مكوّنات التلقيّ الأدبي)الحلقة السابعة(

04/07/2014
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم: البروفيسور عاطف حميد عوّاد

أفق التوقع: قبل أن نتحدث عن بنية هذا المفهوم الذي استثمره «ياوس» لا بُدَّ من الرجوع إلى تأويلية غادامير، فالأخير نحت مصطلحاً خطيراً استخدمه في مقارباته الفلسفية للنصوص سماه «انصهار الآفاق»، والأفق «هو مجال الرؤية الذي يشمل كلَّ شيءٍ يمكن رؤيته من وجهة نظر معينة (1)»، وبمعنى آخر، فإنَّ القارئ أو المفسِّر الذي يهمُّ بقراءة نصٍّ لا يتجه نحو هذا النص أو ذاك خالي الوفاض، وإنما هو كائن تاريخي لـه أفقه التاريخي من المعرفة والأسئلة.

وفي الوقت ذاته فإن النص الذي يتجه إليه القارئ ليس كائناً أصماً، وإنما كائن لـه أفقه الماضوي، وحتى يحدث التفاعل بين الأفقين: أفق المتلقي، وأفق النص، ومن هنا «فإنَّ أفق المعنى الذي يقفُ داخله النص أو الفعل التاريخي تتمُّ مقاربته من داخل أفق المعنى الشخصي للمرء، فالمرء عندما يقوم بالتفسير لا يترك أفقه الخاص وراءه، بل يوسِّعه بحيث يدمجه بالأفق الخاص بالنص أو الفعل، كما أنَّ التفسير ليس مسألة الوقوف على مقاصد كاتبِ النص أو الفاعل التاريخي، إنَّ الموروث نفسه يتحدَّث في النص، وجدلُ السؤال والجواب يُحدِثُ انصهاراً للأفقين أو التحاماً بينهما، هذا هو التحام (انصهار ـ التئام) الآفاق Fusion horizons الشــهير والمأثور عن هانز جادامير (2)».

يأخذ ياوس هذا المصطلح الهرمنيوطيقي ويمنحه وظيفةً أخرى في قراءة العمل الأدبي، ونستطيع أن نعرّف الأفق أو أفق التوقع وفق روبرت هولب الذي يرى بأنه »ربما ظهر مصطلح «أفق التوقعات» لكي يشير إلى نظام ذاتي مشترك أو بنية من التوقعات، إلى «نظام من العلاقات»، أو جهاز عقلي يستطيع فرد افتراضي أن يواجه به أي نص (3)»، ونستطيع أن نفسِّر هذا الكلام بـ «الخبرة» السابقة التي استحصلها المتلقي من تجاربه مع النصوص ومع العالم، ولهذا يوضِّح أحد الباحثين تشكيل أفق التوقع بالقول:»ويتشكَّل أفق التوقع ويتطور من خلال ( جماليات الجنس الأدبي الذائعة ومعاييره المعهودة). (...) ويتداخل أيضاً في تشكيل أفق توقعاتنا طبيعةُ تصورنا حول ماهية اللغة الأدبية بعامة، على أي نحوٍ تكون اللغة المستعملة لغةً أدبيةً، وكذا طبيعةُ تجليها في الأعمال الأدبية، وفي جنسها الأدبي أيضاً وكذلك تصورنا حول طبيعة التعارض بين ما هو خيالي وما هو واقعي، بين ما هو جمالي في استخدام اللغة، وما هو عملي وتداولي(4)».

إنَّ ياوس ومن خلال مفهوم التوقع يُريدُ أن يبلغنا أنَّ القراءة فعل تاريخي يرتبط بكائنين منغمسين في التاريخ بكل غناه، وهما النص الذي يُعَدُّ جزءاً من التراث، وينطوي على رؤى مختلفة، والقارئ المتجذر في التاريخ الراهن، ويغدو أفق التوقع بمنزلةِ المجس الذي يسبر النَّصّ، فالقارئ ومن خلال أفق التوقع يهيّئ ذاته للتعامل مع نصٍّ ما، إذ إنَّ الخبرة التي اكتسبها من طبيعة النصوص وأنواعها وأعرافها تسمح لـه بالنزول إلى أرض النص للتعامل معها.

