم والدين القويم قائلاً:» إنّ مهمتي الدينيّة بالذات، تهدف في لبنان إلى رفع مستوى الحياة الإجتماعيّة بصورة عامّة(لكل النّاس) وإلى رفع مستوى الثقافة الدينيّة عند المسلمين بصورة خاصة (بإبعاد الإسلام عن الجمود، والصنميّة، والخرافات والأفكار المشوهة الخاطئة) لأني أعتقد بأنّه لا يمكن رفع المستوى الدينيّ ما دامت الحياة الإجتماعيّة على ما هي عليه»(2).

ومن أجل رُقي الوطن والمواطن وسعادته مادياً وروحياً ومعنوياً وحضارياً قام الإمام بكل ما وسعه الجهد في السلم كما في الحرب، بالكلمة الطيبة والحكمة البليغة والحركة الدؤوبة والإعتصام والدبلوماسيّة والحوار الهادف، والسفر إلى عواصم القرار من أجل مصلحة الوطن وحريته واستقراره وقوته وبسبب أعماله الباهرة ونشاطاته المُميّزة إنحسر عدد حسَّاد الإمام ومُشاكسيه وتعاظم مُحبوُّه ومُريدوه من جميع المذاهب والطوائف على إمتداد مساحة الوطن «فقُرعت له أجراس عشقوت، وفُتحت له أبواب الكنائس في الكبوشيّة ومنابر الجوامع في صيدا»(3).

ج ـ مع بلاد جبيل:

وبعد الجنوب وبيروت وكسروان والبقاع والشمال كان لبلاد جبيل حصة إضافيّة من هذا الإهتمام والإعجاب. فلقد أعطته جبيل حبَّها وتقديرها، ومنحها الإمام من عُصارة حُبِّه وفكره وروحه وذوقه الإجتماعي الشيء الكثير. كما أحبته بلدة كفرسالا ـ عمشيت سُمَاعاً قبل أن تراهُ عياناً، وكانت هذه البلدة حتى أوائل الستينيات من القرن الماضي محرومة من المسجد والحسينيّة لتأدية واجباتها الدينيّة والإجتماعيّة، لذا تداعى بعض وجهائها للبحث في زيارة الإمام في صور ليُبارك لها بوضع حجر الأساس للمسجد والحسينيّة. وتحقيقاً لهذا الهدف. ذهب الحاج محمد علي حيدر أحمد (أبو عفيف رحمه الله)، والسيد مرشد حيدر أحمد أبو محمد (أطال الله بعمره) إلى مدينة صور مدينة الصمود الأسطوري التاريخي القديم والحديث ليقابلا الإمام فلم يجداه في منزله المتواضع وقيل لهما بأنّه ذهب يتفقد المدارس المهنيّة والتعليميّة والمشاغل الحرفيّة التي بدأ بتشييدها في صور خدمة لأبناء الجنوب المحرومين.

وبعد وقت قصير عاد الإمام فاستقبلهما بالترحاب وعرضا عليه الموضوع الذي جاءا من أجله. رحبَّ بالفكرة. لكنّه لكثرة مشاغله وارتباطاته ومواعيده طلب تأجيل ذلك إلى وقت لاحق.

وبعد بضعة أيام عاد الرجلان بمعية صديق الإمام الوزير السابق عبد الله المشنوق رئيس الخلايا السعوديّة الإجتماعيّة في لبنان، ليقابل الإمام في بلدة القماطيّة حيث كان يصطاف وإتفقوا معه على موعد الإحتفال بوضع حجر الأساس في البلدة في عام 1962م.

وعلى أثر ذلك عُلِّقت لافتات في مدينة جبيل وعمشيت وبلدة كفرسالا ترحيباً بالإمام.

وفي اليوم الموعود، إمتلأت ساحة المدرسة في البلدة بالحضور من أهالي البلدة والشخصيات الجبيليّة والنيابيّة فحضر النائب العميد ريمون إده والنائب أحمد اسبر والنائب السيد جعفر شرف الدين والأستاذ عبد الله المشنوق ووفود ووجهاء من مدينة جبيل والجوار.

تحدَّث الإمام في هذا الإحتفال عن معنى وقيمة العطاء والتضحيّة بالمال لدور العبادة كما شجّع وبارك صيغة التعايش الإسلاميّ ـ المسيحيّ تحت عباءة المحبة في المسيحيّة والرحمة والتسامح في الإسلام، كما أكدَّ على الإلتزام بالقيم الروحيّة والوطنيّة والإجتماعيّة والإنسانيّة.

وقبل إفتتاح التبرع إختار الإمام بقعة أرض استراتيجيّة مُشرفة على البحر وعلى مدينة جبيل التاريخيّة مُشيراً بيده المباركة إلى تلك البقعة قائلاً: هنا يقام المسجد والحسينيّة فوافق صاحب الأرض الحاج حميد محمد نكد حيدر حسن على بيعها مُتبرعاً بنصف ثمنها تقرُّباً لله تعالى.

