الأدب بين الإلتزام والتخطي

04/07/2014
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم الأستاذ الحاج داوود إسماعيل حمادة(1)

تعدّدت آراء الباحثين والناقدين في الأدب في تحديدهم للإلتزام الأدبي، وفي تصنيفهم لرجالاته الّذين تليق بهم هذه التسميّة، منهم من اعتبر كلّ أدب أديب التزم غرضاً واحداً من الأغراض الأدبية، وقف قلمه وفكره عليه ملتزماً، فأطلق عليه لقباً يتناسب مع هذا الغرض، كشاعر الهجاء أو المدح أو الخمرة أو الغزل... ألخ. ومنهم من أعطي صفةً تتناسب مع الأسلوب الذي عبّر فيه عن هذه المعاني كالشعر الكلاسيكي العمودي الذي يلتزم الوزن والقافيّة أو الشعر الحر أو الشعر المنثور، ولكن العُرفَ الذي بقي متقدّماً على كُلّ وجهات النظر، وتبنّاه معظم النقّاد، هو الذي يعتبر أنّ الأديب الذي تغلغل بين مسارب الشعب وسخّر أدبه في خدمة المجتمع لمعالجة مشاكله وقضاياه هو الذي يستحقّ هذه التسميّة.

وفي مطلق الأحوال وكيفما كانت الإعتبارات ومهما اختلفت الآراء وتشعّبت، يبقى الإلتزام لغةً ومضموناً يعني الدبيب في طريق محدود قصير رسمته تجارب ذاتيّة أو فرضته مراسم العصر، والوقوف بعقل الأديب وروحه عند حدود التكاليف ونطاق التقاليد، وعند أقيسة تحدّ من شخصيته وطموحه.

والأديب الملتزم سجين فطرته وأسير نفسه، موصول بماضيه الحيِّ ومشدودٌّ إلى جذوره العتيقة، ربيبُ أمسه ونسيج بيئته، يحمل أثقاله حيث يكون؛ متاعبه جميعها صرّة على كتفه؛ كالحدبة في ظهر الأحدب، ليس له إلى النجاة منها سبيل ـ يقف مضطراً لمساواة عصره ساعة يلتزم المدح للكسب أو الجاه، أو ينطلق بالهجاء للسخريّة أو التشفيِّ أو الإستهانة؛ أو يرثي متباكي العين دامع القلب، متلّمساً طريق الأدباء الذين سبقوه؛ ثم يعود لينطوي على ذاته كما ينطوي القلب الأمين على أسراره، وكما تنغلق الثمرة في غلافها وتستكين الزهرة الخجولة بين أوراقها.

في هذه الإنطواءة المستكينة يطمئن الأديب إلى محرابه ليرسم على ضوء ذاته المحدودة، وضمن نطاق العادات لمجتمعه صورةً قد لا تحلو في حِسّنا ووجداننا إلاّ إذا تأمّلناها بمنظاره، لأنّها محدودة بحدود فكره ورأيه، المحدودين بدورهما بين جدران هذه البيئة الضيقة؛ ولأنّها صورة فوتوغرافيّة آلية، باهتة الألوان، ضبابيّة الشكل، صامتة الحركة؛ لم يستطع فنّانها أن يتحرى الفطرة في بساطتها ولا العاطفة في سذاجتها، ليثير كوامنها ويعزف أناشيدها، لأنّها لم تحمل جزءاً من وجوده ولا ذرّةً من كيانه. رسمها إرضاءً لالتزاماته وواجبه، لا ليحيي ولا ليبدع.

 

هل يستطيع الأديب بين حدود هذا الإلتزام الضّيق وهذا الجفاف المريع أن يرتفع إلى مرتبة الفن ليهندس الأرواح ويخلق الذات؟ وكيف يتسنّى له ذلك ولسانه ملجوم، وقلمه محدود، وخياله قصير؟

ونحن مع هذه الإستفهامات والتساؤلات حول الإلتزام؛ نطالب الأديب بالتخطي والتّحليق في فضاء الحرية الرّحبِ غير أن يتنكّر للوائج التي تربطه بالواقع والإلتزامات التي تفرض عليه أن يحافظ على رأيه ومذهبه، إننا نريد له ألاّ يكون ملتزماً إلى حد الإستعباد ولا متجاوزاً إلى حدّ الشرود. بل نريده أن يعكس خواطر أبنائه ومشاعرهم واصطلاحاتهم، يستقي من عصره ثمّ يتخطّاه، فيصبح لكل عصر يشهد له وعليه وينطلق في كلّ مدى ويتسع مع كلّ أفق.

ونحن نريد من الأديب أن يكون ذلك الإنسان الذي يعالج قضايا الحياة والمجتمع، ثم يتخطّى ذلك ليلتفت إلى المبدأ والمنتهى في الوجود. ويسأل عنه بعد الوجود؛ ليكون الفنّان والثائر، المتخطي والملتزم. ومن هذا الجانب يجب على الأديب أن يلبس ثوب المصلح، فيثور على ما ارتبط به الآخرون من التزامات، ليرفعهم إلى مستوى نفوسهم كما يجب أن تكون لتتناغم مع العصر.

والفنّان وحده يخلق من البشائع جمالات، ومن الحرف الصامت ذاتاً تختلج، ومن الورقة الجماد حياةً ترتعش، ومن سحر الكلمة إبداع العبقريّة وسمّو المخيّلة أرواحاً تصفّق. عندما تخرج الكلمة قطعةً ممزقةً من الكبد لتمتزج مع رنّة الوتر، فيتولّد منهما النغم في إيقاع غريب وسحر عجيب، فتهتف له جوارحنا وتتحرّك له أعماقنا وتهتزُّ راقصةً له مشاعرنا؛ وكأننا في حلقة الورد ساعة التجلّي. وعندما ننسحب رويداً رويداً من واقعنا إلى أن نصير انسياباتٍ في مجرى الموسيقى، شيئاً منها لا من واقعنا. عندئذٍ يكون التخطّي ويكون الأدباء مهندسي الأرواح البشريّة، لأنّهم يكونون بذلك قد ولّدوا وخلقوا إحساساً جديداً. وانتقلوا بنا إلى عوالم جديدة.

والأديب الموهوب هو الذي بيده مفتاح الفن الخلاّق والقدرة على تغيير أوضاع الأشياء، فيتحرّى الفطرة في بساطتها والذات في نصاعتها والتماعها لينقر على أوتار الأفئدة فيثيرها بكلمة حلوة لتتغيّر الذات ويخلق ذاتاً جديدة.

ولتكون هذه الكلمة صورةً لرؤيا حلوة، هي انعكاس لبدء حياة؛ ترفعنا مع الأديب إلى فضائه السحريّ في عالمٍ جديدٍ موّارٍ بالحركة والحياة.

وهكذا حين يكون الثائر خلاّقاً ومبدعاً ومهندس أرواح، يجب أن نشعر في أدبه بفلذات أكبادنا تختلج مع أحرفه، وبذاتنا ترقص مع نغمه؛ ومع الشاعر يجب أن نشعر بشعره يتفجّر نغماً، كأنّه حنين النفس العميق إلى الأبعاد، إلى المجهول؛ يجب أن نشعر بأنّ شعره من أوتار القلوب وهزّ الأعطاف ولهاث الخمر والقبل السّكرى؛ وكأنّ الشعر تزحلّق على لسانه دون وعي وفي قاعة تمور بالألحان.

وبهذا الحرف وذلك النغم يستطيع الأديب المتخطّي المتفرّد أن يخلق الأرواح ويبني الذات البشريّة، لأنّ للكلمة وجوداً حقيقياً يتحدّى الزمان المتغيّر. فالخلود والخلق والإبداع ليس لها معنى خارج إطار الكلمة؛ وعالم الإنسان لا ترسمه لوحة أن تعبر به شهقةُ روحٍ بمقدار ما تختزنه كلمة. والأديب هو خزان تلك الكلمة؛ التي هي بحدّ ذاتها مادة خام يستطيع أن يكيّفها الأديب وفق مقتضيات حاجته وأحلامه.

 

 الهوامش:

داوود اسماعيل حماده من راشكيدا ـ قضاء البترون.

ـ ولادة: 15/4/1947م.

ـ تلقى دروسه الإبتدائيّة والمتوسطة في مدرسة البترون الرسميّة...

ـ تابع دراسته في المرحلة الثانوية في الثانوية الجعفريّة في صور.

ـ تابع دراسته الجامعيّة في جامعة بيروت العربيّة إلى أن نال ليسانس في اللغة العربيّة وآدابها 1973 بتقدير جيد.

ـ مارس التعليم في الثانويات الرسميّة (البترون ثُمّ عبرين ثُمّ شبطين) ما بين 1974م و 2011م.

ـ نشاطاته الإجتماعيّة والثقافيّة: أمين سر هيئة الطوارئ الشعبيّة في البترون ما بين 1989م وسنة 2009م. وما زال عضواً فاعلاً فيها.

ـ أمين سر فرع الصليب الأحمر في البترون.

ـ عضو في رابطة التعليم الثانوي ما بين 1998م، و2008م.

أحد مؤسسي المركز الثقافيّ في منطقة البترون(دار الثقافة).