ومن هنا التأكيد على دور الخبرة في فهم النص، وهذا التأكيد على «أفق التوقع» وأهميته تعود إلى أنَّ «العلاقة بين النص والقارئ بما هي سيرورةٌ تقيمُ صلةً بين أفقين أو تحدثُ اتحاداً بينهما (5)»، فثمة أفقان يصطدمان، بل يتصارعان لإنجاز الخبرة، ولن تتحقق الخبرة ما لم يستثمر القارئ الفروض(المعرفة) المسبقة لديه، ولهذا يوضح ياوس هذا الانصهار بالقول:«إنَّ القارئ يشرع في فهم العمل الجديد(أو الذي كان بعدُ مجهولاً بالنسبة لديه) بمقدار ما يُعيدُ تشكيل أفقه الأدبي النوعي من خلال إدراك الافتراضات التي وجهت فهمه، بيد أنَّ التعاطي مع النص هو دائماً منفعل وفاعل في آن واحدٍ، فلا يمكن للقارئ «إنطاق» نصٍّ ما، أي تفعيل معناه الكامن في دلالة راهنة، إلاّ بقدر ما يندرج فهمه للعالم وللحياة في إطار السند الأدبي الذي يستتبعه هذا النَّص(6)»، ومن هنا تتأتى وظيفة «أفق التوقع» أشبه بالمعيار الذي يمكن استناداً إليه تقويم العمل الأدبي المقروء.

ب ـ المسافة الجمالية:

وتلك السمة المعيارية لأفق التوقع تبرز من خلال مفهوم مصاقب لـه وهو «المسافة الجمالية» ويقصدُ بـ «المسافة الجمالية» الخيبة التي يحدثها النَّص، أو العمل الأدبي في علاقته بالقارئ، فكلما استطاع النَّص المقروء أن يخيبَ أفق توقعات القارئ، كلما ارتفعت أسهمه الجمالية، وكلما اقتربت توقعات القارئ من أفق النَّص المقروء تقلَّص بعدُ «المسافة الجمالية» بين الأفقين، ومِنْ ثَمَّ اقترب النَّص من النصوص الرثة «فالمسافة بين أفق التوقعات والعمل... تحدِّدُ السمة الفنية للعمل الأدبي حسب جمالية التلقي»(7)، ومن هنا تظهر إبداعية النَّص المقروء في عدم الانسجام مع الأفق المتوقع للقارئ:«ومن البديهي أنَّ العمل الأصيل هو الذي لا ينسجم أفقه مع أفق القارئ، بحيث ينتهك معاييره الجمالية ويخالفها، فينتج من ذلك اتحاد الأفقين والتحامهما، ويسمى عدم الانسجام هذا «المسافة الجمالية»: فبقدر ما ينزاح العملُ عن أفق انتظار القارئ، تتحقق جودته الفنية»(8)، ولكن ثمة الكثير من النصوص المندرجة في السياق الأدبي تخيب آفاق المتلقين وذلك بلجوئها إلى الشكلانية المحضة في الكتابة، فهل هذا يعني ارتفاع مستواها الفني؟.

يمكن الشَّك في هذا المعيار لتقويم «الجمالية» أو الوظيفة الجمالية للنَّصِّ، ومن هنا يمكن تفسير القيمة الإجرائية «للمسافة الجمالية» بكونها جملة الأسئلة الحرجة التي يطرحها النَّص على القارئ، هذه الأسئلة الحرجة هي التي يجدِّد بها القارئ دلالة النَّص المقروء، وليس فقط في إحداث مسافة بينه وبين القارئ استناداً إلى بنياته الأسلوبية أو الشكلانية، لأن هذه الأخيرة سرعان ما تتكشّف من خلال الدراسات النقدية، فيبقى الفيصل في ذلك هو الأسئلة الحرجة التي تدفع المتلقي إلى التلاؤم معها ليحدث الانصهار والالتحام بين أفقه وأفق النَّص.

إنَّ نقطة الضعف الواضحة لدى ياوس كما أشرت أعلاه تتمثَّل في كونه لا يوضّح لنا طبيعة «المسافة الجمالية» في تقويمها لطبيعة النَّص الأدبي، لنقرأ ما يكتب:«حين يصدرُ عملٌ أدبي ما، فإنَّ طريقة استجابتهِ لتوقع جمهوره الأول أو تجاوزه أو تخييبه أو معارضته لـه تُعتبر بالبداهة مقياساً للحكم على قيمته الجمالية، فالمسافة بين أفق التوقع والعمل، بين ما تقدمه التجربة الجمالية السابقة من أشياء مألوفة و»تحول الأفق» الذي يستلزمه استقبال العمل الجديد ـ تحدد، بالنسبة لجمالية التلقي، الخاصية الفنية الخالصة لعمل أدبي ما»(9)، بيد أنَّ ياوس لا يحدِّد لنا معيار الخاصية الجمالية الناتج من التفارق بين أفق القارئ وأفق العمل الأدبي، والسؤال الذي يطرح ذاته هل هذه الخاصية نابعة من النَّص أو العمل أو من عملية الالتحام أو الانصهار بين الأفقين؟ ثمّ هل هذه الخاصية ثابتة أم تاريخية؟ بمعنى هل تتجلَّى هذه الخاصية على النحو ذاته لدى القراء مع الاختلاف في الاستجابة لهذه الخاصية أم أنَّ هذه الخاصية ذاتها تختلف من زمن لآخر، أي من تلقٍ آخر؟ وفي الأحوال كافة يبقى أمر الخاصية الفنية للعمل الأدبي أمراً غامضاً في قراءة ياوس، وتبعاً لهذه الدراسة فإنَّ المنظِّر الألماني يفشل فشلاً ذريعاً في تحديد جمالية العمل الفني بالاستناد إلى «المسافة الجمالية»، يقول ياوس:«فكلما تقلصت هذه المسافة وتحرَّر الوعي المتلقي من إرغام إعادة توجُّهِهِ نحو أفق تجربة بعدُ مجهولةٍ، كان العملُ أقرب من مجال كتب فن الطبخ أو التسلية منه إلى مجال كتب فن الأدب»(10)، لا شكَّ أن ذلك صحيح إلى حدّ كبيرٍ حين يتطابق أفق العمل مع أفق المتلقي حيث تتقلص المسافة الجمالية وتضمحل.

