هل نستطيع التغيير

26/09/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

الوضائم(1) ـ إطلاق الرصاص ـ الدخان

بقلم الدكتور عصام علي العيتاوي

يغلب على طبع الإنسان في حياته، الحوادث الفاعلة، التي تُعتبر نوعاً من أنواع الحوادث النفسيّة، وهي تضم العادات والتقاليد والفعل وردة الفعل إضافة إلى الأعراف والمعايير التي تنتشر في كل المجتمعات، ومن خلالها تتم حركة التواصل بين الأفراد، أو ما يُعرف بالعلاقات الإجتماعيّة. وفي هذه المقالة سوف أتناول ثلاث عادات منتشرة في مجتمعنا اللبنانيّ: الوضائم ـ إطلاق الرصاص ـ الدخان.

وإذا كانت العادات والتقاليد التي تُسيّرنا اليوم، تُعبر عن نتاج وخُبرات من سبقنا من أجيالٍ، فإننا بدورنا سنوّرث هذا التراث الثقافيّ المتراكم إلى الخَلَف في المستقبل القريب وهكذا دواليك. وقبل الدخول في صلب الموضوع، لا بُدّ من تعريف بالتقاليد والعادات حتى نكون مع مسافة واحدة من هذه المفاهيم.

 

أولاً التقاليد:

أتت من القَلدُ وهو الفتل، والقلادة المفتولة التي تُجعل في العنق، من خيط أو غير ذلك، وشُبّه بها كل ما يتطوق به وكل ما يحيط بشيء، وعليه فهي شبه ثابتة على مدار الزمن إن لم نقل ثابتة. ومن يخرج عنها يُقابل بالجزاء والرفض على تغيير ما لا يلزم تغييره؛ لأنّه بذلك يُسيء إلى الأهل والأجداد والتراث. والتقاليد تعتبر من عناصر الثقافة وقواعد السلوك الخاصة بكل مجتمع أو جماعة أو طائفة، يشعر النّاس نحوها بشيء من التقديس والهالة العظيمة. وهي تتميز بأنّها فطريّة بل يكتسبها الإنسان من الآباء، تنتقل إليه عبر الطريقة الشفويّة أو المكتوبة أو بالممارسة، ومن الصعب التنازل عنها بسهولة لأنّها تمثل الكيان لكل فرد منّا، تشعره بالإطمئنان بممارستها والراحة عند التشبث بها وصعوبة تغييرها أو المساس بقيمها.

 

ثانياً العادات:

مفردها عودُ، وهي الرجوع إلى الشيء بعد الإنصراف عنه، إمّا إنصرافاً بالذات أو القول والعزيمة، والعادة إسم لتكرير الفعل والإنفعال وهي تؤدي إلى الآلية في الفعل، بمعنى أنّه يقُل فيها شعور المرء وإحساسه وإنتباهه لما يقوم به، وتخفُّ معه تدريجاً أحواله الإنفعاليّة، ويتصرف بشكل لا إرادي في كثير من الأمور الإعتياديّة.

ـ وللعادات قيمة مهمة من حيث تجدد الماضي في الحاضر، وإلتزام الأجيال بها، بما يحفظ للمجتمع كيانه وبنيته، كما تعد إيضاً من التراث كما مرّ معنا في التقاليد، وتتخذها الجماعة قدوة في التعامل والمُثل فتوفر لهم قلة الجهد النظري؛ لأنّها تصبح آلية يستطيع الفرد القيام بأكثر من عادة في وقت واحد. وتأتي العادة عن النفس، وبذلك تُعتبر ظاهرة نفسيّة، يصبح الإنسان معروفاً بها بين ذويه ومعارفه ومجتمعه بحيثيَّة تلقائية ومرغوبة التمسك بها، ومُحببة لأصحابها بحيث أن أدنى مخالفة لحيثياتها، يقولون فوراً (أنّها ليست من عاداتنا وينتهي معها النقاش).

ـ ويُعبر عن العادات والتقاليد في علم الإجتماع بالقوانين غير المكتوبة، التي يعمل بها الأفراد، وبموجبها يصدرون الأحكام على علاقاتهم وهي تساعدهم على ضبط حركة الواقع والوقائع في المجتمع.

إنطلاقاً ممّا تقدّم أُلامس مسائل من الأمس البعيد، التي نأمل تغييرها والتي نضطر معها إلى مسايرة العادة والحفاظ عليها وهي مسألة( تناول الطعام عن روح الميت) أو ما يسمى (لقمة الترحم أو الرحمة أو (الوضيمة)، التي كانت تقام في ما مضى عند العرب في زمن كانت حركة المواصلات غاية في الصعوبة، ووسائل الإتصال قائمة على «الخيل والبغال والحمير» إذا وُجدت، وإلا فالسير على الأقدام الغالب عند عامّة النّاس. كانت المشقة والرحلة تأخذ من الجُهد مبلغاً يحتاج معه إلى الإعداد للسفر، هذا من جهة، ومن ناحية ثانية لم تكن المطاعم منتشرة أو بالأحرى موجودة، وغير ذلك كثير من الأسباب.

