الحلقة الثالثة: مكوّنات التلقيّ الأدبيّ

18/1/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم البروفيسور عاطف حميد عوّاد

سوف أقتصر هنا على تحديد النص وفق نظرية التلقي على أن نقارب العلاقة بين النَّص والمتلقي والقراءة في المبحث الأخير من هذه الدّراسة، وإذا بحثنا عن مفهوم النَّص في نظرية التلقي لدى كُلٍّ من (ياوس وإيزر) فسوف نجد أنَّ الأول كان مشغولاً بجمالية التلقي، أي كيفية قراءة النص وتلقيه، ولهذا لا نجد تلك التعريفات الأبستمولوجية التي تمتّع بها النص في الدروس اللسانية والمقاربات البنيوية، ومع ذلك وفي تضاعيف كتابه «جمالية التلقي: من أجل تأويل جديد للنص الأدبي » نجد لدى (ياوس) إلماحات إلى مفهوم النَّص، إذ يكتب ياوس في تحديده للنص:« إذا عرفنا العمل بما هو حصيلة تلاقي النص وتلقيه وبأنَّهُ وبالتالي بنية دينامية لا يمكن إدراكها إلاّ ضمن تفعيلاتها التاريخية والمتعاقبة، فسيمكننا بيسرٍ أن نميز فيه بين «الأثر» أي وقع ذلك العمل، ثم «تلقِّيه»، ويؤلِّف هذان المكوِّنان عنصري تفعيل العمل الفني والأدبي أو العنصرين البانيين لـ: التقليد، فالأول: أي الأثر، يحدِّده النصُّ، والثاني: أي التلقِّي، يحدِّده المرسل إليه، ويفترضُ الأثر نداءً أو إشعاعاً آتياً من النص، وكذا قابلية المرسل إليه لتلقّي هذا النداء أو الإشعاع الذي يتملكه(1).

في هذا التحديد للنَّصِّ من قبل هانس روبرت ياوس نجد فرقاً واختلافاً بين «العمل» و«النَّص»، فالعمل يتشكَّلُ من مكوِّنين آخرين.. «النص» أي المادة الكلمية / اللغوية، وتلقي هذه المادة من قبل المتلقي أو «القارئ»، وبمعنى آخر فالنصُّ، هنا، لا يساوي العمل، والعمل لا يمكن لـه أن يكون عملاً يتحقق في التاريخ إلاّ بتوافر متلقٍ يُخرج النص من عتمته وسكونه واستقراره، وعليه فإنَّ النص يغدو عملاً حين يتوفر لـه التلقي، فيصبح «بنية دينامية»، لكن النَّصَّ لا يتحوّل إلى عملٍ إلاّ بخاصية يتوافر عليها وهي «الأثر»، الذي ليس إلا ذلك الإشعاع الجمالي الذي به يتحقق التلقي واحتضان النَّصِّ من قبل القارىء.

هكذا نجد أنَّ «العمل الأدبي» عند ياوس يكافىء مفهوم «النَّص» لدى بارت حين يتوافر فيه الإشعاع الجمالي الذي يتملك القارئ، ويتقدَّم ياوس خطوة أخرى في الكشف عن طبيعة العمل الفني بالقول: «فلئن كان العمل الأصيل يبرز من بين ذخائر الماضي الخرساء ويستطيعُ بعدُ «قول شيءٍ ما» للأجيال اللاحقة، فليس ذلك ببساطة راجعاً إلى «شكله اللازمني» (...). إنَّ سبب ذلك يكمنُ في كون «شكله»، أي خاصيته الفنية النوعية (المجاوزة للوظيفة العملية للغة التي تجعل من العمل شهادة على فترة محددة) يبقي «دلالته»، على رغم مرور الزمن وتغيّره، مفتوحة، ومن ثمّ حاضرة، باعتبارها الجواب الضمني الذي يخاطبنا في العمل» (2)، هنا نجد ياوس يركّز على «الخاصية الفنية النوعية» للعمل، هذه الوظيفة التي تفرِّق بين مستويين للغة الأدبية، المستوى الذي يجعل العمل شهادة على مرحلةٍ محددة من التاريخ، والمستوى الآخر، وهو المستوى الفني، القادر على نقل العمل من مرحلته الزمنية إلى مرحلة أخرى، قادرٍ على الاستمرار لإنتاج الأسئلة والمعنى في الأزمنة اللاحقة، وبذلك يقترب تعريف ياوس من تعريف كرستيفا التي وصمت النص بـ «الدلالية»، أي القدرة على إنتاج المعنى ومِنْ ثَمَّ مفارقة السياق الذي أنتج فيه، وهنا يكمن الفرق بين نصٍّ وآخر، وهنا يمكن أن نطرح العناوين التالية: كليلة ودمنة، وألف ليلة وليلة، والأوذيسة ،...إلخ، هذه المؤلفات التي لا تكفُّ عن تفجير أسئلتها الأنطولوجية في الحاضر الإنساني، والأمر يعود في تقديرنا - وتبعاً لياوس - إلى الخصائص الفنية النوعية للغة النص، ذلك أن النَّص الفني لا يتورع عن إخفاء أسراره وقواعد بنائه، كما لو أنه يكشف عن النزر اليسير منها في كُلِّ مرحلةٍ زمنية لاحقة.

أمَّا لو انتقلنا إلى المنظِّر الثَّاني من منظري التَّلقي وأقصد فولفجانج إيزر بقصد الإمساك بمفهوماته للنص، فسوف نجد أنَّهُ يتكئ على تحديد الفيلسوف الفينولوجي رومان انغاردن، ونشعر بأصداء تحديد رومان انغاردن في كتابة إيزر الذي يكتب في مقاربته للنص: « يصف انغاردن العمل الأدبي بأنَّهُ بنية مخططة ترمزُ إلى الشيء المقصود الخاص بها والذي يختلف عن الأشـــياء الواقعية والمثالية من خلال افتقاره للتحديد» (3).