بيد أنَّ الأمر المهمّ هو كيف يمارسُ العمل الأدبي إبعاداً في المسافة بينه وبين أفق القارئ في عملية التلقي، هنا تفشلُ حجة ياوس، يكتب: «وبخلاف ذلك (انحسار المسافة واضمحلالها)، فإذا أمكن قياس الخاصية الفنية الخالصة لعمل ما بالمسافة الجمالية التي تفصله ـ في لحظة صدوره ـ عنْ توقع جمهوره الأول، فالحاصل هو أنَّ هذه المسافة، المفترضة لأسلوب جديد في الرؤية، يحسُّها الجمهور المعاصر مَصْدَرَ لذّةٍ أو دهشةٍ أو حيرةٍ ويمكنها أن تزول بالنسبة لجمهور الغد كُلَّما تحولت سلبية العمل الأصلية إلى بداهة واندرج هذا العمل بدوره «بعد أنْ أصبح موضوعاً مألوفاً للتوقع، ضمن أفق التجربة الجمالية المستقبلية» (11)، هنا أيضاً لا يوضح المنظِّر الألماني الخاصيات المتوافرة في النص الأدبي التي تتيح توسيع المسافة بينه وبين أفق المتوقع، لكنه يرى بأن هذه «المسافة الجمالية» سوف تنحسر مع مرور الأيام حينما تبدأ بالاشتغال ضمن أفق التوقع بمرور الزمن، أي يتطابق العمل الفني مع ما ينتج في مجال فن الطبخ.

ويرى ياوس أنَّ هذا الأمر ينطبق على الروائع الأدبية التي يضمحلُ جمالها الفني شكلاً ودلالةً كما لو أنَّ النَّص الأدبي يكشفُ عن أوراقه في القراءة النقدية دفعةً واحدةً، وينسى ياوس أنَّ العمل الأدبي إذا كان نصاً أصيلاً فهو الذي يحتفظ بأسرارِهِ وقوانينه، ويضنُّ بها على المتلقي، ومهما حاول المتلقي أن يقول كلمته النهائية، فذلك أمر مستحيل، فالنَّص يكونُ فناً فقط حين يخفي أسرار نسيجه وقوانين البناء وأسئلته الحرجة التي يطرحها على القارئ، ومهما يكن القول في أمرِ قراءة هانس روبيرت ياوس تبقى قراءته مجدية في الكشف عن أجزاء من أسرار العملية الإبداعية، فضلاً عن الجهاز النقدي الذي ابتكره لإحداث التواصل مع الماضي، وهذا ما يصرُّ عليه ياوس ذاته:«إنني نكايةً في اللعنات ومقابل الاختيار بين أن أكون «نبياً يمينياً أو نبياً يسارياً»(...)، أفضّلُ موقعاً لعله في كُلِّ حالٍ مريحٌ ببساطةٍ، موقعَ منهجٍ يمكنه، بسبب كونه جزئياً بالذات، أنْ يحثَّ على مواصلة التفكير جماعياً في ما إذا كان ممكناً، وبأيّة وسيلة، أنْ نُعيدَ للفَنِّ اليوم وظيفة التواصل التي يكاد أن يكون قد فرَّط بها نهائياً»(12)، فالذي يؤكِّد عليه ياوس هو إعادة الاعتبار لوظيفة التواصل عَبْرَ الحوار بين النَّص والقارئ، لأِن المعنى الأدبي لا يكمنُ في جوف النَّص ـ فالنص ليس جوفاً ـ ولا في باطن القارئ، لأن المعنى يتشكَّل في التفاعل النشط بين الحدين عبرَ القراءة، وفقط القراءة.