تأثير المرجعيّة الدينيّة في جبل عامل

01/09/2010
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

من أواخر القرن الرابع عشر الميلادي

وحتى أواسط القرن السادس عشر الميلادي

من عام 1369م، ولغاية عام 1557م،

الموافق: لعام 771هـ، ولغاية عام 965هـ.(*)

أ ـ تمهيد:

يقول المرجع الديني آية الله الشيخ مُحمّد تقي الفقيه   :    والذي نستقربه، أنَّ جبل عامل إسم لمجموع لبنان، ويدلنا على ذلك عدُّ الكرك منها في كلمات جملة من المؤرخين، وأكبر شاهد عليه قول المغربي: إنّها على سفح لبنان، وهو أشهرها، وعلى كل حال فإنَّ جبل عامل منذ قرون إسماً لدائرة ضيقة بإعتبار إستقلاله سلطة ومذهباً، فقد كان زعماؤه يحكمون منطقة لا تبلغ تلك الحدود   .

كان جبل عامل قُطراً صغيراً منزوياً عن العواصم والحواضر، وقد مرَّ عليه عصر من العصور، صار فيه جامعة علميّة يقصدها الطلاب من العراق وإيران وغيرهما، ورغم بعد الشقة وصعوبة التنقل بلغ عدد تلامذته في زمان المحقق الميسي أربع مائة طالباً وقيل:    إجتمع في عصر الشهيد الثاني في جزين سبعون مجتهداً بمناسبة جنازة متواضعة، وإذا كان هذا عدد المجتهدين فكم هو عدد الطلاب    .

أجل: إنَّ بلداً هذا حاله، ينبغي الاعتراف بأهميته، وينبغي للباحثين والمنقبين، أن يتجهوا للبحث عن ماضيه، فإنَّ ذلك حقاً من حقوقه، وذمتهم لا تزال مرهونة به    .

ولو رجعنا إلى كتب التراجم والرجال عند علماء الشيعة الإماميّة الاثني عشريَّة لوجدناهم يطلقون لقب عامليّ على جميع علماء وأدباء الشيعة الإماميّة الاثنى عشريّة في بلاد الشام دون إستثناء.

ومن هذه المصادر كتاب:    أمل الآمل    للشيخ الجليل محمّد بن الحسن الحرّ العامليّ المتوفى في مشهد الإمام الرضاQ في بلاد إيران ـ خراسان 1104هـ، الموافق لعام 1692م، حيث نراه يترجم للشاعر الطرابلسي الكبير ابن منير المولود في طرابلس عام 473هـ، الموافق لعام 1080م، والمتوفى في دمشق أو في حلب سنة 548هـ، الموافق لعام 1153م، حيث قال عنه:   أبو الحسين أحمد بن منير العامليّ الطرابلسي الشامي الملقب مهذب الدين عين الزمان المشهور له ديوان شعر... حفظ القرآن وتعلم اللغة والأدب، وقال الشعر، وقدم دمشق فسكنها..ألخ.

كما اعتبر أيضاً الشاعر العبّاسيّ الكبير أبو تمّام الطائيّ المتوفى عام 231هـ، الموافق لعام 845م، عامليّ لأنّه كان شيعياً إمامياً موالياً لأهل البيت (ع)، ومن بلاد الشام حيث قال عنه:    حبيب بن أوس أبو تمام الطائيّ العامليّ الشاميّ الشاعر المشهور. كان شيعياً فاضلاً أديباً مُنشئاً، له كتب منها:    ديوان الحماسة، وديوان شعره، وكتاب مختار شعر القبائل، وكتاب فحول الشعراء، والاختيارات من شعر الشعراء، وغير ذلك. وذكره العلاّمة في الخلاصة فقال:    كان إمامياً، وله شعر في أهل البيت  (ع).

