مكوّنات التلقيّ الأدبيّ - الحلقة السادسة

25/02/2014
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم: البروفيسور عاطف حميد عوّاد

القراءة:

ينطوي هذا المبحث على التعريف بماهية القراءة بوصفها حدثاً، ثم يتمُّ التطرق إلى مستويات القراءة؛ لتكون النهاية مع «جمالية التلقي» وكيف قاربت العمل الأدبي؟

تحت الجذر(ق. ر. أ) تجتمع كوكبةٌ من الدلالات:«وقرأتُ الشيء قُرآناً: جَمَعْتُهُ وضممْتُ بعضهُ إلى بعضٍ.(...) لم تقرأْ جنيناً أي لم تُلْقِهِ، ومعنى قَرَأْتُ القرآن: لفظتُ به مجموعاً أي ألقيته(...) ويقال: قَرَأَتِ المرأةُ: طَهُرت، وقرأَتْ: حاضتْ(...) وقرأتِ الناقةُ: وَلَدَتْ(...) وأقرأت الرِّياح: هبَّتْ لأوانها»(1)، تفرزُ هذه البيانات دلالات متعددة فالمصدر «قراءة» يغدو مثل النواة الذي يتحمل بشظايا تفرعات الجذر، وعليه تأخذة «القراءة» دلالات الجمع والضمِّ والإلقاء والطهر والحيض والولادة والهبوب، فالقراءة من جهة هي جمعٌ للغة إلى داخل القارئ، فالقارئ الذي يمارس القراءة إنما يجمع الكتب والنصوص والكلمات إلى داخله، ومن هنا ارتباط فعل القراءة بمفهوم «الجوع»، فكما أنَّ الجائع يجمع الطعام إلى داخله لتسكت الرغبات، كذا القارئ يلتهم النصوص والكتب لإسكات الرغبة إلى المعرفة أو التزود بالمعرفة، وقريباً من ذلك مادة «الضم»، فالذي يقرأ يضمُّ الكتاب إليه، يستحوذ عليه، ومن هنا الارتباط بين فعل القراءة وفعل المتعة، حتى أنَّ رولان بارت يشبه فعل القراءة بالفعل الجنسي وغير خافٍ على المطلع عنوان كتابه بـ «لذة النَّص».

في حين تعكس دلالة «الإلقاء» مستوى آخر من القراءة، فأمَّا المقصود هو إخراج الكلمات أثناء القراءة أي التلفظ بها، وهذا ما نسميه القراءة المسموعة (الجهرية) أو أنَّ القراءة بوصفها إلقاءً تعني إخراج نتاج القراءة بوصفها دراسة للنَّصِّ، كذلك تمكن مماثلة فعل القراءة بـ«الطهر»، والطهر هو إنجاز نظافة الجسد، وتأتي القراءة لتنقل من حال الجهل (الدرن) إلى حال المعرفة (النظافة) والتطهر من أدران الجهل، وبالمثل يمكن إجراء مماثلة بين فعل القراءة وفعل الهبوب، فإذا كانت القراءة تكتسح النَّص وتكشف عن أوصاله وطبقاته وبنياته، فإنَّ الرياح بهبوبها تمشِّط الأرض وتميط اللثام عن سطحها، أمَّا دلالة «الولادة» التي تستدعيها القراءة، فالقارئ الذي يقرأ كتاباً / نصاً لا بُدَّ وأن يَنتج عن ذلك ردُّ فعلٍ ينتهي بتعليقٍ أو مراجعةٍ أو معرفة ضمنية، من خلال ذلك ينتقل القارئ من حال إلى حالٍ، من مستوى أنطولوجي إلى مستوى أنطولوجي مختلف بفضل المعرفة المكتسبة، فدلالة الولادة كامنة في القراءة بوصفها فعلاً معرفياً منتجاً.

