اطلالة على تطور الأدب الأمريكي

18/1/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

حينما أتأمل حظي في هذه الحياة أخرج بنتيجة أنني منحوس، عدا أنني حظيت بمعلمين جيدين وعلى رأسهم الأستاذ حسن المحري الذي شجعنا منذ الصف الخامس الابتدائي على القراءة، وكذا الدكتور جليل العريض الذي درسنا في المرحلة الثانوية وحثنا على القراءة وقال لنا أنه كان ينفق 75% من مصروفه، حينما كان طالبا ً في الجامعة الأمريكية في بيروت، على شراء الكتب، وكذا الأستاذ صلاح أبو سيف، الذي ترأس الجمعية الأدبية في مدرسة المنامة الثانوية، وحفزنا على النظم وكتابة القصيدة والمقالة والقصة والنقد.

هذه المحاولات من قبل الأساتذة الكرام أتت أُكلها مبكرا ً فقد انخرط معظم الطلبة في جمعيات تعاونية لشراء الكتب والمجلات وتبادلها. ولقد مكننا ذلك من الاطلاع على نفائس الأدب العالمي ومن ضمنها الأدب الأمريكي. فمع حداثة سننا تعرفنا على الرعيل الأول من أدباء أميركا أمثال أرنست همنجواي وجون شتاينبك ومارغريت ميشيل ريتز وجاك لندن وهاريت بيشر ستوي والبير كامو والشاعر إدجار ألن بو والعديد غيرهم الذين أتحفوا المكتبة الأمريكية بمئات من الروايات الخالدة مثل «أفول القمر» و «الموت في الظهيرة» و «وداعا للسلاح»، و «لمن تقرع الأجراس» و«الشيخ والبحر» و«كوخ العم توم» و«ذهب مع الريح» و «العقب الحديدية» و«الخيانة العظمى» وغيرها وغيرها.

ولا زلت أتذكر أنني قرأت كتابا ً عن حرب التحرير الأمريكية، ربما كان اسمه صيحات الحرية، لا أتذكر اسمه الآن، ولقد جاء فيه أن مواطناً أمريكيا بسيطا ً جاء للزعيم جورج واشنطن وهو في المعسكر، سائلاً إياه، «ما هذه الحرية التي تريدنا أن نموت دونها؟» فرد عليه الزعيم، «هي أن تطلع رأس هذا الجبل وتصرخ بأعلى صوتك ثلاث مرات قائلا ً أنا أمريكا وأمريكا أنا، فإذا لم تخمد صوتك المدافع البريطانية فأنت حرّ!» ... نعم كان هذا يوم كانت أمريكا مستعمرة تناضل كغيرها من أجل الحرية. أتمنّى لو يقرأ زعماء أمريكا هذا الكلام ويعملون لترك مستضعفي هذا العالم وحالهم. وكذا قرأت «كوخ العم توم» لهارييت بيشر ستاو، وهو من روائع الأدب العالمي التي عالجت مأساة الرقيق، وهو من الكتب الفائزة بجائزة نوبل، ولا أخفي عليكم أنني بكيت تأثرا ً حينما قال العم توم محدثا ً نفسه، وهو يرفل في الأغلال ويساق إلى سوق النخاسة، «إيه يا توم لقد باعوا زوجتك وأولادك، وهم الآن يسوقونك للبيع... وماذا بعد ذلك يا توم؟». وفي مجال حرب تحرير الرقيق كتبت أيضا ً مارغريت ميشيل ريتز روايتها الشهيرة «ذهب مع الريح»، وهي من الروايات الفائزة بجائزة نوبل. حقا ً لقد حررت أمريكا العبيد من مواطنيها الذين ساقتهم قسرا ً من غابات أفريقيا ليعملوا بالسخرة في حقولها، ولكنها اليوم تستعبد أحرار العالم.

وبجانب أدبيات التحرير وتحرير الرقيق يأتي كتاب البير كامو الشهير «الخيانة العظمى»، وهو من عدة أجزاء... وهو لا يدخل في نطاق الأدب، ولكنه بحث سياسي عميق يسلط الضوء على مرحلة المكارثية، وهي الفترة التي أصبح فيها مكارثي الحاكم بأمره في هذه البلاد التي كانت قبل هذه الفترة رمزا ً للحرية. ويسلط البير كامو الضوء على الممارسات اللاقانونية في هذه الفترة، في عمل مدعم بالوقائع والمستندات. وفي اعتقادي أن ممارسات أمريكا الآن ما هي إلا امتداد للمرحلة المكارثية.

