المتعة الفنيّة في الأدب

20/4/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم الأستاذ الحاج داوود اسماعيل حمادة(1)

اللّذة في النّموذج الأدبي، سبب استمراره وسرّ بقائه.

إنّها تستعصي على كلّ تحديد، لأنّها الجمال المُطلق الذي ليس وراءه شيء.

تعطي الكلمات معنى يتجاوز معناها المألوف. هي في الكلمة قدسيّتها وبراءتها... كشفها وخلقها... بثُّ طيبها ونفحُ عبيرها، ورشقُ ذرّات أشعّتها، لتنير القلوبَ لا الأرجاء، وتُدفئ النّفوسَ لا الأجساد، وتُغذّي البصيرة لا الأبصار.

أمّا النّماذجُ التي لا غاية لها سوى الفائدة الماديّةِ (أي التي تصوّرُ لنا حوادثَ يوميَّةً، عاديّةً، جامدةً، جوفاء)؛ فإنّها لا تلبثُ أن تزولَ بزوالِ حوادثها. فهي كمرور غيمةِ صيفٍ عقيمةٍ لا أثر لمرورها في دنياها، حيث تتلاشى مع مرور الزّمن كما تذوبُ قطرة النّدى تحت وهجِ الشّمس. ولنا في الحقائق العلميّةِ، والنّصائح الإرشاديّةِ خيرُ مثالٍ على ذلك.

لقد كان «دارون» من معاصري «ديكنز»، وكان لكلٍّ منهما اتّجاهٌ؛ فكان «دارون» عالِمّا، وكان «ديكنز» قصصيّاً، وها هي مكتشفات العصر الحديث تمحو ما جاء به «دارون»، ولم يعد في بالِ أحدٍ منّا؛ بينما قصص «ديكنز» ما زالت تلذّنا وتمتِّعُنا كما كانت تمتّعُ وتلذُّ معاصريه. وكم من حقائقَ علميّةٍ عاصرت شعوباً مضت وهي قد بليت وذهبت أدراج الرّياح. وكم من عاداتٍ وتقاليدَ قد استحالت عيباً، بل تزمّتاً؛ بينما أناشيدُ الموشّحات وشعر «هوميروس» وأوصاف امرئ القيس وحِكم المتنبّي ولزوميّات أبي العلاء وفكرِ أبي تمّام ومسرحيّات شكسبير ما زالت تُنعشنا وتلذّنا؛ وتتعاقبُ عليها السّنون، وما تزيدُها إلاّ لذّةً وتفرُّداً وسموّاً.

فما السّرُّ في خلودِ هذه وتلاشي تلك؟

السّرُّ هو اللّذّةُ التي هي جوهر تلك الآثار الأدبيّة التي تجعلها مستمرّةً وفاعلةً لأنّها قائمةُ على أشياء ثابتة فينا، هي طبيعتنا البشريّة؛ وأُصول هذه الطبيعة النّفسيّة لن تتغيّرَ ولن تتحوَّلَ من زمانٍ إلى زمان ولا من مكانٍ إلى مكان. والسّرُّ أيضاً في تلاشي تلك الحقائق العلميّة الجافّة، هو أنّها منفصلةٌ تمامَ الإنفصال عن كياننا وذاتنا. فلمجرّد أن تأتي حقائق أكثر منها فاعليّةً تُلاشيها بل تمحوها.

والشّعرُ الذي فيه نسمةُ الحياة التي هي انعكاس بعض ما في داخلنا أي الذي أجدُ في مضمونه جواباً لسؤال، ومسلكاً لتائه، وراحةً لمتألم، ومستراحاً لمُتعب مكدود، يستريحُ في ظلاله من وهج التّفكير المضني؛ هو الشّعر الذي تتفتّحُ له براعمُ الحياة في داخلي، وتختلجُ له أعماقي، وتصفقُ له روحي.

والأدبُ الذي هو نداءٌ عميق لأعماقنا، وريشةٌ خلاّقةٌ، منظّمةٌ لإحساسنا، هو الذي تتجاوبُ مع أنغامه أصداءٌ في مشاعرنا. ففي هذا التّجاوب وذلك النّداء تكمنُ اللّذّةُ. ذلك أنّ من ألوان الأدب ما يتسامى فوق التزامات المجتمع وتُرَّهاته، ليرتفعَ بنا إلى فضائه السّحريّ على أجنحةٍ من أنغامهِ الأثيريّةِ؛ ذلك الفضاء الذي ينسينا طعامنا وشرابنا وحياتنا الإجتماعيّةَ وأغلالها، ليرتفع بنا فوق حدود الذّهنيِّةِ ومُهاترتها، فيخدّرُ الإحساسَ، ويُسكرُ النّفسَ، حتّى نُحسَّ إزاءَ هذا النّوع من الأدب بنشوةٍ تعترينا، بل تلفُّ كِياننا وتُرعشُ أعصابنا، دون أن نعرفَ لذلك سبباً، إلاّ أنّها نشوةٌ وغبطةٌ شعوريَّةٌ، تتسرّبُ في أعصابنا تسرُّبَ الدّماءِ في الشّرايين.