وكذلك كان ذكره للعلماء والأدباء الشيعة من أبناء طرابلس، وجبيل، وبعلبك، وكرك نوح، ومشغرة وغيرهم من علماء الشيعة من ابناء بلاد الشام حيث اعتبرهم عامليين.

حيث قال عن الشاعر والرحالة الكبير الشيخ عليّ الجبيليّ:    الشيخ نجيب الدين عليّ بن محمّد بن مكيِّ العامليّ الجُبيليِّ ثمّ الجبعي: كان عالماً فاضلاً فقهياً مُحدّثاً(محققاً) مُدققا متكلماً شاعراً أديباً مُنشئاً جليل القدر.. .

 

ب ـ جزين ومجدها الغابر

   بعد النكسة الكبرى التي أُصيب بها الشيعة وعلماؤهم من بني عود في جبال كسروان، ولبنان على أيدي المماليك، وبفتوى من ابن تيميّة في سنة 705هـ، الموافق لسنة 1305م، هرب بعض بقاياهم إلى جزين وبقي بعض مستضعفيهم في بلاد كسروان والعيش  في ظلال أمرائها التركمان من آل عسَّاف كآل المقدم، وآل المستراح وغيرهم. وأمَّا من أظهر التقيّة منهم أو تسننَّ منهم على  مذهب الإمام الشافعيّ(رض) فقد آثر الذهاب إلى طرابلس، أو بيروت، أو صيدا، أو دمشق، والإستيطان بها.

وقد تعاون أولئك الشيعة الضيوف ومشايخهم بنو عود مع إخوانهم من أهالي جزين ومشايخهم على أن تكون جزين تلك القرية العامليّة الفقيرة والبعيدة عن الأمصار حاضرة علميّة، تحكي قصة حاضرتي العلم والأدب والمعرفة في القرنين الرابع والخامس الهجريين: حلب أيام بني حمدان، وطرابلس أيام بني عمّار. والأيام التي سبقت الشهيد الأوّل الجزيني العامليّ    نشط في جزين ثلّةٌ من أهل الفضل والعلم كان منهم الشيخ إسماعيل بن الحسن العوديّ الجزينيّ المتوفى عام 580هـ، الموافق لعام 1184م، إذ كان أوّلَ من شدَّ الرحال إلى الحلّة في العراق لطلب العلم، وكذلك كان أيضاً والد الشهيد الأوّل الشيخ جمال الدين مّكيّ ابن الشيخ مُحمّد شمس الدين، والشيخ طوقان العامليّ، والشيخ أسد الدّين الصائغ الجزيني أبو زوجته وعم أبيه، والذي اتقن ثلاثة عشر علماً ومنها: العلوم الرياضيّة.

 

ج ـ الشهيد الأوّل شمس الدين مُحمّد بن مكّي الجزينيّ العامليِّ.

هاجر الشهيد الأوّل إلى الحلّة من جزين بجبل عامل، وهو بعد لم يتجاوز السابعة عشر من عمره، فقد أجازه أستاذه فخر المحققين بداره في الحلّة أن يروي عنه بتاريخ 20 شعبان سنة 751هـ، وإذ علمنا أن ولادة الشهيد كانت في سنة 734هـ، علمنا أن بداية إتصال الشهيد به كانت قبل أن يبلغ السابعة عشرة من عمره كما عرفت مما تقدم.

وكان الشهيد قبيل تتلمذه على شيخه فخر المحققين في الحلّة قد أخذ عن عمّ أبيه ووالد زوجته الشيخ أسد الدين الصائغ الجزينيّ ثلاثة عشر علماً من العلوم المعروفة في ذلك الوقت ومنها علم الرياضيات كما عرفت مما تقدم.

وقد قرأ على أستاذه فخر المحققين مُحمّد بن الحسن بن المطهَّر الحلّيّ مُختلف العلوم النقليّة والعقلية التي استفادها ذلك الأستاذ من والده العلاّمة الحلّي وأساتذة والده ومنهم: المحقق الحلّي، والفيلسوف والفلكي الكبير الخوجا نصير الدين الطوسيّ وغيرهما من أعلام الحلّة، والنجف الأشرف، وبغداد.