هذا ولئن كان كتاب «الخيانة العظمى» هو سفر سياسي، فإن جاك لندن قد صاغ كتاب «العقب الحديدية» ليعبر عن الجشع والممارسات اللا أخلاقية لطبقة رجال الأعمال في الولايات المتحدة ومهادنة الكنيسة لها، التي دائماً ما توصي ان تدير خدك الأيمن لمن يصفعك على خدك الأيسر. وما يجري اليوم تحت شعار أمريكا بلاد الفرص، ما هو إلا امتدادٌ لذلك. وتحت هذا الشعار يحل لك ممارسة كل شيء تقريباً.

في اعتقادي أن الحرب الأهلية الأمريكية الطاحنة، التي دارت بين الشمال والجنوب، ما هي إلا حرب بين البرجوازية الصاعدة في الشمال، والإقطاع المحافظ في الجنوب. ولا يَنبريَّنَ أحدٌ ليقول: «إذا كان ما تقول صحيحاً، فلماذا لم يقم الشمال المنتصر بإصلاح زراعي، يتم فيه تأميم الأرض وتوزيعها على أقنان الأرض؟» والجواب على ذلك هو أن تحرير الإنسان من الرق هو خطوة أكثر ثورية من مصادرة الأرض وتوزيعها على الأقنان. هذا طبعا ً من وجهة نظر الشمال، وهي صحيحة لسببين: أولاً فإن تحرير العبيد قد حرم الإقطاع من يد عاملة مجانية، كانت تستخدم في الأرض كما البهائم. وبالتالي فإن الاستعاضة عن العبيد ليس بتوظيف البيض في الأرض، ولكن بإدخال المكننة بدلاً من الإنسان مما يؤدي إلى زيادة الإنتاج من جهة، وإيجاد سوق لإنتاج الشمال الصناعي من جهة أخرى. أما المُحرَّرون فلقد كانت الوظائف في مصانع الشمال بانتظارهم. إذاً كان هناك تغيير جذري في نمط الإنتاج. وذلك تغيير اقتصادي أكثر مما هو تغيير مقصود في النمط الإنساني، ولذا فإن الممارسات التمييزية ضد السود لم تنقطع سواء في الجنوب أو الشمال، والأمثلة على ذلك كثيرة، كحرمان أبناء السود من الدراسة في مدارس البيض، وعدم السماح للسود من ارتياد مطاعم البيض وأماكنهم وغيرها.

هذا وفي الفترة المكارثية خاصة فقد انتشرت عصابات إبادة السود وتخريب عيشتهم كعصابة كوكلكس كلان وغيرها التي زاولت نشاطها تحت سمع وبصر القانون. وخير مثال على ذلك قيامها باغتيال داعية حقوق الإنسان القس الأسود مارتن لوثر كنج.

ومع نهاية الحرب العالمية الثانية فقد خرجت الولايات المتحدة منتصرة. ولقد مكنت لها عدة عوامل لتفرض نفسها زعيمة للعالم، منها كبر حجمها، ومديونية أوروبا الغربية لها، بسبب القروض التي قدمتها لأوروبا عن طريق مشروع مارشال، وقيام الأمم المتحدة في أراضيها وغيرها. ومارست أمريكا التدخل في الصين وكوريا وفيتنام وغيرها من دول العالم التي أبت السير في ركابها، إما مباشرة أو عن طريق الموالين لها أمثال باتستا في كوبا. وهذا التدخل لإسقاط الأنظمة المعادية لها كان بذريعة الدفاع عن الديمقراطية والحرية. ولكن الممارسات التمييزية التي تتم ضد السود في أمريكا نفسها قد خلق لها إشكالية لم يكن بالإمكان نفيها. ولذا كان لا بد من النضال لمحو وصمة العار هذه.

