العشيرة دولة المجتمع المحلي

11/10/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بيانيّتها، ماهيّتها وتفاعلها

 

بقلم الدكتور عبد الحافظ شمص

 

قد يتردّد أو يرفض، الساحليّ المولد والنشأة، البعيد عن مواطن السكن العشائريّ(القبليّ) قبول البحث أو الخوض في شؤون وشجون وعادات وتقاليد أولئك الّذين اختاروا أماكن سكنهم وإقامتهم، أو هي اختارتهم في الجرود والسهوب والصُّرود العاليّة والنّائيّة من لبنان الشمالي الشرقي والغربي، ممّا يدعو إلى الإستغراب في وقت نجد فيه أن كُتُب التاريخ هي التي تشدّنا أكثر من غيرنا إلى المطالعة والدّرس والبحث والتنقيب، للتوّصل إلى معرفة، ولو شيءٍ يسير من تاريخ حقبات مرَّت وحملت معها أسرارها وقضاياها.. ومحاولة درس وقائعها وأَسرارها وَأَخذْ العبر والدروس من معتنقاتها ومتناقضاتها على صعيد الحياة العامّة والخاصّة والنُّظم الإجتماعيّة والإنسانيّة والسّياسيّة بأبعادها وظروفها، ولسبر أغوارها للتمكّن من فَهْمِ  ماهيتّها، والعمل على تحسين الأداء بكل أدواره ونتاجاته وتداعياته.. ذلك أنّ الماضي الزّاخر بالبطولات وبالقيم، والذي كان فيه يَضْرِبُ السَّيفُ الظُّلْمَ والظالمين، ويعضد الحقُّ المظلومين، ويدفَع الحيفَ والأذى عنهم، هو الذي أضاء الطريق وكرَّس منهاج العمل بحكمةٍ ورويّة  للمستقبل الواعد...

يبقى أن براءة الفرد في مجتمعه البيئوي القبلي هي التي تسود من خلال الإلتزام المطلق بقوانين تضبط حركته وَتُفَعّلها من أجل حياة حرّة وكريمة، بعيداً عن التعصّب والتزمُّت...

من هنا كانت تنطلق حركات تطوّر القبائل، وخصوصاً عندما كانت تُغادر أمكنتها التي وُلدت ونشأت وثبتت على حبّها وتقدير ظروف أهلها من الّذين يمتّون بصلة القرابة والعهود المثبتة لكياناتهم، رغم بعض المراحل التي حملت معها الصراعات الدينيّة والمذهبيّة بين الطوائف والتي كانت تُذكيّها الدّولة العثمانيّة والدُّول الأوروبيّة على السَّواء من أجل تحقيق مصالح كلّ منها، ومن ثمّ اتّسمت أيضاً بالصراعات القبليّة التي كانت تشتد حيناً وتخبو حيناً آخر، طمعاً بتوسيع كلّ مسؤول في عشيرته، أو حاكم، نطاق نفوذه وسيطرته.. ثمّ بالصّراع الطبقي الذي تجلّى بثورات الفلاحين في ما بعد!

العشائريّة، بمفهومها العلمي والإنسانيّ، ليست واقعة تخلّف، كما يرى البعض، تجد في الماضي والقرون المظلمة أَسباب وشروط حياتها ونموّها، بل العكس هو الصّحيح.. إنّها حركة تجدّد وَمُشارَكة فاعلة في تطوير البُنية الإجتماعيّة وحثّها على التقدّم الممنهج في أماكن تواجدها وبسط سيادة حكم القانون العادل في ما بينها واعتماد الخيارات الموحدّة والجامعة التي تقرّب وتجمع وتحمي الممتلكات والموارد وتساوي في ما بين الجميع، بما يتلاءم وينسجم مع المفهوم الإنسانيّ المتميّز.. والعشيرة ليست نتاجاً جاهلياً، بل هي نتاج مرحلة طويلة ومنسجمة مع الواقع البيئوي المُعاش في ايّ بقعة من بقاع الوطن.. وقد انخرطت في البنية الإجتماعيّة الحاليّة للواقع اللبنانيّ، دافعة به إلى أسمى المراتب، سياسياً وأخلاقياً، والتي هي من أهم عناصر شروط ومقومات كلّ كيان...

والّذين يرون أنّ العشائريّة هي تخلّف وتقهقر، ويبرزون آراءهم بِجِديّة وعن قناعة، هم على خطأ كبير...

