يوسف عماد المؤرخ

20/4/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم الدكتور موريس عماد(1)

انكبّ يوسف عماد، علاوة على الإهتمام والتّمحص بتاريخ الفتوح، على درس أوضاع أهله والتعمق في أحوالهم، بما قام به أجدادنا عبر التاريخ من أعمال مُشرّفة تشهد على مروءتهم وتضحياتهم الجّمةً في بنائهم للكنائس والأديار، وعلى نظرتهم المستقبليّة الثاقبة بلجوئهم إلى حبس القسم الأوفر من أرزاقهم، بما يُعرف حالياً بالأوقاف لتمجيد الله من جهة، ولضمان عيش الأولاد والأحفاد من ذرية الواقف وتأمين علمهم بما تيسرَّ من مداخيل هذه الأراضي المحبوسة مدى الحياة عن البيع والرهان من جهة أخرى، تلك هي الضمانة الثابتة للأجيال في نظرهم كي يفيدوا منها قدر المستطاع ويحافظوا عليها، كإرث صالح من السلف إلى الخلف ضمانة ندرت مثيلتها في أيامنا هذه.

يوسف عماد الإنسان

ما كان هذا النشاط الفكري والعلمي ليجفف لديه العاطفة أو ليصرفه عن التحسس بالواقع، فعاش مع النّاس يشاطرهم همومهم، يتقاسم شجونهم وشؤونهم، هو الذي شدّته إلى شقيقه وشقيقته أوثق روابط الأخوة، فوفرّ لأولادهم ما استطاع من سبل التحصيل في كبريات الجامعات، وما توانى يوماً عن مدّ يد المساعدة إلى بعض تلاميذه المحتاجين، فأمن لهم علاوة عن الكتب المدرسيّة بعضاً من المساعدات الماديّة الضروريّة والمتاحة.

يوسف عماد وتاريخ الفتوح

ما أحرى بنا أبناء الفتوح أن نعود إلى تاريخ الفتوح هذه المنطقة الجميلة التي كانت بالنسبة للمؤرخ يوسف عماد بمثابه الزوجة والعائلة.. فانصرف إليها سحابة حياته، سيما في سنيه الأخيرة، وكرّس لها الأكثر من وقته، والأفيد من نشاطه الفكري، والاجرأ من اجتهادات قلما أقدّم عليها باحث أو عالم أو ناقد في تاريخ هذه المنطقة أو سواها.

تبيّن له في نهاية المطاف بأنَّ الفتوح هو على الأرحج مقرُّ الفردوس الأرضي، ونحن بدورنا نستطرد ونقول بأنه جدير به أن يكون فردوس لبنان لما حباه به الخالق من جمالات طبيعيّة قلَّ نظيرها.

فتوح يوسف عماد اذن هو بلد «نيسا ونيغا» الأسطورتين وموئل الأساطير وأشهرهم أسطورة أدونيس وعشتروت، وجبل براتي المقدس يتوّج هذا الفردوس، وهو معروف عندنا بجبل رأس كنيسة أو الجبل المقدس عند الفينيقيين، يقع هذا الجبل في أعالي بلدة الكفور الفتوحيّة ويطلّ على بيبلوس المدينة المقدّسة الوحيدة عند الفينيقيين.

ماذا عن «نيسا ونيغا» القطرين الاسطوريين العظيمين؟ تبيّن للمؤرخ بعد التفكير والتمحيص أنّ نيسا هي المنطقة المكوّنة جغرافياً وتاريخياً بين وادي نهر ابراهيم شمالاً ووادي الغابور ونهر الحصين جنوباً، أي القسم الشمالي من بلاد الفتوح ...في أعاليها تقع مزرعة نيسا اليحشوشيّة، المحرّف اسمها من لفظة «نيشا» التاريخيّة وفي أواسطها في خراج بلدة زيتون الفتوحيّة، المغارة التي ولد فيها أدونيس.

