قصة من الواقع «عين عكرين» و «بنهران»

25/02/2014
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم: الأب حليم عبد الله(1)

وطلع النهار، فتطلّعوا إلى المنطقة المجاورة لمركز عملياتهم الحربيّة، فرأوا مئذنة تشقّ الفضاء في قرية على تلّة مقابلة، فلم يرق المشهد لبعضهم. مع أن المئذنة هي أصلاً لدعوة المؤمنين إلى الصلاة ولتمجيد الله وتسبيحه. ولا يوجد أي خلاف بين إله المئذنة وإله الكنيسة. وإنما الخلاف، إذا وقع، فهو بين تجار الاثنتين معاً. وقد سبق أن قام مثل هذا الخلاف خلال التاريخ، وقام، بين أتباع الاثنتين، من «جدل سوطاً» وانهال به على ظهور التجّار، بحجّة أن «بيته بيت صلاة يدعى»، وقد جعله التجّار «مغارةً للّصوص».

كانوا قد وصلوا إلى «عين عكرين» ليلاً لفتح جبهة على تلّتها تقف في وجه الجبهة المفتوحة في الكورة (في قلعْ أميون)، فلم يروا شيئاً حولهم، ولما طلع الصباح، رأوا في القرية الشيعيّة المجاورة لعين عكرين، مئذنة. فأراد بعضهم أن يهدمها ويهجّر أهل البلدة ويستولي على ممتلكاتها. مع أنّ أبناء «بنهران» وابناء «عين عكرين» يعيشون معاً منذ سنة 1820 تقريباً، ولم يعكّر هناء حياتهم أي معكّر. يتنافسون في الخدمة، والتعاون، وفي أداء الواجبات الإجتماعيّة والإنسانيّة، ففي صيام رمضان، كان أبناء عين عكرين المارونيّة، يذهبون إلى بنهران يساعدون إخوانهم الشيعة في حصاد القمح، إذا وقع رمضان في شهر الحصاد. لأنّ الحصاد وحرّه ثقيلان على المفطر، فكم بالحري على الصائم. وفي صيف 1979، لما شبّ حريق في الهشيم وكروم الزيتون المجاورة لبلدة بنهران، وكاد أن يودي بالبيوت، هبّ أهل عين عكرين: شباباً وشيوخاً، مُسرعين لنجدة إخوانهم أبناء بنهران، يساعدونهم في إطفاء النّار، بدون تمنين ولا تبجّح، معتبرين أنهم يساعدون إخوة لهم، وأنّهم لا يفعلون إلا واجبهم.

وكان ابناء بنهران يأتون، في مناسبات عديدة، يساعدون إخوانهم وجيرانهم أبناء عين عكرين، في المآتم والأعراس، والثريا التي قدّمها أبناء بنهران إلى كنيسة عين عكرين، والتي تضاء في أوقات الصلوات والقداديس والزياحات، والأكاليل، والمآتم، تشهد لهذه الأخوّة.

وجرس عين عكرين الذي كان يقرع ـ لما لم يكن أحد يملك ساعة إلا كاهن البلدة ـ ظهراً في صيام الموارنة ليعلن ساعة الغداء للموارنة، ويقرع مساءً في شهر رمضان، ليعلن وقت الإفطار لأبناء بنهران الشيعة، يحكي عن هذه الأخوّة أيضاً.

لذلك، لم يقبل أبناء عين عكرين، مع الوافدين لفتح جبهة على تلّة بلدتهم، أن يُمًسَ حجر أو إنسان من بنهران، فقال لهم واحد من أبناء عين عكرين:»أنتم آتون لنجدتنا ومساعدتنا على ردّ المخاطر عنا. وغداً سترجعون أنتم إلى قراكم، وسنبقى نحن هنا مع جيراننا. ونحن وإياهم إخوة، فلا نرضى أن يكون مجيئكم لإحداث شقاق بيننا وبين إخواننا». وحسم الموضوع بهذا الكلام.

