ديوان منسي لشاعر مبدع

25/02/2014
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

محمد موسى الحاج يوسف

جمع قصائده وكتب مقدّمته

ولده الدّكتور خوستو

د. عبد الحافظ شمص

من المعلوم أنّ الشّاعر موهوب بحكمة، تجعله أسير هواجسه المتلوّنة بألوان الحياة، وهو يُعاني لأنّه شديد الحساسيّة.. والحكمة تقضي بأن يرى في كلّ شخص تلك المسافة التي تُفضي إلى الخلود. يُسامح، يتعلّق بوجوده الشاعري والانساني برؤيته المختلفة للكون كما لكلّ الأشياء والكائنات التي خلقها الله على هذه الأرض، يتفكّر دائمًا في خَلْق السموات والأرض وما بينهما وهو بحالة الوعي الكامل، يرى ببصيرته النّافذة ما لا يراه غيره.

وللشّعر، كما للشّاعر، سمات، نوعيّة الشّكل الفنّي الذي يُدخله كلّ شعب على فنونه الأدبيّة، ويُلاحظ علم الجمال الذي يعتبر الفنّ الشّعري انعكاسًا للواقع، وأنّ أشكال هذا الانعكاس ترتبط بالسّمات النوعيّة لحياة الشّاعر في بيئته الاجتماعيّة التي لها تقاليدها وعاداتها، بشخصيّة ونفسيّة فريدة، وأنّ كلّ هذا يُضفي على الفنّ الشّعري لونًا خاصًا بلغة صافية تُثري الواقع.. والشّعر الحقيقي الصّافي يكون دائمًا فنّيًّا عالميًّا يعكس أعماق روح الشعب لأنّه يُمثّل ويحمل عناصر إنسانيّة عامّة.. ويتحدّد التمازج الأدبي في الفنّ بطبيعةٍ متفرّدة تجمع ولا تُفرّق...

فقرية «بنهران» الجميلة التي تطلّ على سهول الكورة الخضراء وتُحيط بها أشجار الزيتون الوارفة الظلال وتعلوها الأحراج التي تصونها من أعاصير الطبيعة وعواصفها، وُلد الشّاعر محمد موسى الحاج يوسف في العام 1904م. واكتحلت برؤيته نواظر والديه وابتهجت بقدومه الأفئدة والقلوب، حيث السكينة والهدوء، نشأ وترعرع في جو هادئ ومثالي، أحبّ العلم وعشق الكتاب، وتفتّحت قريحته الخصبة، كما حصل لغيره من الأفذاذ الذين كانت أفكارهم وقرائحهم تُشحذ في ذلك الجوّ المثير كجبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، رشيد سليم الخوري، خليل مطران وغيرهم من الذين كانت لهم اليد الطولى في إحياء التّراث وإغناء اللغة العربيّة وآدابها...

في بداياته تتلمذ على يد أستاذه الشاعر يوسف جبّور الخوري من قرية «عين عكرين» المجاورة، حيث كانت له القدَح المعلّى في كلّ ما هو مطلوب في مدرسته.. واستمر على هذا المنوال إلى أن اشتدّ عوده وظهرت موهبته فراح ينهل من معين العلم ويبتدع القصائد الشعريّة، في زمن لم يكن بوسع أحد من أبناء القرى المجاورة تحصيل ما تصبو إليه نفسه من المعرفة ومن العلم، فكان، بحقّ رائد جيله في ذلك الحين...

منذ فترة وجيزة وصلت إلينا نسخة من ديوان الشّاعر المرحوم محمّد موسى الحاج يوسف، الصّادر في العام 1998 والذي جَمَع قصائده وأشرف على طبعه، ولده الدّكتور خوستو محمد موسى، المولود في الأرجنتين، بواسطة سماحة العلاّمة القاضي الشّيخ الدّكتور يوسف عمرو، وقد رأينا أنّه من الواجب الإضاءة على مضمون هذا الدّيوان المنسي فعلاً، كما هو عنوانه والذي لم يرَ النّور إلاّ في هذه الأيام وعلى قصائده التي تدلّ على شاعريّة صاحبه، وعلى متانة لغته وصحّة مبانيها ومعانيها، وعلى أنّه رحمه الله من كبار شعراء عصره والذي لم يُنصفه التّاريخ ولا الدّولة في أيّ من أيّام حياته... في العام 1912 كان الفقر والجوع يقُضّان مضاجع الشّعب في لبنان، فلم يعد أمام والديه إلاّ أن يشدّا رحالهما مع كثير من اللبنانيين إلى الأرجنتين بحثًا عن الأمان وعن العيش الكريم، وبالفعل فقد أخذ والده يعمل ويجتهد ويكسب رزقه هناك ويعود إلى بيته آمنًا مطمئنًّا على الرغم من قساوة العمل في بلد غريب لا يفهم لغة أهله في حينه.. وتابع عمله بنشاط ولكنّه كان يحنّ إلى وطنه وإلى بلدته التي أحبّها وأحبّ أهلها وناسها...