أمّا «نيغا» فهي المنطقة الجغرافيّة المكوّنة بين وادي الغابور شمالاً ووادي المعاملتين جنوباً التي في أعاليها تقع بلدة الغينة الشهيرة المحرّف اسمها عن لفظة «نيغا» أو العكس وبجانبها مدينة قبعل التي تأويلها في السريانيّة قبر البعل.

ومن هاتين المنطقتين الجميلتين يقول يوسف عماد «نيسا ونيغا» تتكون البلاد الفتوحيّة العزيزة المجهولة التاريخ لدى علماء التاريخ، والمهملة من كبارها وأعيانها والمنسية في كل عهد من السلطات الحاكمة ومن أولياء الأمر فيها.

منطقة الفتوح هي اسطورية بإمتياز ـ إنها مهد الإنسان العاقل ان لم يكن مهد الإنسان الأوّل آدم وحواء بالرغم من زعم العلماء الخاطئ .الفتوح بنظر يوسف عماد هو مهد الحضارة البشريّة البدائيّة على سطح الأرض من آلاف السنين وفي سواحله انشئت أولى المدن المنظمة في العالم الا وهي مدينة «جبل» المعروفة بإسم مينائها «طبرجا».

ففي الفتوح عرف الإنسان الكرمة وأعلنها للعالم وصنع من عصيرها الخمر والخمير وقد تغنى بشهرتها كتاب العهد القديم العبري إذ قال هوشع «ويكون لذكرهم كخمر لبنان».

في الفتوح عرف الإنسان الزيتون فاستخرج منه الزيت لغذائه وعلّم العالم صناعته.

في الفتوح وفي غباله بالذات والتي معناها في السريانيّة «جبل الطين أو التراب» عرف الإنسان الفخار فجعله وصنع منه أدواته المنزليّة وأوعيته الضروريّة كالجرار والأباريق والصحون والقدور والخوابي..

أخيراً في مجهوده الكبير الضخم لم ينسَ يوسف عماد تاريخ عائلته وهو العاكف في حياته على معرفة كنه التاريخ وأسراره فلّخصه بشجرة متناميّة الجذوع وارفة الظلال دائمة الخضرة والاخضرار، هي الشجرة العائليّة لآل قرقماز وفروعها من عائلات لطيف، سعيد، خير الله، قرقماز، عماد، حساب، ...، المتواجدة في بلدات وقرى الفتوح...

لأجلها جاب هذه القرى مشياً على الأقدام عرّج على أهلها تعرّف إلى شيبها وشبابها استجوب شيوخها دوّن اسماءها تفحّص صخورها حلّل واستنتج درس ودبج ليختار منها ما يعود نفعاً وإسماً طيباً، عزّة ورفعة لساكنيه.

فغدت الشجرة العائليّة بعد طول مخاض إلى جانب شجرة القواعد العربيّة المصورة تزّين زاهية بيوت ودور مقدرّيه وعارفي صنيعه.

من أقوال المؤرخين

يقول المؤرخ الأديب الشيخ منير وهيبة الخازن أن تاريخ الفتوح للأديب والمؤرخ يوسف عماد يضم معلومات هامة جداً ومجهولة من تاريخ الفتوح السياسيّ والتاريخيّ وعن أحواله الإجتماعيّة والدينيّة في عهوده المختلفة.

ويضيف:»انَّ هذا السفر الخالد هو مكتشفات وحقائق حيّة لم يجدُ بها علينا من سبقه من المؤرخين السابقين والعصريين كالدويهي والدبس وسعد والحتوني ويونس وغيرهم.

اقول بكل فخر واعتزاز أنَّ المؤرخ يوسف عماد أراد أن يطلَّ نتاجه التاريخي من قلب المدن التاريخيّة التي أهملها جميع من ذكرنا أعلاه من المؤرخين حتى استطاع بنظرته العملاقة ونضجه الذي هو أغنى ما يمكن أن يتسلّح به بحاثة أن يجمع للقارئ حصاداً ثميناً من الحقائق المذهلة لم تطلها يدُ أحدٍ سواه حتى الآن.

