وداع الأحبة السيد بهيج سليم اللقيس أرزة من بلادي

25/02/2014
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم ولده: المحامي محمد نديم اللقيس

فجر يوم الأحد في الثاني والعشرين من كانون أوّل من العام 2013م. تجمدت البسمة على الوجه الصبوح ورحلت البهجة التي كانت تتسلل إلى أسرتنا الدافئة في ليالي كانون الباردة وتهدهد في أحلامنا البريئة وبراعم طفولتنا الناشئة حكايات الزير أبي ليلى وقصائد المتنبي وأمرؤ القيس وأبي تمام وأمير الشعراء أحمد شوقي، وسقط الغصن الندي الرطيب من الجوزة الخضراء المنتصبة كالطود أمام مصطبة بيتنا التراثي العريق في مدينة بيبلوس ـ جبيل، وتوقفت أسراب البلابل والحساسين التي تزورنا كل صباح عن الشدو والغناء، وران على مدينة جبيل صمت ثقيل وسكون مهيب... لقد رحل آخر العمالقة.. السيّد بهيج اللقيس(ابو عمر) ـ رحمه الله.

الفقيد الغالي من مواليد مدينة الحرف والأبجديّة «بيبلوس» جبيل من العام 1919م. والده المغفور له سليم عبد الحميد اللقيس (أبو بهيج) أحد أركان مدينة جبيل وأعلامها الغر الميامين ومؤسس «وقف جامع إسلام جبيل» وعضو المجلس البلدي لمدينة جبيل لما يناهز ثلاثين عاماً من الزمن. ووالدته السيدة الفاضلة سميا حسين اللقيس (أم بهيج)، متأهل من السيدة الكريمة أميمة محمد بليق.

وهو والد لخمسة أبناء وإبنة وهم:1) عمر، رئيس المكتب التربوي في بعبدا. 2)محمد نديم، محامٍ بالإستئناف. 3) إيمان، محامية بالإستئناف. 4) خالد، صيدلي. 5) سليم، تاجر أقمشة. 6) عبد الحميد، المدير الإقليمي للشركة السعوديّة للطيران «ناس».

تلقى (أبو عمر) علومه الإبتدائيّة والمتوسطة في مدرسة الفرير للأخوة المريميين في مدينة جبيل، ومن ثُمّ أكمل علومه الثانويّة في مدرسة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في بيروت حيث نال شهادة البكالوريا ـ القسم الأوّل.

 

من أبرز المواقف والمحطات التاريخيّة في حياة السيّد بهيج اللقيس. نذكر ما يلي:

أ ـ في مبادئه الوطنيّة ونشاطاته الإجتماعيّة والإنسانيّة وخدماته الجلّى لأبناء مدينته «جبيل» والجوار:

كرّس الوالد الحبيب حياته لمساعدة أبناء جبيل وقضائها وتلبية مطالبهم واحتياجاتهم والدفاع عن حقوقهم ومصالحهم وقضاياهم، واضعاً جميع إمكانياته المادية والمعنويّة في تصرفهم وتحقيق ما يصبون إليه من عيش لائق كريم، فما أوصد بابه بوجه طارق أو معوز أو محتاج، ولا أصمّ أذنيه عن نداء أو إستغاثة أو طلب معونة أو تفريج كرب أو رفع ضائقة أو ظلم، فكان مثالاً يحتذى في مناقب الخير والبرّ والتكافل الإجتماعيّ البنّاء والتعاون الإنسانيّ المعطاء.

وكان والدي الحبيب جبيلي الهوى والمحتد والنشأة والميل والفؤاد، أحبّ مدينته العريقة جبيل بسهلها وجبلها وحجرها والبشر، حتى العشق والوله والهيام.

كما نسج علاقات ودّ وصداقة وأخوة راسخة ومتينة مع أبناء قرى بلاد جبيل كافة، من إهمج ولحفد ومشمش وقرطبا والعاقورة وفتري وبير الهيت وعنايا وقرنة الروم، حتى علمات والنبع وطورزيا وعين الدلبة وفرحت والحصون وفدار وبشتليدة وقرقريا ومشّان والمغيري، وصولاً إلى مزرعة السيّاد وأعالي جرود اللقلوق، وإذا ما إلتقى أحداً من أبناء هذه المناطق الوادعة والمحببة إلى قلبه، انفرجت أساريره وبادره بالتحية والبشاشة التي لم تكن تفارق محياه بكياسة وظرف قلّ نظيره: «كيفك يا ابن عمي»!

ولا أزال أسمع كلماته ترن في أذني في هذا السياق:

«يا نديم.. إنّ ذرة من تراب بلاد جبيل تساوي بنظري ذهب العالم قاطبة».

وكان «أبو عمر» متميزاً بإعتداله وتسامحه وانفتاحه على الآخرين واحترامه لمن يخالفه الرأي والمعتقد وإيمانه الثابت بالتفاعل الروحي البناء والتواصل الإجتماعيّ السمح بين مُختلف الثقافات والحضارات والمعتقدات، يردد على مسامعنا دائماً الآية الكريمة:}ولو شاء ربك لجعل النّاس أمّة واحدة{.