لم يطل الأمر بهم في بلاد الاغتراب، فعادوا إلى الوطن وإلى «بنهران» بالذّات، بعد الحرب العالميّة الأولى، وبعد أن اكتمل نضوج ولده الفكري وتفتّحت قريحته، وأمسى ينظم الشّعر بالسّليقة وجاءته ربّة الشّعر مذعنة، تفيض بكرمٍ على خياله المبدع واستقرّت في وجدانه وهو الشّاب الغضّ وأعطته ما طاب له وأراد، وجاءت قصائده من نسْج الطبيعة والواقع المرير الذي عاشه شأن كل شاعر عصاميّ، وأصبحت كتاباته كلّها شفّافة رقراقة أصيلة.

وبعد أن استقرّ وضع الشّاعر المادي واستتبّ له العيش مؤمّنًا مستقبله، عكف على نَيْل ما تتوق إليه نفسه بمسؤوليّة الرّجل الناضج فاقترن بابنة عمّه وتمّ زواجهما سنة 1927... وبقي يُناضل لأجل البقاء دون أن ينسى غذاءه الرّوحي وعطاءه الفكري سنةً بعد سنة ناشرًا قصائده ومقالاته تباعًا في مختلف وسائل النّشر التي تصدر في لبنان وفي بلاد الاغتراب.

من قصيدة له، هذه الأبيات:

أوّاهُ، من رجل تَبوّأ منصبًا

كم في تبوّئه من الأخطار

خاطبته شأن الكبار بلهجةٍ

فصحى فأنكر أيّما إنكـار

أتراه ينطق حين يُعلن حكمه

أَوْلى بمنصبه من السّمسار

لغةُ العروبة مذهبي وعقيدتي

وفصيحها سرٌّ من الأسرار...

ومن قصيدة مهداة إلى أستاذه الأوّل يوسف جبّور الخوري:

قسمًا، أَصبتُ على يديكَ الجوهرا

لمّا وَرَدتُّ السلسبيل الكوثـرا

فأراحني أرجُ القريض ولـم أزل

أشتاق مِنْ ريّاكَ مِسكًا أَوْفـرا

فعنا ودان ليَ القريض وصُغتُـه

دُررًا أهمُّ مِنَ النِّضار وأَنضرا...

ويقول الدّكتور خوستو عن والده:

«كنا نحن، أبناء الشّاعر، ننهل من بحر علومه ونغترف من فيض إرشاداته الحكيمة ووعيه النّاضج ونحلم بالمستقبل الزّاهر، ولذلك قرّر والدي أن نتمّم دراساتنا الجامعيّة في الأرجنتين لعدم وجود جامعات وطنيّة في لبنان، ولعدم قدرة الوالد المادّيّة، فقرّر السّفر إلى حيث وُلدنا ونشأنا وحيث فرص العلم مُتاحة.. عُدنا بعد إنهاء تخصّصنا إلى لبنان حيث بدأت مسيرتنا العمليّة».

ويتابع: «يُسعدني أن أزفّ إلى قرّاء العربيّة وأدبائها الكرام بُشرى، ألا وهي هذا التّراث الأدبي الذي تركه والدي ذخرًا وكنزًا لوارثيه من أبنائه ولمن يصل إلى يديه، ليدركوا ما كان عليه الوالد رحمه الله من شاعريّة فذّة ووطنيّة خالصة.. شاكرًا كلّ من قدّم لي المساعدة والنّصيحة لإنجاز هذا الدّيوان، وأخصّ بالشكر سماحة الباحث القدير والمؤرخ السيّد حسن الأمين العامليّ على ما أبداه من التوجيهات القيّمة، أو النصائح السديدة لإنجاز هذا الديوان. والشّاعرة النبيلة السيّدة نبيلة حسن علي والأستاذ علاء آل جعفر».

ومن قصيدة له مُهداة إلى صديقه المحامي والمترجم سمعان موسى في العام 1951:

مِنْ أرض طه والمسيح الفـادي

ومَواطن الآبـاء والأجـداد

يمّمتُ وجهي حيث نبراس الهدى

سمعان موسى وجهة القصّاد

غـادرتُ لبـنان المفدّى مثلمـا

غادرت فيـه فلـذة الأكبـاد

إن البنيـن الصالحيـن لَزينـةٌ

لا تجهلـنّ محبّـة الأكبـاد

فاسلم وَدُمْ عَلَم العروبة خافقًـا

في هذه الدّنيـا لأهل الضّاد...