فهم ينسون أو يتناسون أنّها أخلاق وقيم وعادات وتقاليد، ساهمت في إرساء قواعد الحكم والعدالة الإجتماعيّة ولا يمكن أن يتحلّى بها أو ينسجم معها إلاّ من نَشأَ في كنفها وفهمها على حقيقتها، وساهم في تطوير حركة إنبناء الواقع وبلورته والنّهوض به تمشياً مع المفهوم السياسيّ والحضاريّ، على أساس أنّ الحقَّ لأهل الحقِّ ولا شيء غير ذلك. ووجد نفسه مدفوعاً للبحث عن أسباب ما كان يسمعه أن يُشاهده بغرض ملاحقة السّياق التّاريخي الذي يُخْضِع الفَرَضيّة المطلوبة والمطروحة على شكل تعريف لامتحان القبول أو الرّفض أو التّعديل.. ويرى أنّ الواقع الذي فُرض على ابن العشيرة، يختلف عن واقع غيره من العائلات.. فالعشيرة التي وفدت إلى لبنان إبّان النزوح العشائريّ والقبلي من أنحاء مختلفة، متقاربة ومتباعدة، في الجزيرة العربيّة والكوفة واليمن وحوران وإيران، هرباً من جَوْرٍ أو لحاجة، أو، وهذا هو الأصح، لحماية الثغور الشاميّة العربيّة ومساعدة السكان العرب الأصليّين في تلك الثغور، الّذين كانوا يتعرّضون للهجمات الغريبة المتتاليّة...

العشيرة، واستطرداً، كانت لها حياتها الخاصّة وتقاليدها المتوارثة والمميّزة.. وقد نَمَتْ شروط التشكل العشائري في لبنان، في المرحلة التي كان فيها الأمير المعني فخر الدين حاكماً له حيث كانت للعشيرة ـ وفخر الدين والشهابيون منها ـ المكانة المهمّة والفاعلة في الحياة وفي الوجود السّياسي والتنظيميّ، ممّا جعل لهذا الكيان، الدّور المهمّ في محيطه في مجال التطوّر الإداريّ والإقتصاديّ والصناعيّ والزراعيّ والعلميّ...

وقبل وصول لبنان إلى عهد المتصرفيّة، كانت العشائر في أوج بروزها، تجلّى ذلك بظهور الحلف العشائري الذي ضمّ جميع العشائر والعائلات العريقة وهم:[« المشايخ الحماديون في لبنان من طبقة الأمراء اللمعيين من (بني مذحج) سيوف أهل البيت الّذين نصروا الإمام الحسين وأولاده فسمُّوا أنصاره. وهم من سلالة (هانئ بن عروة) ومنه تحدرت سلائلهم:[« وجاء أيضاً أن العشائر الحماديّة التي نزحت مع زعيمها حمادة هي تسع وعشرون أُسرة: شمص، دندش، شريف، الحاج يوسف، ملحم، زعيتر، ناصر الدين، عوّاد، علوّه، جعفر، المقداد، حجولا، قمهز، خير الدين، النّمر، نون، الحاج حسن، جنبلاط، بلوط، المستراح، الجمل، صفوان، علاّم، شقير، بدير، حيدر أحمد، عمرو، أبو حيدر وهمدر(1)». وّتَوَلّى أحد كبارهم مقاليد السّلطة في مرحلة تُعتبر مُهمّة جداً في حياة الوطن في فترة امتدّت ثلاثة قرون تقريباً إلى أن حصلت هجرة قسم من العشائريين من مناطق تواجدهم وحكمهم في كسروان وبلاد جبيل والبترون وبشري والزّاوية والمنيطرة والضنيّة الخ...!. إلى أماكن أخرى في البقاع وفي دمشق وفي حمص، وفي بيروت وفي مصر وغيرها، وذلك تحت تأثير الحملات العسكرية المتتاليّة التي كانت تستهدف وجودهم الفاعل، من قِبَلِ الحكَّام والولاة والأمراء. وخصوصاً الأمير يوسف الشهابي الذي جرّد عليهم أكثر من حملة عسكريّة وحاربهم. وكانت كلّها وكأنّها إمتداد لحملات المماليك تنفيذاً لفتوى العار التي أفتى بها ابن تيميّة والتي جَرَّت الويل والخراب وقطعت الأعناق والأرزاق في مناطق آهلة بالسّكان الآمنين من المسلمين الشيعة في كسروان وجبل لبنان عام 1305م، ممّا اضطرهم، بعد حروب ومنازعات لاختيار أهون الشرّين. وهو النزوح إلى أماكن أكثر أماناً، والتي عَمّروها في ما بعد. وكانوا أسياد أنفسهم لفترة طويلة، ممّا جعل العشائريّ مشدوداً إلى قريبه وابن جلدته ليشكلَّ معه أحد مكوّنات الشخصيّة التاريخيّة للعشائريين.. وقد ثَبَّت تمايزه باكتساب قوّة نادرة. سمحت له بحماية أرضه الجديدة والذّود عنها. وحماية تاريخه وأحداثه من خطر النّسيان أو التبدّد أو الضياع سيّما وأنَّ حاضره الإجتماعيّ بعد انخراطه الكليّ في الحياة العامّة في مناطق تواجده وفي المدن وفي كلّ مكان، أعطى صورة واضحة وجليّة عن نفسه التوّاقة إلى الأفضل وعن حُسْن جواره.

العشائريون اصليون. وَحدّت ما بينهم أصالة العيش المُشترك حيث لا تفرقة ولا تَمايُز ولا خلاف في الدين والمذهب، ولا تَباعُد.. ديمقراطيّتهم مستمدّة من عناصر توافقهم على أسلوبٍ موحّد، وإيمانهم بوجودهم الحرّ..

