الرُّؤية الفكريَّة والفلسفيَّة للعلاّمة الطباطبائي

25/02/2014
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

أُطروحة أُعدّت لنيل الدكتوراه في الفلسفة

دراسة في المنهج

للشيخ أحمد محمّد قيس

الفلسفة، نبض الحياة، حبّ الحكمة، معرفة الإنسان نفسه، علم الأشياء الأبديّة الكليّة بقدْر طاقة الإنسان.. العلم بالوجود، بمبادئه وعلله.. معرفة الأمور الإلهيّة والإنسانيّة وإدراك غير المحسوس في عالم مُتقدّم.. اتّجاه مثاليّ ذاتيّ يرتبط بالتّطوّر السّريع للعلم بكلّ أشكاله وأنواعه..

وبحسب العلماء، فقد تغلّبت فلسفة الحياة على قصور الماديّة الآليّة باعتبارها المبدأ المطلق اللانهائي للعلم، في حركة أبديّة ديناميّة. وصورة حسيّة تنشأ في الذهن كانعكاس لمواضيع حسيّة تُدْرَك حَدْسيًّا ، كما أنّها ممكنة البلوغ بالعاطفة وبصفة أساسيّة العاطفة الدينيّة بإرادة وعوامل داخليّة أو العرض اللاعقلاني للقوى الرُّوحيّة التي كانت أحد العوامل الرئيسة لفلسفة الحياة، المصدر الإيديولوجي للفلسفة العامّة.

استهلّ الشيخ أحمد قيس مقدّمة أطروحته التي نوقشت في كليّة الآداب قسم الفلسفة وحازت درجة جيّد جدًّا، بشرح مطّرد وبأسلوبٍ رصين وألفاظ بيّنة وقويّة، بنَفَس عالِمٍ متمكّن ومُتضلّع من اللغة، لا بدّ لمن يطّلع عليها من الدّارسين أن يجد فيها ريح المنبر الذي اعتاده الشيخ قيس، فيقول:

«شكّلت الفلسفة الاسلامية، بمذاهبها المختلفة، لبنةً جديدة ومهمّة جدًّا في صرح الفلسفة وحركة التفلسف والنّظر عبر التّاريخ، كما أسهمت في تحفيز الفكر الانساني وأضافت إليه جديدًا من العطاءات والجهود المتميّزة التي قام بها بعض الفلاسفة منذ ما قبل القرن التاسع الميلادي وصولاً إلى بدايات القرن الحالي وتركّزت أهميّة هذه الجهود التي أتى بها هؤلاء الفلاسفة، أنّهم نظموا ما اقتبسوه من الفلسفة اليونانيّة، نظامًا مُنَسَّقًا فيه الكثير من التّجديد والابتكار»...

أهميّة الموضوع،

تنطلق أهميّة هذا البحث من جهة أنّه يًسلّط الضّوء على شخصيّة تُشكّل رافدًا من روافد الفكر الفلسفي الاسلامي المعاصر، كما أنّها تُظهر النّواحي التي تميّز بها عددٌ كبيرٌ من الفلاسفة، أو لجهة التركيز على الجانب المعرفي الذي يُشكّل رُكنًا مُهمًا في البناء الفكري الفلسفي.

ومن خلال التركيز على نظريّة المعرفة ومبانيها والآراء المختلفة حولها، اكتشف العلاّمة الطباطبائي مسألة الادراكات الاعتباريّة، التي عالجها في كتابه «أُسس الفلسفة والمذهب الواقعي» وأضاء عليها بإسهاب وإيضاح فضيلة الشيخ أحمد قيس.

هنا يمكن القول أنّ أهميّة هذا الموضوع تتلخّص بالآتي:

دراسة شخصيّة العلاّمة الطباطبائي الزمنيّة والعوامل المؤثّرة فيها، كذلك دراسة تكوينها الفكري والعلمي وروافدها وما نتج منها من آثار، أو نشاط أو آراء وأفكار، وخاصّة أنّ المكتبة العربيّة لا تزال تفتقر إلى مثل هذه المواضيع وإلى هذا التّنوّع من الإحاطة بشخصيّة الطباطبائي، وإن وُجِدَ شيء منها، فإنّه، إمّا فَضفاضٌ مِنْ دون عُمقٍ، وإمّا لا يفي بالمطلوب، بالإضافة إلى دوره بالتّصدّي لمسألة الماديّة الجدليّة التي كانت تغزو بلاد العرب...

الماديّة الجدليّة..