وحتى أن أستاذه الآنف الذكر قال عنه فيما يروى:    لقد استفدت من تلميذي مُحمّد بن مّكيّ أكثر مما إستفاد مني   .

ومما يؤيد هذه الرواية إجازته لتلميذه التي كتبها له بخطه على ظهر كتاب القواعد عند قراءته عليه:    قرأ عليَّ مولانا الإمام العلاّمة الأعظم أفضل علماء العالم سيد فضلاء بني آدم، مولانا شمس الحقّ والدّين،(مُحمّد بن مكيّ بن مُحمّد بن حامد) آدام الله أيامه، من هذا الكتاب مشكلاته، وأجزت له رواية جميع كتب والدي قدس سره وجميع ما صنّفه أصحابنا المتقدمون رضي الله عنهم عن والدي عنهم بالطرق المذكورة لها.

كما درس الشهيد الأوّل على مراجع الحلّة الأعلام الآخرين وروى عنهم ومنهم: العالم النّسابة الشهير ابن معية والذي قال عنه الشهيد:    أعجوبة الزمان في جميع الفضائل والمآثر   . والسيدين الجليلين الشقيقين عميد الدين وضياء الدين وهما ابنا أخت العلاّمة الحلّي.

وبعد رجوعه من الحلّة ـ درس ودرّس في دمشق الشام كما سوف تعرف بعد قليل ـ وروى عن الفقيه والفيلسوف المحقق قطب الدين الرازي في سنة 776هـ.

وكذلك درس في مقام الخليل في مدينة الخليل بفلسطين حيث درس على الشيخ إبراهيم بن عُمر الملقب ببرهان الدين الجعبريّ شيخ مشيخة مقام الخليل بفلسطين، قرأ عليه الألفيه والشاطبية بمقام الخليل، وعلى الشيخ إبراهيم بن عبد الرحيم بن مُحمّد بن سعد الله بن جماعة الملقب ببرهان الدين، قرأ عليه الشاطبيّة كما صرّح بذلك الشهيد في إجازته لابن الخازن   . كما جاء في هذه الإجازة أيضاً ذكر شيوخه في الرواية من أهل المذاهب الأربعة وهم أربعون عالماً روى منهم صحيحي مُسلم والبخاري وسائر الصحاح والكتب المعتبرة وقد التقى بهم في بغداد، ومّكة، والمدينة، ومصر، ودمشق، وبيت المقدس، ومقام الخليل.

إلى أن يقول الشيخ الآصفي عن العلاقة ما بين فخر المحققين وتلميذه الشهيد الأوّل:    وفي غالب الظن أنّ الشهيد بقي على صلة روحيّة مع أستاذه حتى حينما إنتقل إلى جزين وأسس مدرسته الكبيرة، وكان بينهما ما يشبه المراسلة والمكاتبة.

والذي نفهمه مما تقدم أنّ مؤسس أول حوزة علميّة في جزين كان مُحيطاً بجميع علوم عصره النقليَّة والعقليَّة عن طُرق علماء الخاصَّة والعامّة كما كان مُجتهداً بها. ومصنّفاته خير دليل وشاهد على ذلك وأنّ تأسيسه لمدرسته الكبرى في جزين كانت في عام 771هـ، الموافق لسنة 1557م، أي قبل رحلته الثانيّة لطلب العلم عند جهابذة العلماء من أهل المذاهب الأربعة في مصر، والحجاز، وفلسطين، ودمشق. والله تعالى أعلم.

وأمّا طلابه والرواة عنه فقد قال الشيخ الآصفي:    ولم يقتصر الشهيد على التدريس في الحلّة أو في جزين في مدرسته الخاصة، وإنّما كان يقوم بالتدريس في رحلاته التي كان يقوم بها ما بين حين وآخر إلى الحجاز أو مصر أو سوريا أو فلسطين أو العراق أو غيرها من الأقطار الإسلاميّة.