وفي النصف الثاني من القرن الماضي ظهر جليا ً تأثير اللوبي الصهيوني وتمّت السيطرة على الرأي العام ليس في أمريكا فقط ولكن في العالم أجمع، بما في ذلك الاتحاد السوفييتي، وذلك عن طريق شراء دور النشر والإعلام الأمريكية، التي أصبحت ملكا ً للصهيونية العالمية وعلى رأسها روبرت مردوخ، ملياردير الصحف. وفي الستينيات قامت الصهيونية بتوظيف المافيا لاغتيال الرئيس الأمريكي جون كنيدي، الذي حاول جاداً حل المشكلة الفلسطينية بشكل بعيد عن تأثير ورضا الصهيونية. ومع نهاية رئاسة جيمي كارتر أصبح رؤساء أمريكا، وخاصة ليندون جونسون منحازين بشكل واضح للوبي الصهيوني. ولكي لا يقتصر تجيير النظام الأمريكي لوحده لصالح إسرائيل، فقد تم التخطيط والتنفيذ لممارسة غسيل دماغ للرأي العام الأمريكي والغربي. هذا الغسيل هو عبارة عن إظهار إسرائيل على أنها الحمل الوديع الذي يهدده الإرهاب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ابتداع صرعات لملء الفراغ الفكري لدى الرأي العام، خاصة وأن إظهار إسرائيل على أنها الحمل الوديع، باتت دعوة باطلة نظرا ً لما تقوم الفضائيات من بث للممارسات القمعية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. ومن الصرعات التي سيطرت على الشباب خلال الثلاثة عقود الماضية ما يسمى بموسيقى الروك وأدب اللامعقول والفن التشكيلي المغرق في الرمزية.

وفي أواخر الستينيات وبعد حسم مسألة السود خرج علينا كاتب أسود برواية حاز عليها جائزة نوبل، هي رواية «الجذور» للكاتب اليكس هكسلي، ولقد بيع منها ملايين النسخ وتم تحويلها إلى فيلم. وفي اعتقادي أن هذه الرواية كانت تستحق كل هذا التقدير لو أنها جاءت مواكبة لرواية «كوخ العم توم»، أما أن تأتي في نهاية الستينيات، فهي تشبه أن يقدم لك أحدهم طبقاً شهياً جدا ً يعد أن تكون قد تناولت وجبتك بما فيه الكفاية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن ما كتبه اليكس هكسلي هو مجرد عمل توثيقي يبدأ من اختطاف جده السابع من قرية غانية تقع على مشارف الغابة والمؤذن يرفع عقيرته بالأذان قائلا ً «الله أكبرُ» وكان جده صبيا ً، تم وصمه وإيداعه أسفل سفينة القراصنة، ووصل إلى أمريكا مكبلا ً بالأصفاد وابتيع في سوق النخاسة ليعمل في حقول الأرز بالجنوب. إذا ً فإن هذا العمل هو عمل توثيقي في شكل روائي.

والأسوأ من ذلك أنه على الرغم من احتقار وكراهية اليهود والصهيونية للسود، وتحالفها مع نظام الأباراثيد في جنوب أفريقيا، متحدية بذلك قرارات الأمم المتحدة بمقاطعته، فإن الصهيونية العالمية أشاعت ولا تزال تشيع بأن كلا ً من السود واليهود هما ضحيتا العنصرية. ولا يقتصر تمرير هذه الكذبة على الرأي العام الأمريكي والأوروبي والعالمي فقط، ولكن الأخطر من ذلك أنها أصبحت تمرر كجزء من المناهج الدراسية منذ المرحلة الابتدائية. خذ على سبيل المثال رواية «قتل الطائر الساخر» تأليف هابر لي. وهي رواية تحكي إلصاق جريمة اغتصاب امرأة بيضاء ظلما ً بمواطن من السود وذلك للتستر على عشيقها الأبيض. في هذه الرواية يجري التطرق إلى أن اليهود أيضا ً يتعرضون لمثل هذه الجرائم، وهم يعانون من العرب في إسرائيل. فإذا أضفنا إلى ذلك الطريقة التي تدرس من خلالها الحروب الصليبية فإن محصلة ذلك غسل دماغ كامل وإعداد الشباب الأمريكي والأوروبي ضد العرب.

وفي العقد الأول من الألفية الجديدة وحتى اليوم فإن الإعلام الأمريكي بات يلفظ أو قل يتقيأ كتبا ً رخيصة المحتوى وليس الثمن أمثال: أسفار مع شارلي Travels With Charley، ومارلي وأنا Marley & Me من تأليف جون غروغان. ولعلمك عزيزي القارئ فإن كلا من شارلي ومارلي ما هما إلا اسمان لكلب وكلبة الكاتب، ولقد قام جنيفر آنستون بإخراجه فيلما ً سينمائيا ً. وفي هذا الصدد يقول ديك دوناهيو المحرر الأول في Publisher Weekly: « لم تنل كتب الكلاب الحظوة بأن تكون على قائمة الكتب الأكثر مبيعا ً على النطاق الوطني، ولكن الفضل في إدراك ذلك يعود إلى مارلي!». هذا ولقد تم بيع 6 ملايين نسخة منه. ويقول غروغان:» لقد مكّنتني إيرادات الكتاب من شراء بيتٍ ريفيٍ في بنسلفانيا تبلغ مساحته 18 فداناً.»ً

