دراسات تراثيّة - الكونت رُشيد الدحداح

26/09/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

سفير العرب بفرنسا في القرن التاسع عشر

(الحلقة الأولى)

بقلم: أنيس النصولي

إذا كان شباب العرب قد هاجروا إلى الأقطار الأوروبيّة والأميركيّة وحملوا معهم مشعال الفكر والرأي وكانوا خير سفراء هذه الأُمّة في مختلف العواصم فإن رُشيد الدحداح أو الكونت دحداح (فيما بعد) كان خير الشباب المثقّف الذي حط الرحال في فرنسا واهتمّ بشخصه مع المجمع العلميّ الفرنسيّ بنشره المؤلفات العربيّة العلميّة القيمة. ويعرف عشاق الشاعر المتصوف عُمر ابن الفارض الكونت رُشيد الدحداح أنَّه هو الذي شرح ديوانه وطبعه في نحو ستمائة صفحة ثم هو صاحب الفضل في نشر كتاب (فقه اللغة) لأبي منصور الثعالبي وكتاب (طرب المسامع في الكلام الجامع) وهو الكتاب الذي جمع فيه خير ما قيل من الشعر لأشهر شعراء العرب. وروى بعضهم أنّ الكونت رُشيد الدحداح دون بحثاً جليلاً في تاريخ الشرق وما أصابه عن علل ومحن، وفيه يصف الدواء لخلاصه من الخراب والدمار. وقيل أيضاً أنّ هذا البحث هو في الحقيقة تاريخ كبير في مجلدات شتّى ولم تزل مخطوطة ولم تطبع.

ولعلّ من الخدمات القيمة للكونت رُشيد الدحداح هو نشره بمعونة الشيخ سمعان الدحداح المعجم العربيّ الذي جمعه المطران جرجس فرحات وذلك بعد أن هذباه ورتباه وأصلحا أغلاطه معاً. وللكونت الدحداح كتاب(قمطرة طوامير) وطُبعَ أولاً في فيينّا ثم في باريس وهو يتضمن مقالات في اللغة والأدب. وخواطر رائعة في الفلسفة. ومن يدرس حياة علمائنا الأماجد الشيخ ناصيف اليازجي وأحمد فارس الشدياق والأمير الكبير عبد القادر الجزائريّ الحسينيّ يجد أنّ للكونت رُشيد الدحداح علاقات صداقة وطيدة الأركان جمعت بينه وبينهم، ثمّ له معهم مراسلات ومناظرات ومساجلات لغويّة وأدبيّة رائعة.

 

ومن يزر ساحل المانش في شمالي فرنسا يشاهد مدينة عامرة تدعى دينار كانت فيما مضى قرية صغيرة، وهي اليوم مرفأ ممتاز ومصيف يقصد إليه أغنياء الإنكليز في فصل الصيف، وتصل إليها السكة الحديديّة.

وكان أوّل من إبتاع هذه القرية الكونت رُشيد الدحداح وشيّد فيها قصره الشهير بإسم قصر الضفتين وهبطت الثروة على رُشيد الدحداح حينما اتصل خلال سني 1862 ـ 1864 بباريس بباي تونس وسعى لدى رجال الأموال في فرنسا إلى إقراض الحكومة التونسيّة مبالغ طائلة.

وقد عرف سمو الباي فضله وكافأه على جهوده، بجائزة ماليّة ضخمة فمدحه الكونت رُشيد الدحداح بقصيدة لامية طويلة عارض فيها معلقة كعب بن زهير قال في مطلعها:

بانت سعادتنا والفتح مكفولُ باسم المليكِ فلا تهليك مطبولُ

وما يزال أحفاد الكونت الدحداح يعيشون في بلدة دينار بشمالي فرنسا وأقام هو في قصره هذا سعيداً إلى أن توفي في الخامس من أيار عام 1898 مسيحيّة.

وينتمي الكونت رُشيد الدحداح إلى أسرة لبنانيّة عريقة في أمجادها وقد ورد ذكرها في كتب التاريخ في أوائل القرن الرابع عشر. أمّا والده فكان الشيخ غالب، وأبصر النور في قرية عرمون من كسروان وهو من تلامذة مدرسة عين ورقة، وفيها درس أصول اللغات العربيّة والسريانيّة والإيطاليّة. ثُمّ دخل بعدئذ مدرسة (بزمار) للأرمن الكاثوليك، وفيها أتقن اللغة التركيّة حتى برع فيها ولفتت ثقافة رُشيد الدحداح حاكم جبل لبنان الأمير بشير الكبير، فعينه سكرتيراً له عام 1838 وظلّ في منصبه بخدمة الحكومة اللبنانيّة وأميرها الجليل حتى نُفي الأمير من وطنه. وأولع رُشيد الدحداح بتفهم الشرع الإسلاميّ فانصبَّ على التبحر في كتب الشريعة حتى نال منها نصيباً من المتشرعين الأعلام وقصد إلى صيدا عام 1845 حتى درس على كبار أساتذتها الإخصائيين في هذا العلم الجليل.

ومنح البابا بيوس التاسع عشر عام 1868 رُشيد الدحداح لقب (كونت) وقد تسلسل هذا اللقب إلى جميع أنجاله من بعده فعرفوا به.

ورثاه بعضهم فقال:

فتاهت أرض باريس إفتخاراً

وعزت إذ حوت شهماً هُماما

غدا في تربها كنزاً دفيناً

وجاوره في الثرى قوماً فِخَاما

فقلت مؤرخاً ذكراه تواً

إلى باريس أحمل لي سلاماً

كان رُشيد الدحداح سفير لبنان في فرنسا، قبل أن تحط فرنسا الرحال في بلادنا.