من تراث القرية اللبنانيّة - البرغل والكشك)الحلقة الأولى(

04/07/2014
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

د. أنيس فريحة(1)

يقول مثل لبناني مستحدث «العزّ للرزّ والبرغل شنق حاله» يريدون بذلك أنّ الرزّ أكل الأغنياء المترفين، وإذا وجد الرزّ فأين منه البرغل، البرغل المبتذل! وفي المثل إشارة إلى جدة الرزّ فإنّه طعام غريب عن البلاد. وقد كانوا يتهادونه قديماً في الأعياد والأعراس والولادات. وكان طعاماً غالي الثمن لا يشتريه إلاّ الأغنياء، وكانوا لا يطبخونه إلاّ في الأعياد، والولائم، والمناسبات. وفي قرى لبنانيّة للآن لا يطبخون الرزّ إلا للضيف أو نهار الأحد. أمّا طبيخ الفلاّح اللبنانيّ الأوّل فالبرغل. ولذا يحرص أن يؤمّن هذا الطعام في الصيف.

كثيرون من اللبنانيين، عندما يشترون قمحهم، ويصوّلونه كما وصفنا في الفقرة السابقة(2)، ينقلون قسماً من القمح المصوَّل رأساً إلى خلقين لسلقه. يُسلق القمح، إلى أن تبدو إشارة التشقُّق في بعض حبّات القمح فتكون هذه إشارة إلى نضجه وإلى وجوب رفعه عن النّار. يجب ألاّ ينضج القمح المسلوق نضجاً تاماً بل يجب أن يكون «نصف مطبوخ» لأنّ البرغل يُعاد طبخه مرَّة أخرى عند تحضيره طعاماً. ثُمّ إنّهم يأخذون القمح المسلوق إلى السطح، ويضعونه على بُلْس وحصر، ويبقونه زمناً في الشمس، إلى أن يجفّ جفافاً تاماً، ويوم سلق القمح عند الأولاد، يوم عيد، فإنّ سالق القمح يأخذ منه مقداراً، فيُحلى بالسكّر، ويُرش عليه الجوز والصنوبر واللّوز وحبّ الرُّمّان، وينكّه بماء الزهر، ويقدّم للأولاد، وللّذين ساهموا في عملية السلق. وقد يبعث بصحن منه إلى الجيران.

في الليل يجمعونه ويغطّونه، منعاً لسقوط الندى عليه، ثُمّ يعيدون نشره في النّهار. وعندما يجفّ جيداً ينزلونه، وينقّونه على الطبليّة من كل جرم. ثُمّ إنّهم يرسلونه إلى الطاحون. وبعضهم يجرشه في البيت بالجاروش أو المجرش(3)، وكثيرة هي البيوت التي تقتني مجرشاً.

يُنمّش(4) القمح المسلوق، أي يرشّ عليه الماء رشاً يسيراً، لكي تبتلّ القشرة الخارجيّة. ثُمّ يطحن(5) أو يجرش. وبعد طحنه أو جرشه، ينشّف قليلاً في الشمس، ثُمّ يُنشّف لكي تطير القشرة الرفيعة. ثُمّ يقطّع، والتقطيع هو غربلته ونخله بغرابيل أو مناخل، ذات ثقوب مختلفة القطر وعملية التقطيع تسفر عن 3 أنواع من البرغل:

أ) الخشن للطبخ، ب) الناعم للكبّة، ج) الدقيق أو السويق ومنه يعملون حلاوة يسمّونها بْسِيسة (حلاوة السّويق)، وهي حلاوة من دقيق البرغل، يمزج بالدبس أو السكر والسمن، ويصنع أقراصاً، أو يوضع في صينيّة، ويرسل إلى الفرن لخبزه، وبعضهم ينتفع بالسويق عند تقريص العجين، فإنّهم يستعيضون به عن طحين الشعير.