كما جاء في موسوعة النجف الأشرف عنه:    أنّه كان مُجتهداً في البحوث التالية: الصرف، النحو، المنطق، الأصول...) وبالإجتهاد بالبحوث الفقهيّة على المذاهب الخمسة(الاثني عشريّة، الحنفيّة، المالكيّة، الحنبليّة، الشافعيّة)، ولم يتسنَّ الأمرُ لأحدٍ غيره من علماء المسلمين.

كما إمتاز الشهيد الأوّل    بمحاربة البدع والخرافات والغلو الذي ظهر على يدي رجل إدعى النبوة عن طريق الشعوذة وهو اليالوش، وأنتصر عليه وعلى جماعته في معركة الشهداء في النبطية الفوقا.

وقد جاء في سيرة الشهيد   :    وقدّر للشهيد أن يكوَّن لنفسه في الشام مكانة إجتماعيّة وفكريّة كبيرة، ويفرض نفسه على مجتمع(دمشق) بشكل خاص ومجتمع سوريا بشكل عام، وأن يَنفذَ إلى جهاز الحكم أيام المماليك كما يستغل ذلك لغاياته الإصلاحيّة، فقد كان الشهيد في دمشق على إتصال دائم بالحكام والأمراء والشخصيات السياسيّة البارزة في وقته، ونعرف ذلك من إقناع(الشهيد) الحكومة بمحاربة(اليالوش) المتنبي وأنصاره من الهمج الرعاع.

وكان بيته في دمشق (رحمه الله تعالى) ندوةً عامرةً لأصحاب الفضل والعلم وطلاب المعرفة ولعلماء  دمشق والأقطار المجاورة الّذين كانوا يزورون دمشق بين حين وحين أو يمرون عليها.

كما كان السُنَّة من أبناء المذاهب الأربعة يحضرون مجالسه العلميّة للدراسة عليه والرواية عنه، وللمناقشة ولحلِّ مشكلات الفقه، وللخوض في مسائل علم الكلام في كثير من الأحيان بعيداً عن إثارة النعرات الطائفيّة أو المذهبيّة.

وقد تآمر عليه بعض بقايا جماعة اليالوش إنتقاماً منهم لزعيمهم، وشهدوا عليه شهادة الزور مع بعض رجالات الدولة في دمشق وسجنوه وقتلوه دون محاكمة عادلة عام 786هـ، الموافق لعام1384م.

وكان الشهيد الأوّل   ، قبل ذلك بمدّة قد إعتذر عن تلبية دعوة الشيعة الإماميّة في بلاد خراسان وأميرهم عليّ بن المؤيد للسكن بين ظهرانيهم واستلام الافتاء والقضاء ومشيخة الإسلام مُرّجحاً البقاء في بلاد الشام عن السفر والإقامة في خراسان. وكتب لهم كتابه:    اللمعة الدمشقيّة) ليكون هذا الكتاب رسالة الشهيد العمليّة والمرجع لهم في أمورهم  الشرعيّة كما هو معروف في سيرته(رضوان الله تعالى عليه).

 

د ـ ومن أشهر من نبغ من علماء جبل عامل بعد الشهيد الأوّل من تلامذته وتلامذتهم:

    1ـ الشيخ نور الدين عليّ بن عبد العالي الكركيّ المشهور بالمحقق الثاني قدس سره، المتوفى في إيران سنة 940هـ، الموافق لسنة 1533م، والذي قصد أصبهان فأكرمه الشاه طهماسب الصفويّ غاية الأكرام، وجعل أمور الممالك الصفويّة بيده، وكتب إلى جميع عماله في البلاد بإمتثال ما يأمرهم به الشيخ   ، وأنَّ أصل الملك إنَّما هو له لأنَّه نائب الإمام المهديّ عليه السّلام، من آثاره في الفقه: شرح القواعد في ستة مجلدات، والرسالة الجعفريّة، ورسالة الخراج، ورسالة الرضاع، ورسالة الجمعة وغير ذلك والمحقق الثاني الكركيّ   ، هو أوّل من تولى ولاية الفقيه وكانت يده مبسوطة من فقهاء الشيعة الإماميّة الاثنى عشريّة في عصر الغيبة الكبرى كما هو معروف ومشهور في تأريخ التشيع، وتأريخ ايران.