بدأ الإمام بنفسه بالتبرع ثم أخذت الشخصيات والوفود بالتبرع، ومن طريف ما حدث في هذا الإحتفال وما لفت نظر الإمام هو أن المدعو دياب علي حيدر أحمد تبرع بسبع ليرات لبنانيّة وبقي في حوزته خمس ليرات وعندما إشتعل حماساً عاد ليتبرع بما بقي معه قالباً باطن جيبه إلى خارج سرواله. حينها قال الإمام بتعجب وإعتزاز موجهاً حديثه إلى الحضور: تمثلوا بهذا العامل المكافح الفقير الذي دفعه إيمانه وحماسه إلى إفراغ ما في جيبه من مال إرضاءً لله. ثم وضع الإمام حجر الأساس وانصرف مُودعاً مُحاطاً بالحب والتقدير والدعاء له بالعمر الطويل.

وتلوّنت نشاطات الإمام في بلاد جبيل وكسروان ما بين فكرية وإجتماعيّة وتربويّة وثقافيّة فقام بإلقاء محاضرة ثقافيّة إجتماعيّة بدعوة من نادي التضامن الثقافيّ في علمات الجبيليّة بتاريخ 16/7/1965م. بعنوان المؤثرات النفسيّة على الروح الإجتماعيّة(4).

كما حضر الإمام الصدر إلى بلدة طورزيا بناءً على دعوة من الزعيم الجبيلي الراحل مخايل بك لحود في عام 1964م للمباركة وللمشاركة في إجتماع للعائلات الجبيليّة دعا إليه لحود سماحة الإمام ورئيس دير عنايا الأب بطرس خليفة وسائر الشخصيات والمقامات الجبيليّة.

كما حضر بتاريخ 16/9/1967 إلى قرية مشّان لتوزيع الجوائز على الطلاب الفائزين في إمتحانات الشهادة الإبتدائيّة في المدرسة التوجيهيّة في مشّان ـ جبيل كان ذلك بحضور الرئيس أديب علاّم والمونسنيور طوبيا سعيد والسيدة نهاد سعيد وبعض وجهاء المنطقة(5).

وفي سبعينيات القرن الماضي، ألقى الإمام محاضرة في أنطش جبيل للرهبانيّة المارونيّة ودخل كنيستها إماماً وواعظاً على حد تعبير رئيس بلدية جبيل الأستاذ المهندس زياد حوّاط(6).

وقد حذر الإمام في تلك المحاضرة الجبيليين واللبنانيين من المخططات التقسيميّة والطائفيّة التي أُريدت للبنان آنذاك من قبل العدو الصهيوني  الطامح والطامع بالمياه اللبنانيّة وبتوطين الفلسطينيين في لبنان(7).

كما ألقى محاضرة ثقافيّة تربويّة في ثانوية جبيل الرسميّة بدعوة من مديرها الأستاذ فيكتور غوش. تحدّث فيها عن حرية المرأة وحقوقها في التعليم ومساواتها بالرجل في التعلم والعمل وعلى تحصينها بالتربيّة والأخلاق الفاضلة وهو القائل «سأجعل من كل بيت مدرسة» ونحن «نحتاج إلى إكمال الرسالة، نحتاج إلى نساء يقوِّين العزائم ويقفن بقوة»(8).

وقبل إلقاء الإمام محاضرته في ثانوية جبيل تقدمت سيدة منه لتصافحه فوضع يده على صدره معتذراً وعندما سألته عن عدم مصافحة النساء إختزل الجواب بإبتسامة وكلمتين: هذا طقس» (أي هذا عرف وحكم إسلامي)(9).

ولم يبخل الإمام على أصدقائه ومحبيه بمشاركتهم أفراحهم الإجتماعيّة فحضر إلى مدينة جبيل بمناسبة عقد قران كريمة صديقه الحاج محمود جعفر المولى عام 1970م، على المهندس منير بلوط في منزله وبحضور النائب أحمد إسبر والقاضي هاني المولى وشخصيات جبيليّة وبقاعيّة(10).

كذلك زار بلدة المعيصرة الكسروانيّة في 18/6/1972 بمناسبة عقد قران الشيخ عبد الكريم الغول على الآنسة دام الهنا كريمة الشيخ حسين الحاج مُسلم عمرو(11).

كما قام في أواخر الستينيات من القرن الماضي بإفتتاح جامع بلدة المغيري تلبية لدعوة الأهالي وصديقه المرحوم المفوض العام مدحت حيدر الحاج، وبإفتتاح جامع بلدة حجولا تلبية لدعوة الأهالي وصديقه المرحوم الأستاذ منير إبراهيم.