وطال مكوث المقاتلين في عين عكرين، وكانت مدافعهم التي تقصف مركز الجبهة المعادية لهم، مكشوفة على ابناء بنهران، ولم يعط واحد منهم أيّ تعليمات عن مواقعها.

واشتدت المعارك بين قلع أميون وتلة عين عكرين، حتى بات يتعذّر على أبناء بنهران أن ينزلوا إلى الكورة أو إلى طرابلس، لشراء حاجياتهم، فكان أبناء عين عكرين يأتونهم بها على ظهور الحمير، لأنّ طريق السيارات التي تصل عين عكرين ببنهران، تقع تحت مرمى رصاص الجبهة الثانيّة.

ومرّت أيام على هذا المنوال، إلى أن خُطف أحد أبناء بنهران على أيدي جماعة مسلّحة من بلدة أخرى مجاورة. فتدخّل أبناء عين عكرين، واسترجعوا المخطوف سالماً. ولسلامة نواياهم ظنّوا أنّ الخطر قد زال، وأنّ الويل قد عبر. ولكن تبيّن لهم سريعاً أنّ سلامة النوايا والمسالمة في المعاملة، لا تقتلع الشر من قلوب الآخرين. فبعد يومين أو ثلاثة خُطف رجل ثان من بنهران وقُتل على الفور، قتله الخاطفون فوراً، قبل أن يعرف أحد ويتحرّك لإنقاذه. فتحرّك أبناء عين عكرين، وأوفدوا ثمانية شبان مسلّحين يحرسون إخوانهم أبناء بنهران. أربعة منهم في الليل وأربعة في النّهار. وحاولوا أن يأخذوا معهم طعامهم؛ وكأنّهم يجهلون مناقبيّة أبناء بنهران. في حين أنّ الصغير والكبير في عين عكرين، الذي يذهب إلى بنهران في زيارة أو في رحلة صيد، يعرف كرمهم ورحابة صدرهم. وفي حين أن أبناء عين عكرين جميعاً يعرفون أن أبناء بنهران هم الّذين آووا أجدادهم وحضنوهم، لما أتوا من «كفرشخنا» مهجرّين في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر. يومها تركوا كفرشخنا بسبب خلاف مع إخوتهم على إقتسام الأرض، فجاؤوا إلى بنهران فاستقبلهم أهاليها.

لذلك، لم يقبل أبناء بنهران إلا أن يشعروهم بأنّهم في بيوتهم، فكانوا يتنافسون في خدمتهم، وفي تقديم المأكل لهم والمنامة والتدفئة. وظلّوا في بنهران أكثر من ستة أشهر لطمأنتهم، ولم يشعروا إلاّ وكأنّهم أبناء وأخوة لأهالي بنهران.

ودخلت قوات الردع العربيّة إلى لبنان، وحصلت تطورات كثيرة في المنطقة، فتغيّرت المواقف السياسيّة، وانقلبت معها موازين القوى العسكريّة. فبات يتعذّر على بعض أبناء عين عكرين أن ينزلوا إلى طرابلس لشراء حاجيّاتهم أو لقبض رواتبهم، فكان أبناء بنهران يقومون بهذه الخدمة. ولا يزال حتى هذه الساعة (1980) بعض أبناء بنهران الّذين يشتغلون في طرابلس يقبضون مرتبات بعض زملائهم في العمل، ويوصلونها إليهم حيث هم.

ولم يكتف أبناء بنهران بهذا القدر من الحفاظ على جيرانهم، بل إنّ واحداً منهم، وهو وجيه بين قومه وفي المنطقة، وله احترام وكلمة مسموعة، قد وظّف مكانته ونفوذه في سبيل الحفاظ على كرامة ابناء عين عكرين وسلامتهم. فشرح لبعض المسؤولين في القيادات الحزبيّة والأمنيّة في المنطقة، حقيقة موقف ابناء عين عكرين خلال الأحداث، وقبْلها. وهكذا وفّر عليهم الكثير من المشقّات.