أما كتاب «ما الفرق الذي يمكن أن يصنعه الكلب؟» تأليف دانا جننجز فهو يروي دروساً كبيرة عن الحياة والحب والتعافي يمكن تعلمها من جروة صغيرة. ويعتبر الكتاب الأكثر مبيعا ً هذا العام. كما سجل كتاب» «غرض الكلب» تأليف بروس كاميرون الأكثر مبيعا ً لمدة 12 اسبوعا ً حسب قائمة «نيويورك تايمز». والجدير بالذكر أن Dream Works قامت بتحويله إلى فيلم. أما كتاب «لقد أخذتني إلى ووف: لقد علمتني الكلاب أسرار السعادة» تأليف جولي كلام فقد صنف على أنه الكتاب الأكثر مبيعاًً.

ولم يقتصر تأليف كتب الكلاب على الكبار فلقد كتبت مؤلفات لا تحصى للصغار أعطيت اسم Doggie Children Books، وهي ما شاء الله لم تترك شأنا ً يتعلق بالكلاب إلا وكتبت عنه، بدءا ً بكتب تدريب الكلاب، مرورا بتنشئة الكلاب وإعداد وجباتهم، وتحضير حفّاضات الكلب المدلل. وانتهاء ً بعلم نفس الكلاب... ما شاء الله، الله يوعدنا!

يقول جوفري كلوسك صاحب دار نشر Publishers Reverhead Books& VP:«أعتقد أن الكلاب قد استحوذت في حياتنا على المسار الذي كان تستحوذ عليه فلذات الأكباد منذ 20 سنة مضت، يوم كنا منغمسين جدا ً في حياة صغارنا. إنني أشعر بأن ذلك ما يشبه الآن تعلقنا بالكلاب

وتقول سوزان كنفان المحرر التنفيذي لمؤسسة هوجتون مافلين هاركورت، والتي قامت هذا العام بنشر كتابين عن الكلاب:» لقد قَدِم الناس من عمل الغابة مصطحبين معهم قصص كلابهم. ذلك ما جعل كلاً من المؤلفين والكتاب والناشرين يؤمنون بإمكانية الكسب من انتشار قصص الكلاب.» ولكننا نقول إنه لم يكن بالإمكان خلق شعبية لأدبيات الكلاب لو لم يتم إيجاد المناخ الفكري الملائم لها، تماما ً كالموضة. فذلك ما خلق التهافت على موضة النيفي في السبعينيات. ومن تراثنا نذكر أن تاجر الخمار الأسود قد لجأ للشاعر، الذي كتب له قصيدة:» قل للمليحة في الخمار الأسود...» التي خلقت المناخ الفكري والتهافت على شرائه. ولكن من الذي بيده خلق المناخ هذا؟ إنهم بلا شك من يملكون مؤسسات الإعلام ووسائله.

وأخيرا ً وليس آخرا ً فإن أمريكا التي تجتاز هذا العام كارثة اقتصادية، ولولا تدخل الدولة واتخاذها قرارات التأميم، التي هي في حقيقتها، قرارات اشتراكية، لحدثت الكارثة الاجتماعية الناجمة عن الإفلاس وإغلاق المؤسسات وتسريح العمال، فإن الأمريكان يقتنون 77.5 مليون كلب، وإنه رغم الاقتصاد المنهار لم يقم مقتنو الكلاب بخفض إنفاقهم عليها، وذلك نقلا ً عن منظمة منتجات الحيوانات المدللة. واستطلاعات مقتني الحيوانات المدللة التي أجريت عامي 2009 و 2010. وإذا كان الشعار الشهير في إدارة التسويق هو:» أن أمريكا بلاد الفرص الواعدة، ولكن لكي تنجح فعليك بإنتاج ما يريده المستهلك. وما يريده المستهلك هو أدب الكلاب

على أية حال فإن الكلب هو رمز للوفاء، والوفاء أصبح عملة صعبة في الولايات المتحدة، وهو محتكر لإسرائيل فقط. وربما نسأل الله أن يتحول الهيام في أمريكا من إسرائيل إلى الكلاب. ولكن الإشكالية هنا هي أن الصهيونية هي من خَلَقَ الهُيام بالكلاب...عجبي!!!

دراسة بقلم: علي خميس