والشيخ عبد العالي بن الشيخ عليّ بن عبد العالي الكركيّ العامليّ   ، من كبار فقهاء جبل عامل وأصبهان، توفي سنة 993هـ، الموافق لسنة 1585م، في أصبهان من آثاره في الفقه شرحه الكبير على رسالة الألفية، ورسالة عملية في فقه الصلاة اليوميّة، ورسالة في القبلة  وغيرهم من الأقطاب والذي يضيق المقام عن ذكرهم.

 

هـ ـ الشهيد الثاني زين الدين بن عليّ بن أحمد الجبعيّ العامليّ.

قال الحرّ العامليّ في ترجمته:    الشيخ الأجل زين الدين بن عليّ بن أحمد بن مُحمّد بن جمال الدين بن تقيّ الدين بن صالح(تلميذ العلاّمة) العامليّ الجبعيّ الشهيد الثاني.

أمره في الثقة والعلم والفضل والزهد والعبادة والورع والتحقيق والتبحر وجلالة القدر وعظم الشأن وجمع الفضائل والكمالات أشهر من أن يذكر، ومحاسنه وأوصافه الحميدة أكثر من أن تحصى وتحصر، ومصنّفاته كثيرة مشهورة.

روى عن جماعة كثيرين جداً من الخاصة والعامّة في الشام ومصر وبغداد والقسطنطينية وغيرها. 

وُلِدَ الشهيد الثاني في 13 شوّال سنة 911هـ، الموافق لسنة 1505م، في بلدة جُبعْ العامليّة، واستشهد يوم الجمعة في شهر رجب سنة 965م، الموافق لسنة 1557م، كما عن خط ولده الشيخ حسن قرب القسطنطينية. تعلّم القرآن الكريم وختمه في بلدته جُبعْ كما درس مُقدمات اللغة العربيّة والفقه على والده الذي فقده وهو في الرابعة عشرة من عمره فهاجر إلى بلدة ميس الجبل لطلب العلم على يدي الشيّخ عليّ بن عبد العالي الكركي    من سنة 925هـ، حتى سنة 933هـ، وبعدها هاجر إلى كرك نوح ليقيم بها ويدرس على يدي الشيّخ عليّ الميسيّ الذي تزوج الشهيد من إبنته كما حضر أبحاث السيد حسن مؤلف كتاب: (المحجّة البيضاء) في الأدب، والفقه، والأصول، والفلسفة، والكلام وغيرها من علوم كما تابع دراسته في دمشق لمدة سنة واحدة حضر فيها دروس المحقق الفيلسوف شمس الدين(مُحمّد بن مكيّ) فقرأ عليه علوم الطب، والفلسفة، والتصوف، وقراءات القرآن الكريم. كما درس صحيحي البخاري ومُسلم، والفقه على المذاهب الأربعة على علماء دمشق الأعلام، ومن أعظم مشايخه الآخرين كان الشيخ شمس الدين بن طولون الدمشقيّ الحنفيّ.

كما سافر إلى مصر لطلب العلم على كبار علمائها في عاميّ943هـ و944هـ، الموافق لعاميّ 1536م، و1537م،ولدراسة الفقه على المذاهب الأربعة، والقراءات السبع وغيرها من علوم الحديث، والتفسير، والمنطق، والفلسفة، والكلام، والطب، والهندسة، والرياضيات، والطبيعيات، والتصوف، وفلسفة الاشراق وغيرها من علوم، وقد حضر على ستة عشر شيخاً من كبار العلماء في عصره ذكرهم تلميذ الشهيد ابن العوديّ رحمه الله تعالى في كتابه عن سيرة أستاذه.