إذا تصارعوا فبالفكر والكلمة. يُوحّد بينهم المنطق والحقّ.. كلمة واحدة وموقف واحد في الملمّات والمخاطر.. ولاؤهم يتقدّم على كلّ ولاء، لأرضهم ووطنهم..

هُم روّاد فكر وسياسة ووطنيّة كما كانوا روّاد حضارة وتجارة. وهم بحاجة دائماً إلى ممارسة التقدير والإحترام، كفعلِ وفاءٍ لماضٍ أنتج حاضراً ما برح يعيش في كيانهم ويتجدّد في كنفهم.. قوّة ثابتة مانعة ومُسيطرة في بعض الأحيان.. وفي قناعتهم أنّ الماضي والحاضر بالنسبة إليهم هما ضمير المستقبل في كلّ عَصْرٍ وَمِصْر.

وأخيراً فالعشائري كريم بطبعه معتزّ بكرامته شديد التمسك بمبادئه.. معطاء، عاداته وتقاليده بقيت مثالاً حيّاً لنمط حياة كلّ بقعة من بقاع وطننا الحبيب لبنان.. اشتهر بالعلم والفن والأدب والشعر والصِّحافة.. ورسالته دائماً التواصل مع حضارة الماضي وّتَوْقٌ إلى مستقبل مشرق للوطن..

تلكم هي العشائريّة التي يحاول البعض التعرّض حتى لمبادئها السّاميّة إن بالكتابة أو بالأحاديث والاستهتار بقيمها وعاداتها وتفاعُلها الإجتماعيّ الذي هو شهادة حقّ لحياة أفضل، وَبِنَعْتِها بالرجعيّة.. وهذا حتماً سيكون وبالاً عليهم، إذ يكفي ما تعانيه مناطقهم من حرمان متعمّد من قبل الدولة..

وهذا أيضاً بإذن الله، لن يدوم(2).

راجع تاريخ الأسر الشرقيّة ـ عيسى اسكندر المعلوف، تحرير وإشراف فوّاز طرابلسيّ. ج7، ص 474 ـ 475 بتصرف. منشورات رياض الريس ـ بيروت. ط. الأولى 2009م. مع العلم أنّ عائلات همدر وعمرو وأبي حيدر وقيس ذاتُ جذورٍ عامليّة (اي من جبل عامل). وأمّا آل المستراح فكانوا من حكام بلاد جبيل قبل مجيء آل حمادة وحلفائهم وقد حدث صراع بينهم وبين أولئك المشايخ الجدد من آل حمادة من قبل الأمراء العسَّافيين أدى إلى طردهم من هذه البلاد إلى جزين وإلى البقاع. وبعد طردهم من هذه البلاد تحالفوا مع آل حمادة. وأمّا آل جنبلاط الشيعة فهم من بلدة حجولا الجُبيليّة وقد تركوا حجولا في الحرب العالميّة الأولى أو قبلها بقليل واستوطنوا قرية طورزيا ـ جبيل وبلدتي اللبوة وطاريا في قضاء بعلبك. ويقول طوني مفرّج في كتابه «السلالة الهاشمية في لبنان»: أنّ آل جنبلاط الآنفي الذكر هم فرع من آل هاشم في العاقورة تركوا العاقورة وسكنوا في حجولا لإعتناقهم الإسلام على مذهب أهل البيتR!. 

صديقنا الأستاذ الدكتور عبد الحافظ شمص عضو إتحاد الكتّاب اللبنانيين تكلّم عن الإيجابيات التي امتاز بها إبن العشيرة الحماديّة في التاريخ اللبنانيّ ـ وفي هذا العدد الذي تكلّمنا به عن ذكريات العلاّمة المجتهد الشيخ إبراهيم سليمان(قده)، عن علمات وبلاد جبيل عام 1946م. هو شاهد صدق على كلامه(حفظه الله تعالى). كما أنّ ما تكلّمت عنه مجلة «إطلالة جُبيليّة» في العدد الرابع في ملحقها عن الرئيس أديب علاّم الصادر في تموز 2011م. وعن المرحوم الشيخ خليل حسين في الصفحة 5 من العدد الآنف الذكر ونيله وساماً من الحبر الأعظم من الفاتيكان رقم 22 في عام 1958م. لمنعه الفتنة ووقوع المجازر والمذابح بحقِّ المسيحيين في طرابلس وشمال لبنان. كما أنّ ما تكلّمت به مجلة « إطلالة جُبيليّة» في عددها السابع الصادر في 15 أيار 2012م. عن المرحوم الحاج عوض المقداد رمز الوحدة الوطنيّة في البقاع هو شاهد صدق آخر على كلامه. وأمّا السلبيات الموجودة عند إبن العشيرة أو العشائر الآنفة الذكر فهو نتيجة الحرمان والفقر والجهل الذي عاشته هذه العشائر أيام العثمانيين والإفرنسيين وأيام الإستقلال. ولا زالت قرى هذه العشائر في أيامنا هذه في وسط بلاد جبيل وجرودها وفي البقاع الشمالي والأوسط محرومة من البنى التحتيّة ومن مقومات الحياة الحديثة.