مع الإرشاد الرسولي للكنيسة في الشرق الأوسط

18/1/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

لقاء الأديان والعيش المشترك

القاضي الدكتور الشيخ يوسف محمد عمرو(1)

سوف نقتصر في هذه العجالة على الكلام حول المادة التاسعة عشرة من الإرشاد الرسوليّ للكنيسة في الشرق الأوسط تحت عنوان:

(شركة وشهادة) الصادر عن قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر في حاضرة الفاتيكان في هذا العام والتي تقول:

الحوار بين الأديان

19ـ إنَّ طبيعة الكنيسة ودعوتها الكونيّة تتطلبّان منها إقامة حوار مع أعضاء الدّيانات الأخرى. وهذا الحوار يرتكز في الشرق الأوسط إلى علاقات روحيّة وتاريخيّة تجمع المسيحيّين مع اليهود والمسلمين.

هذا الحوار، الذي لا تفرضه بالأساس إعتبارات براغماتيَّة ذات طابع سياسيّ أو إجتماعيّ بل يستند، قبل كل شيء، إلى أُسس لاهوتيّة مرتبطة بالإيمان. تلك الأُسسُ التي تجد مصدرها في الكتاب المُقدس، ويحدّدها بوضوح دستور الكنيسة العقائديّ نور الأمم والإعلان بشأن علاقات الكنيسة مع الدّيانات غير المسيحيّة، في عصرنا. فاليهود والمسيحيون والمسلمون يؤمنون بإله واحد، خالق البشر فليُعد اليهود والمسيحيون والمسلمون إكتشاف إحدى الرّغبات الإلهيّة، أي الرّغبة في وحدة العائلة البشريّة وتناغمها. وليكتشف اليهودُ والمسيحيّون والمسلمون في المؤمن الآخر أخاً يُحترم ويحبّ كي يقدّموا، كلٌّ على أرضيّته أولاً، شهادة جميلة للصفاء والمودّة بين أبناء إبراهيم. ولتكن معرفة إله واحد بالنسبة إلى المؤمن الحقيقي ـ إذا تمَّ عيشها بقلب طاهر ـ دافعاً قوياً للسّلام في المنطقة وللتعايش المشترك، القائم على الإحترام بين أبنائها، وليس أداة تستغلُّ في إشعال الصراعات المتكرّرة، وغير المبرَّرة»(2)].

فإنَّ هذا لعمري مُؤيَّدٌ من القرآن الكريم بآيات كثيرة منها:

قوله تعالى:}قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ{ آل عمران، آية:84.

وقوله تعالى: }إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ{ آل عمران، آية: 68.

وقوله تعالى: }قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ...{ آل عمران، آية:64.

وقوله تعالى: }لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ{ المائدة، 82.

وقوله تعالى: }لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ{ البقرة، آية: 256.

غير أنّ ما جاء في الفقرات الأخيرة من هذه المادة الآنفة الذكر من الدعوة للتعايش والمحبة والصفاء ما بين أبناء إبراهيم وأن هذه الدعوة ليست أداةً تُستَغلُ في إشعال الصراعات المتكررة، وغير المبرّرة. فيه نظر وتأمل وعليه ملاحظات كثيرة!!. إذ أنّ هذا الكلام الجميل كان واقعاً تاريخياً موجوداً في تاريخ الشرق الأوسط طيلة ثلاثة عشر قرناً حيث نبغ من المسيحيين واليهود المئات من القادة والوزراء والفلاسفة والأدباء والشعراء في مُختلف العلوم والفنون. حيث كانوا موضع إحترام وتقدير الدول والشعوب الإسلاميّة. والأدلة والشواهد على هذا الكلام كثيرة وأهمها كتب التراجم التي تؤرخ للأعلام والأعيان في هذا الشرق.

نعم كان ذلك قبل صدور وعد اللورد آرثر جيمس بلفور وزير الخارجيّة البريطانيّ في الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) 1917م. والذي بموجبه منح لليهود في جميع بلاد العالم وطناً قومياً في فلسطين على حساب شعبها العربيّ من مسلمين ومسيحيين دون معرفتهم أو إستشارتهم وخلافاً لتاريخ هذه المنطقة وواقعها وللمبادئ والقوانين والأعراف الدينيّة والأخلاقيّة والدوليّة.

وقد تكلّمت عن ذلك الجمعيّة الإسلاميّة المسيحيّة في عريضتها الموجهة إلى مؤتمر السلم العالميّ المُنعقد بعد الحرب العالميّة الأولى. وعن رفض الفلسطينيين من مسلمين ومسيحيين للوطن القومي اليهودي في 3/3/1919م.(3).

وفي هذه العُجالة لو أَردنا الحديث عن مؤامرة الدولة اليهوديّة في فلسطين على المسيحيين فيها وتهجيرهم من أرضهم ومصادرة أراضيهم وأراضي كنائسهم وأوقافهم وتهجيرهم من فلسطين وطردهم منها منذ عام 1948م. ولغاية تاريخه دون الحديث عن المجازر والمصائب التي افتعلتها بهم وبإخوانهم من المسلمين في فلسطين ولبنان وسوريا والأردن ومصر، لكفى دليلاً على ما نقول، وسوف نتكلم عن بعض ما جاء في مُلحق صحيفة «السفير» البيروتيّة الصادر في 15 تشرين أوّل 2011م. حيث جاء به ما يلي:[« ارتبط نزيف الهجرة المسيحيّة من فلسطين المحتلة بمفاعيل المشروع الصهيونيّ منذ نفاذه قبل عام 1948م. حتى اليوم، فقد تسبّبت «نكبة» 1948م. في لجوء نحو 50 ـ 60 ألفاً من المسيحيين من بين 90 ألف لاجئ فلسطينيّ من مدنهم وقراهم إلى الأراضي والدول المجاورة. بينما أسفر العدوان الصهيونيّ عام 1967م. عن تهجير وتشريد قرابة نصف مليون لاجئ فلسطيني من أراضيهم وديارهم إلى المناطق المجاورة، منهم أكثر من 200 ألف نزحوا مجدداً كلاجئين، كان من بينهم زهاء أحد عشر ألف مواطن مسيحي. وقد استمرت «موجات» الهجرة المسيحية في الأعوام التي تلت إحتلال الضفة الغربيّة وقطاع غزّة عام 1967م. وتلك التي أعقبت عام 1973 في ظل سياسة الإحتلال العدوانيّة من مصادرة الأراضي وهدم المنازل وأعمال القمع والقتل والتنكيل والتدمير الممنهج للحياة الإقتصاديّة وانسداد الأفق».

لم تَنجُ المُقدَّسات المسيحية من إنتهاكات الإحتلال ضمن تدمير ممنهج للمؤسسات الدينيّة المسيحية في فلسطين منذ عام 1948م. ولغاية تاريخه من خلال هدم عشرات الكنائس في زهاء 531 قرية ومدينة فلسطينيّة دمرها الإحتلال آنذاك. والإستيلاء على الأديرة (مثل دير الآباء البنديكيت في القدس)، وقصف دير الأرمن الأرثوذكس وقتل ثمانية من الرهبان وإصابة 120 شخصاً آخرين. وهدم كنيسة القديسة بيلاجيه في القدس عام 1992م. ومصادرة العديد من الكنائس والأراضي التابعة لها وسرقة محتويات أخرى. وحرق بعضها (كالكنيسة المعمدانيّة عام 1982م. وكنيسة الجثمانيّة في القدس عام 1995م.)، وغيرها من كنائس وأديرة واعتبار ذلك أمثلة، كانت السبب في انخفاض عدد هذه الصروح الدينيّة إلى النصف تقريباً. فبينما كان في فلسطين عام 1922م. زهاء 196 ديراً وكنيسة لم يبق منها في منتصف التسعينيات إلاّ 48 كنيسة و47 ديراً».

ويقول المطران عطا الله حنّا مُعلّقاً على جميع المصائب والكوارث التي حلّت بالمسيحيين في فلسطين بشكل خاص وبالشرق الأوسط بشكل عام من خلال المخطط الإسرائيليّ للشرق الأوسط:» إنَّ «إختفاء المسيحيين من فلسطين المحتلة والشرق عموماً، يُلّبي مصلحة إسرائيليّة بامتياز ذلك» لأنّ الإحتلال الصهيونيّ يريد إظهار فلسطين وكأنّها لون واحد لمجموعة واحدة، وهي ليست كذلك، كما يبدي إنزعاجاً من البعد المسيحيّ المهم للقضيّة الفلسطينيّة. حيث لا يريد أيّ مسيحيّ ينادي بعروبة فلسطين»(4)].