كما سافر الشهيد    إلى القسطنطينية سنة 952هـ، الموافق سنة 1545م، والتقى بقاضي العسكر مُحمّد بن قطب الديّن قاضي زاده الروميّ وعرض عليه بعض مؤلفاته فوقعت منه موقعاً حسناً وحصل له بسبب ذلك الاحترام والتقدير والموقع الحسن، وتكليفه بالتدريس وإدارة المدرسة النورية ببعلبك بمرسوم صدر من قبل السلطان سليمان العثمانيّ.

حيث إبتدأ   ، بالتدريس بها من سنة 953هـ، الموافق لسنة 1546م، إلى سنة 955هـ، الموافق لسنة 1548م، والإفتاء بها على المذاهب الخمسة.

ويقول تلميذه ابن العوديّ عن أيام أستاذه الشهيد في بعلبك:    ولا أنسى وهو في أعلى سنام، وَمرجِعَ الأنام، وملاذ الخاص والعام، يُفتي كل فرقة بما يوافق مذهبها. ويدّرس في المذاهب كُتبها وكان له في المسجد الأعظم بها درساً مُضافاً إلى ما ذُكِر، وصار أهل البلد كلهم في إنقياده، وهم وراء مُراده، بقلوب مُخلصة في الوداد، وحُسن الإقبال والإعتقاد، وقام سوق العلم بها على طِبقَ المراد، ورجعت إليه الفضلاء من أقاصي البلاد، ورقى ناموس السيادة والأصحاب في الإزدياد، وكانت عليهم تلك الأيام مثل الأعياد.

ومصنّفات الشهيد الثاني رضوان الله عليه خير دليل على معرفته بعلوم عصره وإجتهاده ونبوغه بها.

فلو أخذنا كتابه:    الروضة البهيَّة في شرح اللمعة الدمشقيّة، لوجدنا إجتهاد الشهيد الثاني واضحاً في علوم، اللغة العربيَّة، والفقه، والأصول، والحديث، والدراية، والرجال، والتفسير، والقراءات السبع، والرياضيات، وفي تحديده للفروض والمواريث الشرعيَّة، والفلك في تحديده لإتجاه الكعبة أعزها الله تعالى، وفي تحديده للقبلة في بلاد الشام، وفي بلاد العراق وكذلك لسائر البلاد الإسلاميّة المعروفة في أيامه، وكذلك تحديده للرؤية المعتبرة شرعاً للهلال وغيرها من مباحث. وكذلك إحاطته ومعرفته التّامة بالمذاهب الإسلاميّة الأربعة، وبفتاوى علماء الإماميّة ممن تقدمه وممن عاصره ومناقشته لتلك الفتاوى والمذاهب بروح علميّة بعيدة من التعصب والطائفيّة.

ولو رجعنا لسائر كتبه الأخرى لوجدنا معرفته التّامة وإجتهاده في علوم الكلام، والفلسفة، والتصوف، والطب، والهندسة وغيرها من علوم معروفة في عصره. بل لوجدنا أنّ الحرّ العامليّ في كتابه: أمل الآمل يدعي أنَّ الشهيد الثاني هو أوّل من صنّف من الإماميّة في دراية الحديث وعلومه.

وقد ترك الشهيد الثاني مائتي كتاب بخطه في مُختلف العلوم والفنون الآنفة الذكر.