فهذا ممّا يدلّنا على أنّ بعضَ الآداب ليس لها غايةٌ سوى إثارة الشّعور وبثّ النّشوةِ والتخلّص من مهاترة الحياة الماديّة واستبدادها، لنسير في عالمها الضّبابيّ الذي يوحي لنا بألوانٍ من الجمالِ لا عدَّ لها ولا حصر. وهل أجملُ للإنسان من أن يتخلّصَ من هذه المتاعب الحياتيّة والسّجون الماديّةِ ليفيءَ إلى ظلال هذه الآثار، يتَّقي وهجَ التّفكير ويستريحُ من ضناه.

فالإنسانُ دائمُ البحثِ عن هذه اللّحظات التي ترفعه عن عالّمِه السّطحيّ إلى عالَمِ لا يشوبُه كدُّ الذّهنِ وإجهادُ العقلِ وحجزُ العاطفةِ والشّعور.

ومن الآداب ما يجمعنا معها وّحدَةُ شعورٍ، وتوارُدِ أفكار، وترابط إحساس؛ لأنَّ أفكارنا وعواطفنا مُشتَرَكةٌ، إذ أنَّ مصدرها واحدٌ هو النّفس. ولكنّها قد تكونُ مستيقظةً، مُتنبِّهةً، ناطقةً عند بعضنا، غافلةً بَكماء عندَ البعض الآخر. وهذا كلُّه سببُ وجودِ اللّذّةِ في الأثرِ الأدبيّ.

ذلك أنَّ الحياةَ تعرضُ مشاهدَها عليَّ وعليكَ وعلى كلِّ إنسان؛ ولكنّي قد أمرُّ بها، ويجنُّ بي شوقٌ إليها، ولكنّهُ شوقٌ ابكمٌ أصمّ، لا تستطيعُ أن تنفُذَ سهامُه إلى صميمها؛ بينما أنت تنطلقُ وقد تجمهرت في رأسِكَ أفكارٌ، وتحرّكت أمام مخيَّلتكَ رسومٌ واشكال، واستُثيرت في أعماقِكَ خواطر ومشاعر، وضجّت في أُذنِكَ أصواتٌ ورُتّلت أنغام. وسرعان ما تنتظمُ هذه الأفكار وتتألفُ تلك الرّسومُ والأشكال وتتناغمُ تلك الاصوات والأنغام في قصيدةٍ شعريّةٍ أو في قطعةٍ نثريّةٍ فنيّةٍ، ما إن أُطالِعها وأطلّع عليها وأستنبِضُ خطراتِها حتّى أشعرُ أنَّ مثلَ هذه الأفكار قد تجمهرت في رأسي، ومثلَ هذه الرّسوم قد تحرّكت على شريطِ مخيّلتي، ومثل تلك الأنغام قد وُقّعت على قيثارة نفسي. فهذا دونَ شكّ مبعَثُ حُبِّ وجمالٍ، وباعثُ نَشوةٍ وطرّب، وشعورُ خلاصٍ ولذَّةُ انتصار، أشبهُ بانتصارِ الجائعِ بالرّغيف والظّمآنِ بالماء؛ لأنني قد عرفتُ اليوم بالحسِّ ما كنتُ أعرفُه أمس بالرّجاء.

وأنا لا أفهمُ السّرورَ هنا إلاّ أنّهُ نوعٌ من استفاقةِ النّفس، نفسِ الإنسانِ المُتميّزِ وانفتاحُها على عالِّم آخر أسمى. واللّذّةُ هي دربُ خلاصٍ، وفتراتُ بهجةٍ، وهروبٌ من واقع الحياة المتزمِّت، لتكونَ في صراعِ الحياةِ المضني زيتاً يمُدُّ سِراجَنا بالشُّعلةِ. هي تجاوُبِ الأرواحِ بين الأديبِ وقارئه، هي نداءُ الطَّويَّةِ، وحنينُ النّفس العميق إلى الأبعاد... إلى المجهول.

هي من الأدبِ أوتارُ قلبهِ، وهزُّ أَعطافِه، ولُهاثُ خمرهِ، وقَبلِه السَّكرى، وهي التي ترفعُنا من عالِم النّقص إلى عالِم الكمال، وتجعلّنا في وِفاقٍ مع أنفُسِنا.

هذا هو أدبُ الحياةِ، بأجمل ما فيها؛ تقودُه اللّذّةُ إلى أرفعِ ما يسمو إليه.