إنَّ التأمُّل في هذا التعريف الذي يتبناه فولفجانج إيزر يموضع العمل الأدبي بين كونه ليس شيئاً واقعياً أو مثالياً بمعنى أنَّ العمل يتعالى عن الفيزيقيا والميتافيزيقيا، ومِنْ ثَمَّ لـه أسلوبه الخاص في الوجود، والسبب في ذلك هو افتقاره للتحديد، بمعنى أنَّ العمل الأدبي يتطلب تعييناً وتحديداً، وهذا لا يكون إلاّ من خلال توفُّر القارئ الذي يبعث فيه الحياة، إذ « إنَّ بنية العمل الفني - (...) - تنطوي على فجوات أو مواضع من اللا تحدد، ومهمة الملاحظ (القارئ) هي أن «يملأ»، هذه الفجوات اللا متعينة في تلك البنية التخطيطية، وبذلك فإنه يجلب العمل الفني إلى « حالة تعيُّن State of concretion ، تُصبح فيها كلُّ كيفياته وسماته المميزة لـه متحققة ومتجلية بالفعل» (4)، وهكذا فإنَّ النص وفق رؤية انغاردن - ومن ثمّ إيزر- ليس إلا فضاءً ينطوي على فجوات وفراغات يأتي القارئ ليملأها، ومِنْ ثَمَّ يبث المعنى / الدلالة للنص، وسوف يتعمق مفهوم إيزر للنص من خلال المفهومين الآخرين لمكوّنات التلقي الأدبي: القارئ والقراءة، ولكن لا بُدَّ من الإشارة إلى أن النص في نظرية التلقي مرهون بالقارئ، بمعنى أنَّ معنى النص يتشكل من الحوار الدائر بين النص والقارئ عبر التفاعل الذي يتجلى في فعل القراءة ذاته.

أمَّا فيما يتعلق بمســتويات النَّص، فســنحاول التفريق بين «النص المقروء» و «النص المكتوب»، أمَّا بالنسبة للأول فهو «نصٌّ يتسم بسمات النَّص الحداثي (...) كُتِبَ بقصد توصيل رسالة محددة ودقيقة ونقلها، كما أنه يفترض وجود قارئ سلبيّ تقتصرُ مهمته على استقبال وإدراك الرسالة (5)، ونفهمُ من هذا التحديد أنَّ «النص المقروء» أُنتج بقصد الاستهلاك من خلال تطابقه وتماثله مع العالم، فكلُّ شيء يتسم بالدقة، فهو نصٌّ مليء لا ينطوي على أية فراغات، كما أنَّهُ يتماثل مع أفق التوقع لدى قارئه الذي يتميز بكونه قارئاً مستهلكاً فقط، يؤكِّد نفسه من خلال تتبعه أنماط المعنى الثابتة وبنيته، وهو في عملية استهلاكه هذه إنسان جاد جامد «عقيم»، وكذلك يقتصر دور المؤلِّف على دور الممثل الذي يقدم أو يعرض «الواقع» الحقيقي المفترض»(6)، وعلى هذا النحو يتم «النص المقروء» بأنّه النَّص الذي يبتعد عن إنتاج «الأثر» الذي يتملَّك القارئ كما يرى ياوس، ومِنْ ثَمَّ يفتقد إلى المتعة، ولا يفكِّر بأية لذّةِ يحدثها لدى القارئ.

أمَّا المستوى الثاني من النص، فهو «النَّص المكتوب»، ويعرف كتاب دليل الناقد الأدبي بالقول:« هو نصٌّ مفتوح ما بعد حداثي، يختلف جوهرياً، فقد كُتِبَ حتى يستطيع القارئ في كل قراءة أنْ يكتبه وينتجه، وهو يقتضي تأويلاً مستمراً ومتغيراً عند كل قراءة، ولهذا يتحول دور القارئ إلى دور إيجابي نشط، دور منتجٍ وبانٍ، حيث يشارك (إن لم يتجاوز) الكاتب في إنتاج النَّصِّ »(7)، هكذا نلاحظ أنَّ النَّص المكتوب الذي يوقظ القارئ من سباته، وذلك حينما يُرسل شعاعاً من «الأثر» يستفز القارئ، ليتولّى الأخير دور المؤوّل والمفسِّر، وعليه فإنَّ النص المكتوب هو النَّصّ الذي لم يكتب (مجازياً) أي في طور الكتابة أبداً، يحرِّض القارئ على كتابته في كل مرة يُقْرَأُ فيها، وما يثير الانتباه أنَّ «النص المكتوب» هو المستوى الذي تتحدَّث عن كرستيفا، وبارت وجاك دريدا وياوس وإيزر وغادامير لأنه النَّصّ القابل للإنتاج وإضاءة حاضر القارئ إن لم نقل مستقبله، ولهذا فصفاته «هو عملية إنتاج، وليس مادة قابلة للاستهلاك وهو نصٌّ في صراع ومواجهة مع حدود العرف والمقروئية وحدودهما لأنه يتجاوز الهرمية العرفية للنوع الأدبي، وهو نص يمارس إرجاء المدلولات أبدياً عن طريق تشبثه بالدالّ الذي يتّسم باللعب الحر»(8) وفضلاً عن ذلك، فهذا النَّص المكتوب ينشّط من فعالية التناص في القراءة، ولهذا اتسم النَّص المكتوب بتعددية المعنى وانفجاره.