وكان إستشهاد الشهيد الثاني   ، في يوم الجمعة في شهر رجب سنة 965هـ، الموافق لسنة 1557م، قرب القسطنطينية بدسيسة وإفتراء من قاضي صيدا الشيخ معروف التركي على الشهيد الثاني رضوان الله تعالى عليه حيثُ قُتِلَ من أحد قبل الجلاوزة غِيلةً ودون محاكمة، وعندما أُخذ رأسه إلى السلطان سليمان أنكر على قاتله ذلك وأمر بقتل ذلك القاتل بسعي من السيّد عبد الرحيم العبّاسيّ  الّذي أوضح حقيقة مظلوميّة الشهيد للسلطان.

 

و ـ مدرسة الشهيد الثاني  

كما ترك لنا رضوان الله تعالى عليه، مدرسة كبرى في جُبعْ، وفي جزين، وفي ميس الجبل، وفي كرك نوح، ومن خلال المدرسة النورية في بعلبك وغيرها من حواضر عامليّة مدرسة كبرى في الفقه والأصول، والاجتهاد على المذاهب الخمسة، وسائر العلوم الآنفة الذكر كان أقطابها ثلاثة علماء أعلام تابعوا مسيرة الشهيد الأوّل، والشهيد الثاني العلميَّة في بلاد الشام، وفي العراق، وفي إيران، وفي البحرين وغيرها من بلاد الإسلام خير قيام وكانت النواة الكبرى للعصر الذهبيّ في الفقه والأصول عند الإماميّة الاثنى عشريّة في القرون الأخيرة وهم:

1ـ الشيخ حسين بن الشيخ عبد الصمد الحارثيِّ الهمدانيِّ الجبعيِّ العامليِّ المتوفى في البحرين سنة 984هـ، الموافق لسنة 1576م، (( والد الشيخ البهائي )) كان متقدِّماً في العلم والاجتهاد على شيوخ عصره وكان     من أعاظم تلامذة الشهيد الثاني     وأشهرهم . كما كان مُقرباً إلى الشاه طهماسب الصفويِّ . ومن مصنفاته العقد الطهماسبي وقد صنفه للشاه طهماسب الصفوي والعقد الحسينيّ وحاشية الإرشاد وكتاب الأربعين حديثاً وغيرها من مصنّفات.

2ـ السيّد شمس الدين مُحمّد بن عليّ نور الدين بن عليّ ابن أبي الحسن الموسويّ العامليّ     المتوفى سنة 1009هـ، الموافق لسنة 1600م، وهو سبط الشهيد الثاني     . وقد هاجر مع خاله الشيخ حسن صاحب المعالم     سنة 993 هـ، الموافق لسنة 1585م، إلى النجف الأشرف للدراسة على يدي المحقّق المقدّس الأردبيلي المولى أحمد بن محمد     ومن أشهر كتبه مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام في العبادات في ثلاثة مجلدات وحاشية على ألفية الشهيد الأول      وحاشية على الروضة البهيَّة للشهيد الثاني      وشرح لكتاب: المختصر النافع للمحقق الحلّي .

3ـ الشيخ حسن بن الشهيد الثاني     المتوفى سنة 1011هـ، الموافق لسنة 1602م، درس في النجف الأشرف على المولى أحمد بن محمد المقدّس الأردبيلي . وقد صنّف     في أواخر القرن العاشر الهجري كتابه : معالم الدين وملاذ المجتهدين . مثّل فيه المستوى العلمي آنذاك بنحو أكمل وأدق وفتح فيه باب التحقيق في المسائل الأصولية بنحو أوسع ممّن تقدّمه . ونبّه الخواطر إلى ما ينبغي أن يُسلك . وهذا الكتاب الأصولي يعدّ خير ممثل للفكر العامليّ الأصولي ولحوزة النجف الأشرف أيام المقدّس الأردبيلي.

 

ز ـ المرأة في جبل عامل في المدة المؤرخ لها

            ومن خلال ما تقدم من تأريخ المرجعيّة الدينيّة في جبل عامل خلال قرنين نرى للمرأة العامليّة دوراً كبيراً في حفظ القرآن الكريم وتعلمه وفي دراسة النحو، والصرف، والشعر، والأدب، وا