هي النّظرة العلميّة الفلسفيّة للعالم، وهي جزء مكوِّن لبعض المذاهب وأساسه الفلسفي، وقد نشأت في الأربعينيّات من القرن التّاسع عشر، وتطوّرت، مرتبطة بالتّقدّم العلمي وبمسيرة الحركة العمّاليّة ، وكان ظهورها ثورة في تاريخ الفكر الإنساني وتاريخ الفلسفة لارتباطها الوثيق بالعلم وبالمسار التّاريخي والزّمني للإنسانيّة.

ولكن وعلى الرّغم من البصيص، من أضواء الجدل، فإن مذاهب المادّيّين القدامى كانت إمّا ميتافيزيقيّة أو آليّة، وكانوا يربطون المثاليّة في نظرتهم للطّبيعة في تفسيرهم للظواهر الاجتماعيّة..

وقد كان بعض الفلاسفة الذين طَوَّروا النّظرة الجدليّة، مِثالييّن في جوهرهم كما يبدو من مذهب «هيغل» إلاّ أنّ ماركس وأنجلز لم يقتصرا على استعارة تعاليم القُدامى وجدل المثاليّين، ولم يقوما بمجرّد عمليّة تركيب، وإنّما انطلقا من آخر الاكتشافات في العلم الطّبيعي ومن الخبرة التّاريخيّة للإنسانيّة، وأثبتا أنّ الماديّة لا يمكن أن تكون علميّة ومتماسكة إلاّ إذا كانت جدليّة، وإن الجدل بدوره لا يمكن أن يكون علميًّا، على الأصالة، إلاّ إذا كان مادّيًّا، وكان لظهور الماديّة الجدليّة في جوهره نقطة الذّروة في العمليّة التّاريخيّة التي أصبحت الفلسفة عِلمًا مستقلاً له موضوع بحث نوعي يشمل أشد القوانين تعميمًا التي تحكم تطوّر الطبيعة والمجتمع والفكر والمبادئ والأُسس العامّة للعلم الموضوعي وانعكاسه في الوعي الإنساني الذي يؤدّي إلى التناول العلمي السّليم للظواهر والعمليّات، أي إلى منهجٍ لتفسير ومعرفة وإعادة بناء الواقع...

وقد حوَت الدّراسة، العديد من المواضيع، منها:

لائحة المختصرات ودوافع اختيار الموضوع، ونقد للمصادر والمراجع والحالة الثقافيّة في عصر العلاّمة الطباطبائي، والغزو الفكري والثّقافي، ونظريّة المعرفة عنده، وظهور الكثرة في الإدراك والادراكات الاعتباريّة وخصائص الاعتباريّات وامتيازها عن الإدراكات الحقيقيّة أو الطّبيعيّة وعلاقتها بأصْلَيْ الجهد والتّكيّف وروافد المعرفة والنُّبوّة والشعور المرموز والعرفان وقيمته المعرفيّة وعلم المناهج والتّفسير، والفلسفة الكلاميّة والذّوق والأخلاق، وفي المسائل العلميّة والاجتماعيّة والتّاريخيّة والوجود، والماهيّة والحركة الجوهريّة والأدلّة العقليّة والنقليّة، وإثبات ذات الله عزّ وجل، وإثبات الوجدانيّة، وتوحيد الواجب في الرّبوبيّة والصّفات الإلهيّة، وأصل الكون ونظريّة التّطوّر، وحياة المرأة في الأمم غير المتمدّنة وفي الأمم المتمدّنة، وحياة المرأة في المدنيّة الغربيّة، ومسألة تعدُّد الزوجات، إلخ...

يبقى أن نشهد ونُبارك جهود الشيخ الدّكتور أحمد محمّد قيس الذي أدّى خدمة جليلة للعلم وللدّارسين من طلاّبه في الجامعات العاملة في لبنان، مُحقِّقًا من ورائها ما كان يأمل تحقيقه العلمي المتقدّم الذي يسبر من خلاله أغوار الفلسفة المتعدّدة والمتباينة في بعض جوانبها ومراحلها ومضامينها ومنطلقاتها ومنعرجاتها ومندرجاتها...

وقد جرت العادة أن يُسطّر الطالب شكره لكلّ من ساهم وساعَد ومدّ يد العون له، بيد أنّ خصوصيّة ومكانة هؤلاء الأساتذة تقتضي شكرهم، عملاً بالحديث المشهور: «من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق»، فخصّ الشّيخ أحمد محمّد قيس بالشّكر، المؤرّخ المرحوم حسن الأمين، والمرحوم الدّكتور الوائلي، والدّكتور هادي فضل الله حفظه الله، وابن عمّه القاضي الشيخ الدكتور يوسف محمد عمرو أطال الله عمره، الذي يتفضّل عليه دائمًا بالتّوجيه والنّصح والإرشاد.

د. عبد الحافظ شمص