ومن أقوال الأب إميل إده في ملحق «النّهار»:

يوسف عماد ينقبّ وينبش ويخالف. «جبل ليس جبيل بل طبرجا» القيمة الإنسانيّة لكتاب يوسف عماد هي في جمع الوثائق والنصوص التاريخيّة ومقارنة المخطوطات والكتب المطبوعة واختيار الأفضل ثُمّ الوصول إلى استنتاجات قابلة للإقناع».

لو لم ينشر المؤلف يوسف عماد النصوص القديمة والمخطوطات بحرفيتها وعلى علاّتها باللغة العربيّة وأحياناً بالكتابة الكرشونيّة.. لبقي طيّ النسيان قسط لا يستهان به من المعارف عن التاريخ اللبناني عامة وتاريخ الفتوح خاصة.

يتابع الأب اميل اده ويقول: «جمع المؤلف بحر معلومات حول موضوعات عدَّة تتفاوت كثيراً في أهميتها وقيمتها وصحتها وضرورة ادخالها «نعيم» هذا الكتاب الذي كلفه دون شك جُهداً عظيماً طوال سنوات لأنّه بحث في الكتب القديمة والمخطوطات النادرة في الكنائس والأديار وصكوك البيع والشراء ومن الأوقاف.

قالت جريدة «النهار» الغراء بتاريخ الاثنين في 28 كانون الثاني 1974 بقلم الأستاذ جوزف نعمة:

من يقرأ تاريخ الفتوح وتاريخ الجامعة القرقمازيّة لمؤلفه يوسف عماد يتمنى أن يبرز في كل مدينة وفي كل بلدة لبنانيّة رجل مثله يهم بوضع تاريخ لأسرته ومنطقته.

وعن المنطقة المعروفة بإسم الفتوح يقول نعمة: فاجأنا المؤلف بأنها مهد الحضارة البشريّة البدائيّة على سطح الأرض من آلاف السنين وفي سواحلها الدافئة أُنشئت أولى المدن المنظمة في العالم الا وهي مدينة «جبل» المجهولة المعالم لدى علماء التاريخ والمعروفة اليوم بإسم مينائها «طبرجا».

وفي أعالي هذه المنطقة الفتوحيّة شيِّدت المدينة الفينيقيّة المقدسّة مدينة «قبعل» حيث دفن أدونيس ودفنت بعده وفي جانبه عشتروت أو الزهرة».

نقول للسيد عماد أنّ هذه الصفحة من التاريخ كانت مجهولة عندنا بل هي فتح من التاريخ اللبنانيّ القديم.

وتضيف جريدة «النهار»:» ومن فصول الكتاب المفضلة تاريخ الكنائس والمعابد والديورة في المنطقة الفتوحيّة والأسر التي توالت على حكم المنطقة وما جرى في عهودها... يجدر بكل لبناني مطالعتها».

تميّز يوسف عماد بعطائه المستمر للناشئة في كل لبنان وبجدّه واهتمامه لعائلته الصغيرة والكبيرة، فترك لها آثاراً نتباهى بها كما وانه ما ضنَّ بشيء على منطقة الفتوح فجعلها باجتهاداته العلميّة وتحاليله المدهشة مقراً للفردوس الأرضي رغم الإهمال المتمادي الذي أصابها في الصميم من أولياء الأمر كافة.

خدم وزارة التربيّة الوطنيّة كما لم يخدمها أحد كرّس زهرة عمره في سبيل النشء تعليماً وتأليفاً، تنشئة وتثقيفاً، مات شأن الكثيرين من الجنود المجهولين كما عاش بخفر يدّون وينتقد مسيرة الحياة في منطقته، يعارض ويعاند اعلاءً للحق كلما سنحت له الفرص غير آبه بظلم حاكم ولا بأداء جائر كائناً من كان وسجلّ المواقف المشرّفة وترك للتاريخ أن يصدر الأحكام وينصف من عملوا مخلصين لغدٍ مشرق معطاء.