كما زار أهالي بشتليدا وفدار في عام 1875م حيث صلّى في جامع الحاج كامل كنعان واجتمع بالأهالي في منزل السيّد حسن عبد الكريم كنعان، والقى فضيلة الأستاذ خضر كنعان كلمة بهذه المناسبة، ردَّ عليه الإمام الصدر شاكراً الأهالي على هذا الإستقبال، ومن طريف ما يذكره بعض الأهالي عن هذه الزيارة أنَّ رئيس دير مار مارون ورهبان الدير في عنايا دعوا الإمام السيّد الصدر لزيارتهم وشرب القهوة عندهم قبيل حلوله ضيفاً على أهالي قرى بشتليدا وفدار وحجولا، فلّبى دعوتهم شاكراً لهم هذه المبادرة الوطنيّة. كما زار في إحدى المناسبات المرحوم الأستاذ منير إبراهيم في منزله ببلدة طورزيا حيث إجتمع وجهاء بلاد جبيل من مسلمين ومسيحيين للسلام عليه والإستماع إلى كلماته. وكان عريف الإحتفال آنذاك المختار أحمد برّو الّذي يحتفظ في ذاكرته عن ذلك اللقاء أجمل الذكريات. 

د ـ عود على ذي بدء:

وكانت محاضرات الإمام وندواته المتنوعة والقيِّمة داخل لبنان وخارجه دليلاً ساطعاً على سعة إطلاعه وثقافته العريقة وشغفه بمطالعة الكتب الملوّنة بألوان الفكر والتاريخ والفلسفة وعلم النفس والإجتماع والعقيدة الأمر الذي أثرى شخصيته الثقافيّة مُضافَة إلى ألمعيته حيث جعلت من عقله المستضيء بأنوار العلم والإستنباط ما يُضاهي الأنثلجنسيا العالميّة.

وبعد، ماذا نقول في هذا الرجل الذي حاول إنهاض الأمّة من كبوتها وعمل على تنظيف الوطن من أمراض الفساد والمحسوبيّة والظلم والحرمان والطائفيّة.. حضّ على ترسيخ العلم والإيمان النقي والعمل الصالح في العقول والنفوس والقلوب.

هل نقول فيه ما قاله الشاعر العربي الذي إختزل العالم في شخصيّة ملك أشبيليّة في الأندلس المعتمد بن عبّاد حيث قال:

رأيتُهُ فرأيتُ النّاسَ في رجلٍ

  والدهرَ في ساعةٍ والأرضَ في دارِ(12).

أو نقول: نعم أيها الإمام لقد حملت في قلبك وفكرك وروحك هموم ومتاعب الأُمّة والوطن وعبق الرسالة الإلهيّة وطُهر الأنبياء وصفاء الرجال الصالحين وتخلَّقت بأخلاق الله، حتى إستحقيت بجدارة وسام المجد والعظمة فكنت بحقِّ رجلاً في أمة. وأمّة في رجل. ولم يُقصِّر الأستاذ بقرادوني ولم يجانب الحقيقة والواقع عندما وصفك بالعملاق وبصانع التاريخ، ومُطفئ حرائق الوطن الطائفيّة عندما قال:» والحقيقة أن الرجال أمام التاريخ نوعان: الأقزام الّذين يُصَغِّرون التاريخ لتصبح القضايا الكبيرة بحجمهم الصغير فيُحطمون المستقبل. والعمالقة الذين يصنعون التاريخ فيكبرون بحجم القضايا الكبيرة، والقضيّة التي تُعالج اليوم أنت من حجمها وهي من حجمك(13).

 حركة أمل «السيرة والمسيرة». دار بلال للطباعة والنشر ـ بيروت ج2، ص 19 (جريدة العمل 30/4/1975م. ومسيرة الإمام، ج5، ص 278.

مسيرة الإمام السيّد موسى الصدر، يوميات ووثائق. ص 1960 ـ 1968. دار بلال ـ بيروت ط. أ، 2000، ج1، ص 60. و «السيرة والمسيرة»، ص 1/122

السيرة والمسيرة، 2/18.

المصدر نفسه 1/137.

الشيخ يوسف محمد عمرو، «التذكرة أو مذكرات قاضٍ» المؤسسة اللبنانية للاعلان ـ بيروت، ج3، ص502.ومجلة «إطلالة جبيلية» العدد الرابع الصادر في تموز 2011م. ص93. والوجه الداخلي للغلاف الآخير.

مجلة «إطلالة جبيلية» العدد السادس الصادر في شباط 2012م. ص 89.

المصدر نفسه، العدد السابع الصادر في 15 أيار 2012م. ص2.

مجلة «العواصف» عدد 957 نيسان 2012م. ص 12.

مجلة «إطلالة جبيلية» عدد: 6، ص 45.

المصدر نفسه، عدد: 5، ص 27 والصفحة الداخلية للغلاف الأخير.

التذكرة أو مذكرات قاضٍ، ج3، ص 503.

مسيرة الإمام السيّد موسى الصدر، ج1، ص 135.

حركة أمل «السيرة والمسيرة»، ج2، ص 20.