حكاية الحاج مُرشد شمص

18/1/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

ارتباط مُرشد شمص بنمط عيش مُحدد ( البالغ 130 عاماً كما يُجاهر)

مُرشد حسن حمزة شمص، متوسّط القامة، ذو وجهٍ تجعّد مع الوقت، وذلك بسبب بلوغه ال130 عاماً، ويُصرّح أن أولاده وأحفاده يشكلون جوقة. وتؤكد لنا وثيقة وجدناها أنّ شمص حصل على أول قطعة أرض في عام 1868 في مشّان، قضاء جبيل. وكان في العشرين من عمره على الأقل. وفعلاً هذا ما تبيّن لنا عندما قصدنا تلك البلدة.

في مشّان، نهار الجمعة عند الساعة الثالثة من بعد الظهر، كان مُرشد حسن حمزة شمص يأخذ قيلولته بعد تناوله وجبة الغداء المؤلفة من الخضار ومن مشتقات الحليب. وعلى الرغم من خطواته الثقيلة عندما كان ينهض، إلاّ أنّ فكره كان لا يزال ينبض بالحياة وكان سريع البديهة. كان يتذكر التواريخ والأحداث والأسماء بدقة غير كاملة. إنّه لأمرٌ رائعٌ حقًّا أن تصل إلى سنّ ال 130!

ولكن عند التحدّث معه، كان علينا أن نرفع صوتنا لأنه لا يسمع جيداً، وكان يُعاني من اضطرابات في الرؤية. وعندما نطرح عليه سؤالاً كان يستغرق خمس دقائق للتفكير، ويجيب وهو يفرك يديه . ووصف لنا الخطوط العريضة من حياته «قبل» عندما كان يجب أن نعبر الطرق والممرات للذهاب الى بيروت أو للعودة إلى بعلبك، سيراً على الأقدام.

تزوج في الثلاثين من عمره ورُزِق بصبي، «ولكن في ذلك الوقت كان مرض «الهواء الأصفر» مُنتشراً. وقد توفيت زوجتي وابني جراء إصابتهما بذلك المرض. كما ظهر على الفور مرض الجرب، ولم يكن مُنتشراً في المنطقة، إلا أنني كنت مُجبراً على العودة إلى بعلبك مع الأصدقاء للعثور على عمل. وبينما كنا في بعلبك، قمت أنا وأصدقائي بقتل شخصٍ، وتمّ توقيفنا وَسُجِنَّا في زحلة. ولأنّنا كنا خاضعين للإحتلال التركي، قرر مظّفر باشا أن يُرسلنا إلى سراي بعبدا. كما كان «للهواء الاصفر» ضحاياه في السراي وفقدت جميع أصدقائي. حتى انني أُصبت بذلك المرض، فاعتقد الحراس أنني توفيت، فألقوا بي في المشرحة حيث قضيت ثلاثة أيام وثلاث ليال. وفي نهاية اليوم الرابع، نهضتُ وبدأتُ أطرق على باب زنزانتي مثل المجنون. وقد مرَّ الشيخ خليل الخازن وزوجته أمام السراي، بعد عودتهما من سهرة أمضياها في سِبناي. فسمِعا ندائي وأمر الشيخ بأن يفتحوا لي البوابة. وبفضل القاضي الدرزي محمد عز الدين ومحام من زحلة سليم مغدوغ، خرجت من القبو الذي يستعمل كسجن، وتمت تبرئتي. وبعد أن عُدَّت حُرَّاً طليقًا من جديد، توظّفتُ بُستانياً في بيروت، بفضل السيدة ماري سرسق. أتذّكر أنّ كل تلك العائلة كان لديها شغف بلعب الورق. وبسرعةٍ تعبت من هذا العمل، وتوظفت كعامل ميناء في مرفأ بيروت. كنا ننقل أكياس الطحين والسكر من المرفأ الى مار متر، كما يُعرف حاليًّا، ونحن حُفاة الاقدام ... ثم تعرّفت إلى ساسين ساسين والياس التويني الذي كان متزوجًا من الست أديل من عائلة تابت، وكانت سيدة كبيرة وصاحبة قلب كبير. اقترحت عليّ ان تبيعني كرم الزيتون والسيوفي بثمان عشرة ليرة عثمانية. كان بحوزتي ذلك المبلغ لأنني عملتُ كثيراً في تلك الفترة، ولكن بالنسبة إلي كان من الجنون شراء أراضٍ في بيروت بدلاً من القرية. والآن وقد تغيرت الأحوال كثيراً، صدقوني أنني أندم لانني لم أشتر كُلَّ هذا».

لم تكن ذاكرته جيدة وحسب، بل كانت إنتقائية أيضًا. على سبيل المثال، عندما كُنّا نُكرّر أمامه إسم مظفر باشا، ظهرت عليه فوراً علامات الاشمئزاز: «الطاغية، السّفاح، المستبد الذي كان يُجبر الفقراء على دفع العُشر (الضرائب). كان مُستبداً لدرجة أنَّه عندما مات كلبه، دفنه بحضور عدد من المسؤولين تحت جسر الباشا. أتدركون معنى القيام بذلك الشيء من أجل كلب!

ويُخبرنا مُرشد كيف أصبحت بعض العائلات (الحالية) غنية من خلال تخزينها للمواد الغذائية كالقمح، والسكر، والطحين. وإذا ما بدأ بذكر أسماء وشخصيّات لا نستطيع أن نبوح بها مُراعاةً لأبسط درجات اللياقة.

«على سبيل المثال، لقد توصلوا الى بيع ثلاثين كيلو من القمح لقاء أرض من آلاف الامتار المربعة. ونظراً إلى أنّنا كنّا نفتقر إلى كل شيء بسبب المجاعة، اضطرَّ كثير من الناس للخضوع إلى الأمر الواقع . ما أبشع هذا الإنسان! ولكن يجب أن أعترف أنه في ظل الانتداب الفرنسي، كنا سُعداء لأننا كنا نحصل على كل ما نحتاجه ومجاناً. نعم، لقد استفدنا من الفرنسيين. وفي نهاية المطاف، عشنا أوقاتاً مُضحكة. تخيل أنه في مرّةٍ اضطررنا إلى شراء سكوت القاضي لمحاكمة أحدهم. وأخيراً! « ثم عدتُ الى قريتي وأنا في الستين من عمري، وتزوجت مُجدداً من فتاة في الرابعة عشرة من عمرها. كنتُ رجلاً غنيًّا، ورزقت بسبعة أطفال وواحد وأربعين حفيداً، معظمهم متزوج. قبل خمسة عشر عامًا، سافرتُ الى الحدود الايرانية ـ الروسية لأداء زيارة الإمام عليّ الرضاQ. نعم كنتُ وحيداً، لانه كان من الضروري أن أقوم بواجباتي الدينية لأنني مُسلم شيعي».

لكن منذ ذلك الحين، لم يُغادر مُرشد حسن حمزة شمص مشّان، حيث أمضى أياماً هادئة في قريته مع عائلته الكبيرة، حيث المسجد قرب الكنيسة، في جوٍّ يسوده الهدوء والصفاء والطمأنينة.

خلّف مُرشد حسن حمزة شمص وراءه مائة وثلاثين عامًا من الذكريات الحافلة...