وتبقى أخيراً مفردة الحيض: وقرأت المرأة: حاضت، والحيض لدى المرأة مرتبطٌ بالآلام والصعوبة والشّدة، ومن هنا نجد أن فعل القراءة ليس بالفعل البسيط والسّهل، فالقارئ الحقيقي يجد معاناة كبيرة، ويستنزف الجهد لفهم النص بعلاماته وتراكيبه ومجازاته، بهذا الشكل من التأويل للمستوى المعجمي يمكننا الانتقال إلى المستوى الاصطلاحي، فماذا تعني القراءة اصطلاحاً؟

في مقالة شديدة الكثافة يعرّف الباحث الفرنسي فانسوف يوف القراءة بوصفها فعلاً مركباً، ويقول حرفياً: «إنَّها نشاطٌ متعدد الأوجه، إنَّ القراءة نشاطٌ معقد ومتعدد ينمو في اتجاهات عديدة »(2)، ويحدِّد الباحث هذه الأبعاد والاتجاهات التي تتمثَّل بكون القراءة مجموعةً من السيرورات(3): ذهنية ـ فيزيولوجية، معرفية، عاطفية، حجاجية، رمزية، هذه السيرورات التي تشكِّلُها القراءة عبر علاقة القارئ بالنَّص هي التي تمنحها القوة في أن تكون استراتيجية الكائن لفهم العالم والنَّص.

غير أنَّ الدراسة غير مشغولة راهناً بإبستمولوجية القراءة، وإنَّما ينحصرُ هدفُها الأساس في الكشف عن طبيعة القراءة الأدبية أو القراءة النقدية للعمل الأدبي، وحتى يتضح ذلك سنحاول التعرض لفعل القراءة في نظرية التلقي، وبهذا الشكل سنحاول تجاوز مستويات القراءة المختلفة والكثيرة: القراءة السوسيولوجية، والبنائية، والسيميائية والتفكيكية، والتاريخية... إلخ وهذا الاكتفاء بجمالية التلقي لا يعني تفضيلها على أنواع أو مستويات أخرى من القراءة المذكورة، وإنَّما لأنها ـ جمالية التلقي ـ تخدم عنوان هذه الدراسة، وستعرّف القراءة الأدبية بأنَّها ذلك الشكل من المقاربة الساعية إلى الكشف عن بنية النص الأدبي، وفي الوقت ذاته إزالة الحجاب عن الأسرار والقوانين التي تحتم على هذا النَّص أن يبقى في حالةِ إنتاجية مستمرة عبر المسار التاريخي لتلقيه في إطار اجتماعي ـ ثقافي محدد.

3ً ـ 1 ـ جمالية التلقي لدى هانس روبرت ياوس: أفق التوقع والمسافة الجمالية:

أشرنا ـ سابقاً ـ أنَّ نظرية التلقي أو جمالية التلقي أسست قراءتها أو طريقتها في قراءة الأعمال الأدبية على الحوار بين النص (بوصفه كائناً من الماضي) والقارئ (بوصفه كائناً في الحاضر)، ولذلك كان الحوار بين النص والقارئ المسار الذي يقود إلى التفاعل بين الكائنين، ولذلك لم يكن «المعنى» كائناً في النص أو في القارئ، وإنَّما ينبثقُ عبر محور القراءة التفاعلي بين القارئ والنص ويبرز هذا الأمر على نحو لافت في قول ياوس: «إذا عرَّفنا العمل بما هو حصيلة تلاقي النص وتلقيه، وبأنَّهُ مِنْ ثَمَّ بنية دينامية لا يمكن إدراكها إلاّ ضمن تفعيلاتها التاريخية المتعاقبة، فسيمكننا بيسرٍ أن نميّزَ فيه بين «الأثر» أي وقع ذلك العمل، ثم «تلقِّيه، ويؤلِّف هذان المكوِّنان عنصري تفعيل العمل الفني والأدبي أو العنصرين البانيين لـ «التقليد» فالأول، أي الأثر، يحدده النص، والثاني، أي التلقِّي، يحدده المرسل إليه، ويفترضُ الأثر نداءً أو إشعاعاً آتياً من النص، وكذا قابلية المرسل إليه لتلقي هذا النداء أو الإشعاع الذي يتملكه »(4)، غير أنَّ هذه القراءة القائمة على التحاور والتفاعل لم تنبثق في نظرية التلقي إلا بالاستناد إلى دعامات فلسفية، امتدَّ إليها فكر هانس روبرت ياوس حيث أشاد دعائم قراءته على هرمينوطيقا الفيلسوف الألماني هانس جورج غادامير.

وما يهمنا هنا هو جهاز القراءة الذي اعتمده ياوس، ويتمثَّل بمفهومي أفق التوقع والمسافة الجمالية للقراءة أو التفاعل مع العمل الأدبي.