يستعمل البرغل في مآكل عديدة: برغل مفلفل، برغل بحمّص، برغل بلوبيّ، بودفين، المجدَّرة، المذرذرة، المخلوطة، الكبّة، التبولة، كبّة حيلة، وسنأتي على ذكر هذه المآكل، عند كلامنا عن المطبخ القروي.

وكانوا قديماً إذا أكرموا الضيف، طبخوا له البرغل بقورما وقبالته الكشك.

أمّا الكشك فبرغل يختمر باللبن. يبلّون الكشك(6) في أواخر شهر أيلول. وحجّتهم في ذلك أنّ الزبدة في اللّبن قد يكون زاد مقدارها. وذلك لأنّ البقرة تكون قد أكلت ورق التوت التشروني(7). ويكون الفلاح قد سلق(8) برغلاً جديداً. يُنقَع البرغل ـ ومقداره يتوقّف على كبر العائلة، من 10 كيلوات برغل إلى 20 و(أكثر من هذا في قرى البقاع وقرى سوريا) في اللّبن. وبعد يوم ينتفخ حب البرغل، ويختمر فيعركونه، وإذا رأوا حاجة لزيادة اللّبن زادوه. والكشك الممتاز هو الكشك الذي لبنه كثير. وبعد يوم أو يومين يعيدون عركه، وإضافة اللّبن إذا رأوا حاجة إلى ذلك. ثُمّ عندما يلحظون أن حبّ البرغل قد ذاب في اللّبن واكتمل تخمّره، قطّعوه إلى قطع صغيرة ووضعوه على ميازر (مفردها ميزر(9)) في الشمس لينشّف قليلاً ثُمّ يفركونه فركاً شديداً. وينتظرون قليلاً، ويعيدون الفرك، إلى أن يجفّ ويصبح كالطحين لوناً ومَلْمساً. ويوم فرك الكشك يوم مشهور. تدعى الصبايا والشبّان لمساعدة الزوجات في هذا العمل. ويرحّب الشباب والصبايا بهذه الدعوة، فإنّها تجمعهم حول الميزر. وقد تلمس يدٌ يداً! وبعد ذلك يحسنون تجفيفه في الشمس. ويخزنونه في جرار زجاجيّة أو خزفيّة.

يؤكل الكشك حساء بالقورما والثوم والبصل و(الثوم أفضل). وهو طعام لذيذ، غنيّ بالمواد المغذيّة. يأكلونه صباحاً ومساءً، وهو أدام حسن يغمّس فيه الخبز الناشف الجاف. وكثيراً ما يطبخونه ظهراً ويطبخون قبالته البرغل، وهي أكلة محببّة لِمَن كانت معدته تتحمّل.

 

 

الهوامش:

القرية اللبنانيّة، حضارة في طريق الزوال. دار المكتبة الأهليّة ـ ذوق مكايل. الطبعة الأولى 1957م. الفصل الرابع، ص 83 ـ 84 ـ 85 ـ 86.

إشارة من الدكتور فر يحة إلى ما تقدم من كلامه في كتابه الآنف الذكر.

المجرش طاحونة صغيرة على اليد. تتألف من حجرين صلبين من الحجارة البركانيّة السوداء. الحجر الأعلى مثقوب ثقباً قطره 6 ـ 7 سنتيمترات، ليدخل في وتد مركز في الحجر الأسفل ولكي يوضع فيه القمح المسلوق.

نَمش القمح بَلْه بلاًّ يسيراً وذلك برش شيء قليل من الماء عليه، وفركه لتبتلّ القشرة الخارجيّة.

إذا طحن البرغل في المطحنة أو الطاحون المائي يعدّل ارتفاع الحجر الأعلى عن الأسفل، لكي لا يطحن البرغل طحناً ناعماً.

لا يقولون صنع كشكاً بل بلّ كشكاً.

تعطي التوتة موسمين من الورق: الربيعي ويطعم للقز، ثم يعود فيفرخ، ويطعم ورقه للبقر أيام التشارين.

لا يقولون عمل أو صنع أو طبخ برغلاً بل سلق برغلاً.

 

الميزر جلد دبيغ تضع المرأة عليه عجينها.