رحيل البطريرك هزيم.. ما أحوجنا إلى القامات الحواريَّة!

18/1/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

العلاّمة السيّد علي فضل الله

برحيل بطريرك إنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، أغناطيوس الرابع هزيم، تكون صفحة أخرى من صفحات لبنان وسوريا والمنطقة قد انطوت، هي صفحة الكبار على المستوى الديني العام، أولئك الَّذين لم ينظروا إلى الدين كأنه شيء معلّق في الهواء، ولكنَّهم انطلقوا به إلى كلّ الميادين الَّتي تحتضن الإنسان، وكلّ الساحات الَّتي ترتفع فيها أصوات المعذّبين والمتألمين والمستضعفين من بني الإنسان.

وعندما تكون آلام الإنسان ومآسيه وعذاباته المنطلقَ الَّذي يدفع برجل الدّين أو صاحب الموقع الديني البارز إلى الاندفاع للتّخفيف عنه والاقتراب منه للتفاعل مع مشاكله وأزماته، عندها يمكن للمحبَّة أن تصبح منهجاً وخطاً، وأن تتحوّل إلى حركةٍ تسمو على العناوين الطائفيَّة أو المذهبيَّة أو الدينيَّة والقوميَّة وما إلى ذلك.

هكذا فهم البطريرك هزيم الدين، وهكذا تقدّم بمسيحيَّته للدّفاع عن المسلمين أو عن المظلومين منهم، ولم ير في ذلك إساءة إلى المسيحيَّة، بل رأى فيه انتصاراً للمسيحيَّة الحقّة الَّتي أرادت للمحبّة أن تتجسّد عملاً وحركةً ونتاجاً في الحياة كلّها.

وعلى هذه القاعدة، اقترب البطريرك هزيم من فلسطين، من قضيتها وشعبها وقدسها، لا بصفتها موقعاً من مواقع المسيحيَّة ومهد السيّد المسيح(ع) فحسب، بل لكونها القضيَّة الأنصع، والموقع الأبرز الَّذي تظهر فيه المظلوميَّة بكل تجلياتها، أمام الظالم الأكبر الّذي تجمّعت فيه كلّ عناصر الظلم والهمجيّة والوحشيّة، والتي تحظى بالتغطية المستمرة من المحاور الدوليَّة الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي، ولذلك وقف بكلّ قوّة ليقول: «يجب ألا نترك الإسرائيليين يرتاحون في شبر من أرضنا، المسيح فلسطيني من بيت لحم.. المسيح ليس ابن إسرائيل العدوان».

ولعلّ اللقاء الَّذي جمع البطريرك هزيم والسَّفير البابوي في دمشق، ومبعوث البابا يوحنا بولس الثاني للحوار بين الأديان، الكاردينال فرانسوا أرينـزي، والعلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، إضافةً إلى عددٍ من رجال الدين المسلمين والمسيحيين في الشام، في العام 1994، والذي كان لقاءً حوارياً قلَّ نظيره في تلك الأيام، أدار فيه البطريرك هزيم الحوار، كما كان المترجم بين السيد فضل الله والكاردينال أرينزي، لعل هذا الحوار قد أطلَّ بطريقةٍ وأخرى على شخصيَّة البطريرك هزيم، حين وقف إلى جانب المرجع فضل الله ضد الكاردينال أرينزي، «كان البطريرك هزيم يتعاطف مع طرحي، ولم ينطلق من عقدة كاثوليكيَّة ضد الأرثوذكس، لأنَّه لا يمكن أن يكون الإسلام أقرب إلى الأرثوذكس، لأنه كان ينطلق من صفاء..»، كما قال المرجع فضل الله في مقابلة له مع صحيفة «الديار» 5/8/1994.

في تلك الجلسة، سأل السيّد فضل الله الكاردينال أرينزي: لو جاء السيد المسيح في هذه الأيام، مع من سيكون؟ مع الشعب الفلسطيني المظلوم أو مع إسرائيل؟ فأجاب أرينزي: إسرائيل باتت أمراً واقعاً، فأجابه السيد فضل الله: والشيطان أمرٌ واقع، فهل نخضع لأوامره ونواهيه؟! وهنا تدخّل البطريرك هزيم متبنيّاً رأي السيد فضل الله، داعياً إلى موقف مسيحي وإسلامي موحَّد ضد الظلم الإسرائيلي.