ومن تعاليمه الغراء ومبادئه العصماء نبذ التعصب والتقوقع والخروج من شرنقة الطائفيّة والمذهبيّة المقيتة إلى رحاب المواطنيّة الجامعة والفكر الإنساني الراقي والرزين والوحدة الوطنيّة السوّية المبنية على أسس القانون والحق وثقافة العدل والمساواة حقوقاً وواجبات.

ب ـ في مناقبيّة «أبي عمر» ومكارمه وتساميه في معارج الإحسان والثوابت والتضحيّة ونكران الذات:

ومع عذوبة كلماته ولياقته ودماثة تعابيره وعفويته المعهودة وسجيته من وداعة الطبيعة التي تربى في أفنائها وعاش في كنفها وترعرع بين روابيها ووهادها والسفوح، عرِف الوالد الرائد بصلابة الموقف والعناد بالحق والتشبث بقيم الكرامة والعنفوان والمنعة وعزّة النفس والجرأة بالقول والعمل، فما لانت له قناة أو وهنت له شكيمة أو عزيمة في الذود عن حقوق ومكتسبات «وقف جامع إسلام جبيل» والوفاء للأبطال الصناديد الّذين أرسوا دعائم هذا الوقف التراثي الجبيلي الزاهر وعلّوا صروحه والمداميك وفي طليعتهم والده المغفور له «سليم عبد الحميد اللقيس».

وهكذا، وعلى قاعدة «هذا الشبل من ذاك الأسد» أكمل «ابو عمر» رسالة جدنا «السيد سليم» (أبو بهيج) وحافظ على الأمانة في صيانة حرمات هذا الوقف ومقدساته وحماية ممتلكاته من عبث العابثين وطمع الطامعين، وكان السد المنيع والمنافح الأمين عن حقوق الجبيليين في وقفهم وأرضهم وتراثهم الحضاري الأثيل.

وكان يوصيني دائماَ:

«نديم.. وقف إسلام جبيل هو هويتنا وتاريخنا ووجودنا... ثابر في دفاعك عن هذا الملف ولا تهمله إطلاقاً... إنّه وقف آبائنا وأجدادنا ـ إنّه وقفنا».

وتجسيداً لغيرته وحرصه على فرادة وخصوصيّة هذا الوقف النهضويّ المارد وأصوله الجبيليّة الضاربة في أنسجة وتاريخ مدينة جبيل منذ مئات السنين، قام الوالد الكريم بصفته رئيس لجنة أوقاف جبيل الإسلاميّة المحليّة، ببناء أسواق تراثيّة متكاملة في صميم العقار رقم 709 / جبيل (خاصة وقف جامع إسلام جبيل) تضم في ثناياها محلات تجاريّة ومركزاً إسلاميّاً لمدينة جبيل، يتضمن مستوصفاً خيرياً مجانياً وعيادة لطب الأسنان، ويديره حالياً إمام المركز سماحة الشيخ غسّان اللقيس (ابن أخت فقيدنا الغالي).

(تراجع لطفاً ـ رخصة البناء الصادرة عن بلدية مدينة جبيل إلى السيد بهيج سليم اللقيس بصفته رئيس لجنة الأوقاف الإسلاميّة في مدينة جبيل لتشييد بناء في العقار رقم 709 / جبيل بتاريخ 4/5/1985م.).

وفي السياق المذكور أيضاً، إبتاع الراحل الحبيب في التسعينيات من القرن الماضي من المحامي الراحل الدكتور نزيه الخوري، أراضي شاسعة (حوالى سبعة آلاف متر مربع) كائنة على العقارين 891 و892 جبيل بالتكافل والتضامن مع صهره المرحوم علي حسن زين الدين، ودفعا أثمان هذه الأرض من أموالهما الخاصة ووهباها لصالح أوقاف مدينة جبيل الإسلاميّة بالكامل، ودون أي مقابل أو مردود مادي.

هذا غيض من فيض من محامد فقيدنا الغالي «أبو عمر» وانجازاته الرائدة في معالي الخير والصلاح والبذل والسخاء والترفع عن الأنانيات والمنافع الشخصيّة وخدمة الصالح العام لمدينة جبيل واستقلاليّة أوقافها وكرامة أبنائها.

لقد أضاف هذا الرائد الهمام إلى بنيان «وقف جامع إسلام جبيل» وعماراته المتراميّة على تخوم مدينة جبيل مدماكاً أساساً وصرحاً شامخاً ومعلماً حضارياً وعمرانياً منيعاً ومنيفاً، سيبقى أبد الدهر شاهداً صارخاً على شجاعة السيد بهيج سليم اللقيس وإقدامه وجسارته وأمانته ومناقبيته وتأصل جذوره في أعماق هذه المدينة النموذجيّة التالدة، حتى لينطبق على الراحل المعطاء، مقولة الشاعر:

«إني وإن كنت الأخير زمانه

لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل».