اللغة العربية والعولمة

04/07/2014
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم الحاجة نمرة حيدر أحمد(1)

ويلٌ لأمة هجرت لغتها لتتكلم بلسان غيرها، فكيف إذا كانت هذه اللغة المهجورة هي اللغة التي نزل بها القرآن الكريم. من العيب أن نرى في مجتمعنا الشرقي من يجهل اللغة العربية ويتأفف من تعلّمها واكتسابها، ويعتبرها من الماضي ولا حاجة له بها في حياته، وقد فرضت عليه فرضاً في المنهج الدراسي ليتعلمها.

أنا لا أستغرب ذلك في ظل الهجمة الشرسة التي تتعرض لها هذه اللغة من دون ان تجد لها الناصر الذي يدافع عنها

وينصفها ويعيد لها عزّها وعظمتها من بين الذين حفظت تاريخهم وحضارتهم.

إن اللغة العربية كانت وما زالت المقوّم الاساسي والعامل الجوهري في بقاء الامة العربية ووحدتها، والحافظة لتاريخها وتراثها العريق وحضارتها، وهي من اللغات العالمية الحية التي تربط بين الماضي والحاضر وما زال قديمها مقروءاً ومفهوماً ومستساغاً يدغدغ المشاعر ويخاطب العقل والروح. ها هي اللغات الاوروبية قد اعترى قديمها الوهن ولم يعد متداولاً ومفهوماً لا سيما عند الفرنسيين.

إذا عدنا بالتاريخ قليلاً الى الوراء نرى كم كان لهذه اللغة من امتيازات، لاصالتها وعظمتها وقدراتها التعبيرية. فيكفيها شرفاً وفخراً أنَّها اللغة التي حملت كلام الله سبحانه وتعالى، وثقافة العرب وفكرهم وعلومهم التي كانت النواة لانطلاقة شعلة العلم في العالم. ما الذي حصل اليوم لتتراجع لغتنا كلّ هذا التراجع ولتعاني كل هذا الجفاء من ابنائها؟ هل اصابها الوهن والضعف كما يدّعون ويرغبون أم باتت فريسة مكيدة غربية هدفها تمزيق الامة العربية وشرذمتها كما يحصل الآن؟

نعم إنها هجمة مدبرة ومدروسة وما الخناجر التي تغرز في خاصرتها يومياً، والاصوات الّتي تزعق هنا وهناك منادية بصعوبتها وعدم تماشيها مع العصر إلا من ملحقات هذه الهجمة التي اصبحت واضحة الغايات والاهداف.

ها هي العولمة التي تدعو إلى إزالة الحواجز والمسافات بين الشعوب والاوطان، وتسعى بشكل صريح الى فرض النموذج الامريكي ليكون عالمياً، قد توسلت اللغة لبلوغ أهدافها غير المعلنة حيث دعت الى اسقاط الحواجز اللغوية كشرط أساسي لدمج بلدان العالم وثقافاتها المختلفة في كيان يتسم بالشفافية وإلى اعتماد اللغة الانكليزية كهوية لغوية.

فكِّر ايها القارىء العزيز أليست العولمة بدعوتها هذه تبيد ذاتية الآخر وحضارته القومية والثقافية؟.

ألا تجد معي ان مهاجمة انصار العولمة للغة العربية والطعن بقدرتها على مواكبة الحداثة، واعتبارها لغة جامدة وصعبة لا تصلح للعلم لأن اعتمادها في العلوم يقطع صلة الدارس بالبحوث العلمية، هو استمرار لهذه الهجمة الشعواء وتخطيط نتج عنه نشوء مدارس خاصة وجامعات ومعاهد استبعدت اللغة العربية من مناهجها وراحت تدرس المواد العلمية باللغات الاجنبية باعتبارها هي الفضلى والورقة الرابحة للنجاح المهني والاجتماعي؟!.

إن ما يؤلم في كلَّ ذلك مساهمة بعض ابناء مجتمعنا، ومدارسنا، وجامعاتنا، وبعض وسائل إعلامنا في هذه الحرب الصامتة الهادمة للحضارة وللتراث والمغيبة للهوية العربية.

فظاهرة تطعيم بعض المثقفين المحدثين كلامهم بلغة أجنبية أخرى غير اللغة العربية على اعتبار ذلك مظهراً من مظاهر التّحضر والرقي الاجتماعي تسيء إلى اللغة العربية وتبرز سخافة المتحدث وانجرافه في موكب العولمة الفارغة لأنه لا يدرك أن هذه الكلمات نتيجة تداولها حلَّت مكان كلمات عربية وباتت كأنها جزء منها.

أما بالنسبة لبعض وسائل الاعلام لا سيما الفضائيات منها فحدث ولا حرج، فهي تعتبر من المساهمين الاساسيين في هدم صرح اللغة العربية والفكر العربي، لأنها تدعو للتغريب وتبنّي فكر الآخر وثقافته وعاداته الاجتماعية، ولا تكتفي بذلك، بل تعمد من خلال بعض برامجها ومسلسلاتها للسخرية من دارسي اللغة العربية ومدرسيها، وتشويه صورتها في عيون مشاهديها، والنظر إليها و كأنها من زمن غابر أو سلعة انتهت مدة صلاحيتها.

وتأتي بعض مدارسنا التي مسّتها لوثة العولمة لتساهم عن قصد أو عن غير قصد بجريمة الانقضاض على اللغة العربية وتقويض ما بقي منها. فعندما تستقبل إداراتها معلمين ومعلمات لا يتقنون من اللغة العربية إلا رسم الكلمات، ولا يدركون من قواعدها إلا ما ندر ولا يعرفون من مهارات التدريس شيئاً تكون قد غرزت خنجراً مسموماً في صدر اللغة العربية وساهمت في نفور أبنائنا من تعلمها واكتسابها، وباعدت المسافات بينهم وبين حضارتهم وتراثهم ودينهم، فهذه اللغة تحتاج الى معلم يعشقها، يحتضنها ليتمكن من تعليمها بفن ومهارة ومتعة ويغرس حبها في النفوس والعقول.

إن المسؤولية الملقاة على عاتق إدارات المدارس كبيرة جداً ولا بد من حملها بأمانة وتفكّر.

هذا ليس كل شيء فالحديث يطول وما ذكرنا هو جزء يسير من تشعبات هذه الهجمة. فما بالك يا عزيزى القارىء لو عرّجنا على دور التكنولوجيا في القضاء على اللغة، ألا ترى معي ان الشبكة العنكبوتية(الانترنت) ساهم في إضعافها الى درجة كبيرة بحجة أن ما يهم المستخدم لوسائط التواصل الاجتماعي ليست اللغة وقواعدها بل الفهم والافهام فقط واستخدام لذلك المختصرات، وابتكر لغة الانترنت التي اصبح لها قاموسها الخاص الذي قلب مفهوم التواصل اللغوي رأساً على عقب، وأوجد الازدواجية اللغوية بين العامية والفصحى مما ساهم في ان تصبح العامية مألوفة في الكتابة وموثّقة وهذا ما سيؤدي الى ضياع اللغة واندحارها مع الزمن. كما مزج بين العربية والانكليزية بحيث بدت لغة جديدة سميت(عربيزي).

عزيزى القارىء لقد أطلت عليك ولكن ما ذكرته غيض من فيض والآتي أعظم فإما ان تكون ناصراً للغتك الأم مدافعاً عنها وإما أن تساهم في اضعافها واندثارها. إن موكب العولمة يسير بسرعة وركابه كثر وما علينا ـ نحن الناطقين ـ بلغة الضّاد أن نقف موقف المتفرج المكتوف الايدي، بل علينا القيام بخطوات جبارة تساعد في تصحيح المسار وإعادة الاعتبار الى هذه اللغة.

فلتعل صرخاتنا ولنتوحد في وجه هذه الهجمة محاولين إيجاد السبل التي تساعد في الحد من تأثيرها وأضرارها وتفشي خطرها في المستقبل. وليعمل كلّ مناّ من خلال موقعه على تعزيز هذه اللغة وحفظها.

الهوامش:

هي إبنة بلدة كفرسالا ـ عمشيت، أكملت دراستها الثانوية في ثانوية جبيل الرسميّة، ونالت إجازة الآداب من الجامعة اللبنانيّة، دخلت عالم التربيّة والتعليم منذ عشرين سنة، في مدارس المبرّات الخيريّة، تُعرف بالحاجة «أم مصطفى» نمرة حسين حيدر أحمد، شاركت في تأليف كتب التربيّة التكامليّة، لها عدّة مشاركات في التأليف الحر. وهي قرينة المُرَّبي الكبير الأستاذ الحاج زهير الحيدري.