هذا الموقف لم يكن ببعيد عن المواقف الأخرى للبطريرك هزيم، وخصوصاً في ما يتَّصل بالحوار الإسلامي المسيحي، وبدعوته المسيحيين من قلب كنيسة في الشام للتعرف إلى شخصيَّة السيد المسيح(ع)، أو نظرة الإسلام إليه وإلى أمه العذراء مريم، من خلال الاطلاع على إحدى خطب الجمعة للسيد فضل الله، وحديثه في العظة التي ألقاها خلال القداس الذي ترأسه في 1/1/1993 في الكاتدرائية المريميَّة في دمشق، عن دعوة سماحة السيد فضل الله إلى الحوار، والَّتي كان قد أطلقها عبر صحيفة «النهار» بتاريخ 15/12/1992.

قال غبطته في العظة: «.. أطلق العلامة محمَّد حسين فضل الله نداءً يدعو فيه المسلمين والمسيحيين إلى محاولة الحوار، لأنَّه كما يقول العلامة الفاضل: بالحوار تولد المحبَّة والتعاون والكلمة السواء، وحسناً فعل في إطلاق ندائه المبارك صبيحة التعييد للميلاد الشّريف، والحقيقة أنَّ الميلاد بالذات لقاء حواري بين الخالق والمخلوق من جهة، وبين المخلوق وأخيه المخلوق من جهة ثانية.. وخيرُ تعبير عن الحوار اللقاء.. ويا ليت المؤمنين من شعبنا يقرأون ما يقوله القرآن الكريم في المسيح مما لم يقله القرآن الكريم في أحد سواه، لئلا نحيا على توهّم ومجرّد ظنّ بأخوةٍ مؤمنين، وإنّ بعض الظن إثم، وهنا أذكر قول أخي العلامة الشّيخ محمّد حسين فضل الله: علينا أن نعمّم الحوار، لا في منطقتنا فقط، وإنما في العالم الثالث برمّته، لئلا يتعقّد المسيحيون من خلال أوهام من المسلمين، ولئلا يتعقّد المسلمون من خلال أوهام من المسيحيّين».

وكما أنَّ هذه الكلمات تدل على سعة صدر البطريرك هزيم، فهي تؤشّر إلى مساحات الحوار الَّتي نفتقد إلى الكثير منها في هذه المراحل بالذات، ووسط كلّ هذا الضجيج الَّذي كفّ فيه الواحدُ منا عن الاستماع إلى الآخر، فضلاً عن الحوار معه، وفي هذا الخضمّ الَّذي يتقوقع فيه أصحاب هذا الدين أو ذاك، وأتباع هذا المذهب أو ذاك، حيث اختنق الدين في حركات الكثير من المتدينين، فصادره المتعصّبون، وعمل على اختزاله المتزمّتون والإقصائيون والمتحجّرون..

في هذه المرحلة بالذات، التي تعيش فيها منطقتنا وبلداننا ـ وخصوصاً سوريا ولبنان ـ في قلب الأزمات وعين العاصفة، نحن بأمسّ الحاجة إلى القامات الكبيرة، وإلى العقول الراجحة والقلوب الصافية الَّتي كان البطريرك هزيم يمثّل نموذجاً رائداً من نماذجها، في دعواته المستمرة إلى الحوار، ومواقفه الداعية إلى التواصل والانفتاح، وإصراره على نبذ الخلافات ومعالجتها بروح المحبَّة والسَّماح.

إنّنا نتطلَّع إلى المستقبل، لتنتج الكنيسة والمسجد شخصيّات مبدعة في المجالات العلميَّة والثقافيَّة والفكريَّة والروحيَّة، ولكي لا نعيش في دائرة الفراغ المفتوحة على المجهول فقط، في زمن ترحل فيه الشخصيّات التاريخيّة السياسيّة والدينيّة، ويندر أن تجود المراحل بأمثالهم.