وأمّا الحديث عن المدن والقرى المسيحيّة في فلسطين فإنّه حديث يحزن قلب كل لبنانيِّ وعربيِّ ولنتكلّم عن قرية «كفربرعم» كمثال عن ذلك وهي القرية المارونيّة الوحيدة في فلسطين:[« حيث جاء أمر إخلاء هذه القرية مُفاجئاً للأهالي في عام 1948م. حيث أمروا بإخلائها والهجرة إلى قرية رميش والقرى المارونيّة المجاورة لها في جنوب لبنان. وبعد نحو خمس سنوات على التهجير أي في 16/7/1953م. قصف سلاح الجو الإسرائيليّ بيوت كفربرعم وجميع مبانيها بإستثناء الكنيسة والمدرسة. وقد تمّت عملية القصف هذه أمام أعين السكان الّذين وقفوا على تلة تبعد نحو كيلو مترين وتسمى «مبكى البراعمة». وقد جاء تدمير قرية كفربرعم بعد نحو سنتين على تدمير قرية إقرث المجاورة لها في كانون الأوّل 1951م. لمنع اللاجئين المسيحيين من العودة إلى قراهم(5)».

ومثال آخر عن ذلك أيضاً مدينة بيت لحم المُقدّسة حيث كانت بيت لحم مدينة مسيحيّة 100٪ ونتيجة للسياسة الإسرائيليّة ومصادرة 11 دونماً من الأراضي المشجرة بالزيتون في بيت جالا وحدها لإقامة مستعمرة «غيلو» وغير ذلك من سياسات كانت السبب في جعل المسيحيين أَقليّة في مدينتهم التاريخيّة تماماً كما حدث مع اخوانهم في مدينة الناصرة في منطقة الجليل من قبل(6)».

خلاصة الكلام

وخلاصة الكلام حول الفقرة التاسعة عشرة من الإرشاد الرسولي وغيرها من فقرات دعت إلى الوحدة والسلام والوئام في الشرق الأوسط ما بين أبناء إبراهيمQ، هو كلام نابع من تعاليم الإنجيل والقرآن الكريم. وقد مارسته شعوب الشرق الأوسط وطبّقته على أرض الواقع خلال أكثر من ثلاثة عشر قرناً وذلك قبل صدور وعد وزير الخارجيّة البريطانيّ اللورد بلفور في: 2/11/1917م. وبعد هذا التاريخ وفي ظل الإنتداب البريطانيّ لفلسطين واستيلاء الصهاينة على القسم الأكبر من فلسطين عام 1948م. وعلى كامل التراب الفلسطينيّ عام 1967 حدث إنتهاك في كل يوم وفي كل ساعة لحقوق الإنسان المسلم والمسيحيّ في فلسطين واعتداء على حقوقه الإنسانيّة وفي العيش الكريم فوق تراب وطنه.

والمطلوب هو قيام رجال الكنائس الكاثوليكيّة في الشرق الأوسط بعرض هذه الحقائق أمام حاضرة الفاتيكان دون زيادة أو نقصان. والطلب إلى حاضرة الفاتيكان أن ترفع الصوت عالياً في المحافل والمنظمات الدوليّة داعيةً إلى إرجاع الحقوق إلى أصحابها الشرعيين. وغير ذلك من حقوق نصّت عليها القوانين والأنظمة الدوليّة.

لأننا كمسلمين ومسيحييّن في لبنان نؤمن بقول العلاّمة الشيخ خليل ياسين قاضي جبيل الشرعيّ الجعفريّ السابق بأبياتٍ أنشدها عام 1963م. وهي:

ما يَسوعٌ سوى الحَنانِ تجلّى

في سَمـاءِ الوجودِ مِنهُ الضياءُ

مــا حَبيبُ الإله أحمدُ إلاّ

رَحمةٌ عُطِرَّتْ بهـا الأَرجـاءُ

فَهُمــا واحد بِغُرِّ المعاني

عَمَّت الكونَ منهمـا الأضواءُ

وإذا بان في الجِدال افتراقٌ

فَهْوَ في نَظرةِ الصَوابِ افتراءُ

مـا دعا الدينُّ للتفرُّقِ لكن

فَرقت بيننــــا بهِ الأهواءُ

إنما الدِينُ في الكنيسة حُبٌ

وَهْوَ في جَامعِ الصلاة إِخاءُ(7).