ـ فهذه العادة (الوضيمة) كانت في ما مضى حاجة مُلّحة لما تقدم، مع ما رافقها من توأمة إطلاق الرصاص عند الموت الذي كانوا يقومون به كوسيلة إعلاميّة في وقت لم يكن حتى للهاتف الثابت (كبِين) وجود، فكانت العادة المُتبعة في حينه إطلاق ثلاث رصاصات (معدّل) يعطي الدليل الكافي لكل من يسمع أن حالة وفاة حصلت في القرية المعنيّة، وعلى جميع القرى المجاورة إنتظار من يخبرهم بإسم وعائلة المتوفى وهذه من مهمات الخيّال الذي يحمل النبأ المشؤوم، فيُعلن الحداد لتنطلق بعده الوفود حاملة الرايات للمشاركة في العزاء وتقديم المواساة لأهل الفقيد وأقاربه وابناء بلدته.

من الأسف أننا ما زلنا حتى اليوم نرى لهذه العادة الإعلاميّة (قديماً) وجوداً متواصلاً حتى في المدن الساحليّة، ولكن بطلقات أكثر، وتشير الإحصاءات أنّها قد خفّت كثيراً لكثرة إنتقادها من كثير من العلماء ورجال الفكر، ولما تسببه من مشاكل وويلات على النّاس جرّاء الرصاص الطائش، الذي ما نزل مكاناً إلاّ وحقق الضرر نظراً لكثافة السكان وإلتصاق المباني.

وسأكتفي بهذا القدر من النقد مع إلفات النظر إلى أنّ هذه العادة دخلت إلى حيّز مناسبات الأفراح في بلادنا (الأعراس) مع ما لها من تأثير نفسي على النّاس جميعاً ومن تداعياتها كثرة الوفيات غير المقصودة، ولما لها من وقعٍ حرج على المرضى والأطفال بما تحدثه من رعب وخوف وجزع. ولا يُخفى أنّها اضحت اليوم من العادات ذات الرمق الأخير من الزوال مع وجود (المفرقعات)، إلاّ أن عادة (الوضائم) آخذة في الزيادة وأصبحت تطال أكثريّة الشرائح الإجتماعيّة في لبنان، وبالخصوص في المناطق الداخليّة والجبليّة. وهذه المسألة تتطلب أعمالاً وجهوداً إضافيّة إلى الأعباء الماليّة التي تستلزمها تكاليف التعزية والإعداد وشراء القبر، والتي لا يمكن أن تتوفر لكثير من أفراد الشريحة الإجتماعيّة الفقيرة.

وهذه الحالة تتفاقم اليوم نظراً لصعوبة المعيشة وتدني الرواتب والأجور، وإرتفاع التكاليف الحياتيّة الباهظة، علماً أنّ ذلك لا يتنافى مع مفهوم الكرم والسخاء ولا يُعتبر إلغاء الوضائم نقصاً في الشهامة العربيّة إطلاقاً. فسهولة المواصلات والتنقلات اليوم، هي الرد الكفيل على القضاء على هذه العادة المحببة(قديماً) والتي تُثقل أهل الفقيد مع ما تتطلبه من وقت وتحضيرات، فإنا إن إتجهنا من أقصى الشمال إلى الجنوب، ومن الساحل إلى الداخل وبالعكس، فإننا لا يلزمنا أكثر من ساعة ونصف للوصول إلى المكان المطلوب وهذا الوقت لا يحتاج معه إلى طعام وحتى شراب.

فمتى نأخذ بأيدي بعضنا بعضاً واعين لأهمية تجاوز هذه العادة (الوضيمة) وننصرف إلى ما هو أفضل فنتفرغ إلى مواراة أمواتنا والدعاء والغفران وإدخالهم فسيح الجنان. وبدلاً من الطعام على أرواحهم الذي يذهب بالأعم الأغلب هدراً.

وبدلاً ممّا تقدم ننفق هذه الأموال على المحتاجين فعلاً أو المشاركة في الأعمال الخيريّة عامّة. وهذا ينطبق على ما يُقدّم من دُخان أو التدخين بشكل عام، الذي كثرت فيه المقالات الطبيّة ونشرات الإعلان والإعلام وكل منّا أدلى بدلوه في النهي عنه لما يسببه من أمراض صحيّة وأعباء ماديّة وضرر على مستوى الفرد والجماعة معاً.

فمتى نقلع عن هذه العادات، ونحصن أنفسنا ونخلص لمحبينا ونعمل من أجل الصالح العام، بدلاً من التمسك بعادات لا تقدم ولا تسهم في رعاية المجتمع بشيء. يقول الإمام عليّQ: «لا تقسروا (أو تكرهوا) أولادكم على عاداتكم فإنّهم ولدوا لزمان غير زمانكم».

الهوامش:

الوضيمة: الطعام الذي يقدم في حالة الأتراح.